في خطوة أعادت إلى الواجهة جدلًا دستوريًا وقانونيًا ممتدًا منذ سنوات، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات برئاسة المستشار حازم بدوي، الجدول الزمني والإجراءات التنظيمية لانتخابات مجلس الشيوخ المرتقبة، مع إعلان إشراف 10 آلاف و600 عضو من هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة على العملية الانتخابية، وذلك بعد خضوعهم لبرامج تدريبية “عن بُعد” تحت إشراف المستشار أحمد بنداري مدير الجهاز التنفيذي للهيئة.
اللافت أن هذه الانتخابات ستكون الأولى التي تُجرى دون إشراف مباشر من قضاة الجهات القضائية؛ كالقضاء العادي ومجلس الدولة، وهو ما يمثل تحولًا نوعيًا في آلية الرقابة على صناديق الاقتراع منذ بدء الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات في العام 2005.
ومع بروز هذا التغيير، تباينت مواقف المتخصصين والحقوقيين في حديثهم لـ فكر تاني حول مشروعية هذا الإشراف الجديد، ومدى مطابقته لمفهوم “الإشراف القضائي الكامل” كما عرفته مصر دستوريًا وديمقراطيًا، في ظل ما أعلنته الهيئة الوطنية للانتخابات بأن الانتخابات ستجرى تحت إشراف قضائي كامل.

الإشراف القضائي انتهى في 2024
الحقوقي البارز ناصر أمين مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، يؤكد في حديثه لـ فكر تاني، أن الإشراف القضائي على الانتخابات في مصر انتهى دستوريًا بشكل نهائي مع بداية عام 2024، بانقضاء المدة الانتقالية المنصوص عليها في المادة 210 من دستور 2014، والتي حددت سقفًا زمنيًا بمدة عشر سنوات للإبقاء على الإشراف القضائي الكامل كآلية استثنائية لحين استقرار آلية الإدارة المستقلة للانتخابات.
ويقول أمين إن الهيئة الوطنية للانتخابات بدأت بالفعل تطبيق النص الدستوري المُعدل، إذ تُدار الانتخابات حاليًا عبر الجهاز التنفيذي التابع للهيئة، تحت إشراف مجلس إدارتها، مع إمكانية الاستعانة بأعضاء من الهيئات القضائية، وهو ما يمثل – من وجهة نظره – تحولًا واضحًا من الإشراف القضائي المباشر إلى إشراف إداري صرف.
ويشدد أمين على أن الاستعانة بأعضاء من هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية لا يُعيد بأي شكل مفهوم الإشراف القضائي الكامل، معتبرًا أن من يُشرفون حاليًا على سير العملية الانتخابية “ليسوا قضاة بالمعنى القانوني والدستوري للكلمة، وإنما هم محامو الحكومة”، مشيرًا إلى أنهم يمثلون الدولة في المنازعات ولا يصدرون أحكامًا فاصلة فيها، ما يفقدهم صفة الحَكم القضائي المستقل، على حد قوله.
ويضيف: “الحديث الدائر إعلاميًا عن إشراف قضائي كامل هو أمر غير دقيق ولا سند له، لا في نصوص الدستور ولا في أحكام المحكمة الدستورية العليا، التي عرّفت القاضي بأنه من يفصل في الخصومة بحكم قضائي، لا من يتابع قضايا أو يمثل مصالح جهة حكومية أمام المحاكم”.
ومستعرضًا جذور الإشراف القضائي في مصر، يقول أمين إن ذروة هذا الإشراف جاءت في انتخابات مجلس الشعب عام 2005، والتي شهدت – بحسب تعبيره – اختراقًا مفاجئًا للمعارضة، تمثل في دخول 88 نائبًا من جماعة الإخوان إلى البرلمان، إلى جانب عدد من المستقلين والرموز الإصلاحية. ويضيف: “تلك الانتخابات جرت تحت إشراف قضاة من محكمة النقض، ومحاكم الاستئناف، ومجلس الدولة، وكان لوجودهم دور حاسم في ضبط النزاهة ومنع التلاعب”.

إلا أن هذا النجاح، وفق أمين، أثار قلق السلطة آنذاك من خطورة الإشراف القضائي المستقل، فتم تعديل الدستور في عام 2007 لإلغاء الإشراف القضائي الكامل واستبداله بلجنة عليا تتبع وزارة العدل، وهو ما مهّد، حسب وصفه، لأكثر انتخابات شابها التزوير في تاريخ مصر الحديث، وهي انتخابات مجلس الشعب عام 2010، التي أبطل القضاء الإداري نتائج أكثر من 600 دائرة منها بأحكام قضائية نهائية.
ويتابع الحقوقي البارز: “جاءت ثورة 25 يناير لتُعيد الإشراف القضائي مؤقتًا كأحد مطالب الثوار الأساسية، واستمر ذلك حتى صدور دستور 2014، الذي اختار عن عمد تحويل إدارة الانتخابات إلى هيئة وطنية دائمة ذات طابع مدني مستقل، على غرار ما هو معمول به في عدد من الديمقراطيات الغربية، من أجل تقليص تدخل الدولة والأجهزة الرسمية”.
لكن ما حدث، من وجهة نظره، كان عكس الفلسفة الدستورية المنشودة، موضحًا أن الهيئة الوطنية للانتخابات تحولت إلى كيان شبه حكومي، يُدار من خلال جهاز تنفيذي يُعينه رئيس الجمهورية، دون أن تُفعّل الرقابة الشعبية أو الحزبية أو الرقابة الدولية كما يجب.
ووفق أمين؛ فإن “الهيئة الوطنية للانتخابات الآن لا تُمثل الاستقلال كما أراده واضعو الدستور، بل باتت تُدار فعليًا من السلطة التنفيذية، في ظل غياب أي دور فعلي لممثلي القوى السياسية أو منظمات المجتمع المدني في الرقابة على العملية الانتخابية”.
ويعود ليؤكد على أن فقدان الإشراف القضائي الحقيقي يُشكل تراجعًا في ضمانات النزاهة، ويقول: “إذا أردنا انتخابات حقيقية تعكس الإرادة الشعبية، فعلينا العودة إلى إشراف قضاة المنصة المستقلين – لا مجرد موظفين قضائيين – وإعادة الاعتبار للمفهوم الجوهري للرقابة القضائية المستقلة، لا الاستمرار في تغليفه بإشراف إداري يُقدّم باعتباره قضائيًا على عكس حقيقته”.
فرق جوهري يعيدنا لتجربة 2005
هذا الفصل بين ما يتم على أرض الواقع وما يعنيه الإشراف القضائي يؤكد عليه أيضًا الخبير القانوني محمد حامد سالم المحامي بالنقض والدستورية العليا، فيستعرض في حديثه لـ فكر تاني، مدى اعتبار إشراف أعضاء هيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة إشرافًا قضائيًا كاملًا، في ظل تباين النصوص الدستورية والتطبيقات الواقعية.
وهو يحذر من خلط المفاهيم القانونية التي تُفضي إلى تمييع مبدأ “الإشراف القضائي المستقل” كما عرّفته الممارسة الديمقراطية والدستورية في مصر منذ عام 2005.

ويؤكد سالم أن المفهوم الأصيل للإشراف القضائي الكامل يتجسد في إشراف قضاة المنصة – أي أعضاء القضاء العادي ومجلس الدولة – على كل مراحل العملية الانتخابية، مشددًا على أن هؤلاء القضاة يتمتعون بدرجة عالية من الاستقلالية والحياد المؤسسي، تجعلهم الأقدر على ضمان النزاهة والرقابة الفعلية، بعيدًا عن أي تشابك إداري أو شبهات تضارب المصالح.
ويضيف أنه “حين يُحصر الإشراف في هيئات كالنيابة الإدارية أو هيئة قضايا الدولة، فإن ذلك يُفرغ المفهوم من مضمونه، خاصةً وأن هذه الهيئات – رغم أهميتها ووظيفتها القانونية – تظل في بنيتها الإدارية مرتبطة بمهام رقابية أو تمثيلية عن الدولة، وليس الفصل في الخصومات كما هو حال قضاة المنصة”، معتبرًا أن هذا التداخل قد يُلقي بظلال من الشك على حياد الإشراف، خصوصًا في استحقاق بالغ الحساسية كـ “الانتخابات البرلمانية”.
ويقول سالم إن القضاة الذين ينتمون إلى القضاء العادي ومجلس الدولة يتمتعون بما أسماه “الصفة القضائية الخالصة”، ما يمنحهم القدرة على الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، دون تأثر بأي تبعية إدارية، أو تداخل في الصلاحيات مع باقي مؤسسات الدولة. ويضيف: “هؤلاء القضاة هم فقط من يمكنهم تجسيد المفهوم الكامل للإشراف القضائي، الذي يشمل إدارة العملية، ومراقبتها، والفرز، والفصل في الطعون والنزاعات الانتخابية إن وُجدت”.
ويشير الخبير القانوني إلى أن الدستور المصري ذاته يفرّق في نصوصه بين ما يُسمى “جهات قضائية” و”هيئات قضائية”، وهو تفريق جوهري لا يمكن تجاهله، حيث قصر لفظ “القضاة” في مواضع متعددة على أعضاء القضاء العادي ومجلس الدولة، بينما وصف هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية بكونهما “هيئات” ذات طبيعة قانونية خاصة، دون أن يمنحهما ذات الخصائص القضائية في الفصل في المنازعات.
وبالتالي ووفق ما يوضح سالم، فإن إشراف هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية على العملية الانتخابية لا يُعد إشرافًا قضائيًا كاملًا، بل هو إشراف إداري محض يرتدي عباءة الإشراف القضائي، ولا يحقق الضمانة الدستورية والموضوعية التي كان يُراد لها أن تكون منذ عام 2005.

وفي السياق التاريخي، يستعرض سالم المراحل التي مرت بها منظومة الإشراف على الانتخابات في مصر، مشيرًا إلى أنه قبل العام 2005، كانت الانتخابات تُدار إداريًا في المقام الأول من قِبل موظفين عموميين، وكان حضور القضاة شكليًا أو رمزيًا في بعض اللجان، دون أن يكون لهم دور رقابي حقيقي. وأضاف أن تلك الحقبة اتسمت بضعف النزاهة والشفافية، وسط اتهامات متكررة بالتزوير وتوجيه إرادة الناخبين.
وتحت الضغط المحلي والدولي، حدث التحول الجذري في العام 2005، بأن تم إقرار الإشراف القضائي للمرة الأولى، وتم منح اللجنة العليا للانتخابات استقلالًا فعليًا في الإشراف والإدارة، تحت قيادة قضاة مستقلين تولوا عملية الإشراف على كل مراحل الانتخابات، بدءًا من الاقتراع وحتى إعلان النتائج.
و”كان ذلك إيذانًا بمرحلة جديدة اعتمدت على إشراف قضائي حقيقي لا يقبل التشكيك”؛ كما يقول سالم، الذي يوضح أن هذا النهج استمر حتى الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2024، والتي جرت – حسب وصفه – “تحت مظلة استثناء سياسي من قاعدة دستورية”، بعد أن نص الدستور في 2014 على انتهاء الإشراف القضائي الكامل بعد عشر سنوات، أي في عام 2024.
وينتهي المحامي الخبير بالنقض والدستورية العليا إلى التشديد على أن “إشراف الجهات القضائية المستقلة وحدها هو ما يُحقق مضمون الرقابة القضائية الكاملة”، مضيفًا: “إذا أردنا انتخابات نزيهة بحق، فعلينا أن نتمسك بما رسخته التجربة منذ 2005، لا أن نُسمي الأشياء بغير أسمائها، أو نمنح الإشراف الإداري صفةً قضائيةً لا تمثله”.
إداري مُغلف بعباءة قضائية
في حديثه لـ فكر تاني، يحذّر المحامي بالنقض والدستورية العليا صالح حسب الله الجبالي، من الخلط المتعمد بين الإشراف القضائي الحقيقي على الانتخابات وبين ما يصفه بـ”الإشراف الإداري المُغلّف بعباءة قضائية”، في إشارته إلى إشراك أعضاء من هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية في إدارة العملية الانتخابية.

ويؤكد الجبالي أن إشراف هاتين الهيئتين لا يُحقق مفهوم الإشراف القضائي المستقل كما نص عليه الدستور ومارسته مصر خلال الفترات الديمقراطية القصيرة، موضحًا أن تبعية النيابة الإدارية وقضايا الدولة إداريًا لوزير العدل يُفقد أعضاءها الاستقلالية المطلوبة، ويجعل إشرافهم امتدادًا للإرادة التنفيذية لا للقضاء المستقل.
ويقول الجبالي: “الهيئتان ليستا جهتين قضائيتين تفصلان في الخصومة، بل تمثلان الطرف الإداري في النزاع، ولهما طبيعة قانونية مختلفة عن القضاء العادي أو مجلس الدولة، اللذين يمثلان قضاة المنصة المخولين بالفصل في المنازعات. ومن الخطورة بمكان أن يتم التسويق لهذا النوع من الإشراف الإداري على أنه إشراف قضائي”.
ويؤكد الجبالي أن الشفافية لا تُبنى على الأسماء أو المسميات، بل على الضمانات الحقيقية للاستقلال والحياد، معتبرًا أن إدخال أعضاء من هيئات لا تتمتع بالصفة القضائية الكاملة في إدارة العملية الانتخابية يُعيد مصر إلى مرحلة ما قبل 2005، حين كانت الانتخابات تُدار إداريًا، دون إشراف فعلي من قضاة مستقلين.
وهو أيضًا يشدد على أن على الدولة إن أرادت انتخابات نزيهة بحق، أن تُعيد الإشراف إلى قضاة المنصة، وأن تتوقف عن توظيف الهيئات القضائية كغطاء لإدارة انتخابية ذات طابع تنفيذي.
قضائي بتطور النظرة الدستورية
في المقابل، يقول المستشار محمد شعبان وكيل النائب العام السابق، إن الجدل الدائر بشأن مدى اعتبار إشراف أعضاء هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة على الانتخابات بمثابة إشراف قضائي، يجب ألا يُقرأ بمعزل عن التطور التاريخي والدستوري لمفهوم “الهيئات القضائية” في مصر، مؤكدًا أن الاعتراف بصفتهما القضائية قد مر بعدة مراحل وانتهى إلى حسمٍ واضح في دستور 2014 والممارسة القضائية اللاحقة.

ويروي المستشار السابق، في حديثه لـ فكر تاني، واقعة قضائية ذات دلالة عميقة، حين أصدر المستشار حسام الغرياني الرئيس الأسبق لمحكمة النقض والمجلس الأعلى للقضاء، حكمًا شهيرًا – حينما كان يرأس إحدى دوائر محكمة النقض – قضى فيه ببطلان انتخابات مجلس الشعب في دائرة النائب زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية آنذاك في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك.
ويشرح شعبان أن هذه القضية دارت في ظل العمل بدستور 1971، الذي نص في مادته (88) على أن يتم الإشراف على الانتخابات من قبل “الهيئات القضائية”، قبل أن يُعدل القانون لاحقًا عام 2000 ليُشدد على الإشراف بأن يكون هناك قاضيًا على كل صندوق انتخابي. غير أن الإشكالية ظهرت حين تبين أن العضو المشرف على الانتخابات في دائرة زكريا عزمي آنذاك كان من هيئة قضايا الدولة، وهو ما اعتبره المستشار الغرياني غير متوافق مع النص الدستوري، مؤكدًا في حيثيات حكمه أن هيئة قضايا الدولة ليست من ضمن “الهيئات القضائية” المقصودة، بل هي هيئة إدارية تتبع وزارة العدل، وهو ما أدى إلى الحكم ببطلان العملية الانتخابية في تلك الدائرة.
ويضيف شعبان أن هذه الواقعة مثلت نقطة تحول، إذ عُرض الأمر لاحقًا على المحكمة الدستورية العليا في دعوى تفسير، والتي جاء حكمها حاسمًا عندما أكدت أن مفهوم “الهيئات القضائية” لا يقتصر فقط على الجهات التي تفصل في المنازعات، بل يشمل أيضًا الهيئات التي تسهم في تحقيق العدالة بحكم وظائفها القانونية والرقابية، ومن بينها النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة.
وبهذا الحكم، توسع التفسير الدستوري ليشمل الهيئتين ضمن “الهيئات القضائية”، استنادًا إلى طبيعة المهام المسندة إليهما واستقلال أعضائهما.
ويوضح شعبان أن هذا التفسير وجد صداه لاحقًا في دستور 2014، والذي جاء ليُقر صراحةً – في الفصل الخاص بالهيئات القضائية – أن كلًا من النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة هما من مكونات السلطة القضائية، ويتمتع أعضاؤهما بالضمانات والحقوق والواجبات ذاتها المقررة للقضاة، الأمر الذي أغلق باب الجدل حول طبيعتهما القانونية، ووضعهما في مصاف الهيئات القضائية المعترف بها دستوريًا.
ويلفت إلى أن المادة (210) من دستور 2014، بعد أن ألغت الإشراف القضائي الكامل بنهاية الفترة الانتقالية البالغة عشر سنوات، أباحت للهيئة الوطنية للانتخابات الاستعانة بأعضاء من الهيئات القضائية – بما في ذلك قضايا الدولة والنيابة الإدارية – في الإشراف على الاقتراع والفرز. وهو ما يعني أن وجود عضو من إحدى هاتين الهيئتين على كل صندوق انتخابي يُعد إعمالًا للإشراف القضائي من حيث المضمون، وليس تقليصًا له، لا سيما وأن الدستور ذاته يُقر بصفتهما القضائية.
إشراف قضائي كامل لا لبس فيه
هذه النظرة يؤيدها أيضًا المستشار عصام رفعت القاضي السابق بمجلس الدولة، فيقول في حديثه لـ فكر تاني، إن الإشراف القضائي على الانتخابات في مصر كان ولا يزال مطلبًا شعبيًا جوهريًا، ارتبط بمراحل التحول السياسي والدستوري في البلاد منذ أول تجربة انتخابية رئاسية في عام 2005، وحتى الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2024، التي جرت باستثناء دستوري بإرادة رئاسية.

ويوضح رفعت أن “الإشراف القضائي الكامل” يختلف جوهريًا عن “الإشراف القضائي الجزئي”، مشيرًا إلى أن البداية كانت في انتخابات 2005، التي خاضها الرئيس الراحل حسني مبارك، حيث اقتصر الحضور القضائي على اللجان العامة، بينما كانت اللجان الفرعية تُدار بموظفين إداريين، وهو ما أطلق عليه آنذاك وصف “الإشراف شبه القضائي”.
وقد كان ما شهدته تلك الانتخابات وما أعقبها من أحداث، خاصةً في انتخابات مجلس الشعب 2010 التي يصفها رفعت بـ”الفجّة”، سببًا في تزايد مطالب القضاة بالابتعاد عن المشاركة، نتيجة ما شاب العملية الانتخابية وقتها من تلاعبات ومنع للمواطنين من الإدلاء بأصواتهم، إلى حد أن مجلس الدولة أصدر ما يقرب من 11 ألف حكم ببطلان نتائجها.
ويشير القاضي السابق إلى أن شرارة ثورة 25 يناير حملت مطلبًا واضحًا لدى جميع القوى السياسية والشعبية، وهو إجراء الانتخابات تحت إشراف قضائي كامل، وبالفعل بدأ هذا النهج يتجسد عمليًا منذ استفتاء مارس 2011 على التعديلات الدستورية، حيث أُسندت مهمة الإشراف إلى اللجنة العليا للانتخابات برئاسة رئيس محكمة استئناف القاهرة وعدد من القضاة، واستمر ذلك في استحقاقات مجلسي الشعب والشورى والانتخابات الرئاسية في عامي 2011 و2012، مع تطبيق نظام الفرز في اللجان العامة، ثم تعديله لاحقًا للفرز باللجان الفرعية بحضور مندوبي المرشحين.
ويؤكد رفعت أن من أهم ضمانات النزاهة التي ترسخت في تلك المرحلة، تسليم نسخة من محضر الفرز لكل مندوب مرشح، وهو ما عزز من الثقة في نتائج الانتخابات، مضيفًا أن الدستور الصادر عام 2014 حدد بوضوح نهاية الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات بعد عشر سنوات من نفاذه، أي بحلول عام 2024، وكذلك إنهاء نظام ندب القضاة خلال خمس سنوات لتُناط المهمة بـ”إدارة شؤون العدالة”، مع تأكيد أن السلطة القضائية تشمل فقط القضاء العادي والنيابة العامة ومجلس الدولة، وهي الجهات القضائية الوحيدة التي نص عليها الدستور صراحة باعتبارها “جهات” وليست “هيئات” تتبع إدارياً وزارة العدل.
وهنا ميّز الدستور بين “الجهات القضائية” و”الهيئات القضائية”؛ فالأخيرة – مثل هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية – كانت تأمل أن تُدرج ضمن باب السلطة القضائية كي تحظى بالضمانات والحصانات ذاتها، وهو ما تحقق لاحقًا ضمن إجراءات مكملة أفرغت لها صفة قضائية واضحة.

ويضيف رفعت أن إشراف القضاة على الانتخابات انتهى دستوريًا في 2024، لكن خلال جلسات الحوار الوطني التي انطلقت قبل نحو عامين، طرح المشاركون وعلى رأسهم الأمانة الفنية بقيادة المستشار محمود فوزي وزير الدولة لشؤون المجالس النيابية حاليًا، مطلبًا بإبقاء الإشراف القضائي الكامل، وهو ما استُجيب له سياسيًا، حيث قرر رئيس الجمهورية استثناء هذا النص والسماح بمواصلة الإشراف الكامل في انتخابات 2024.
ويشدد القاضي السابق على أن ما جرى في الانتخابات الأخيرة يُعد إشرافًا قضائيًا كاملًا لا لبس فيه، ما دامت الجهات القضائية والهيئات القضائية شاركت به، وجرى توزيع القضاة على اللجان العامة والفرعية كافة، موضحًا: “العضو القضائي، سواء من جهة قضائية أو هيئة قضائية، هو الذي يعطي العملية الانتخابية صفة النزاهة الحقيقية، لا موظفو الجهاز الإداري للدولة”.
ويشير القاضي السابق إلى أن الهيئة الوطنية للانتخابات – التي استحدثها دستور 2014 كبديل للهيئة القضائية السابقة – تنفذ إجراءات مشددة في تنظيم الاستحقاقات. ومع ذلك، فإن استمرار إشرافها على الانتخابات يظل استثناءً من الأصل العام المقرر دستوريًا، ما دام يتم بإرادة سياسية استجابت للمطلب الشعبي المشروع، ويُنفذ من خلال الجهات والهيئات القضائية دون تمييز.
ويؤكد رفعت أن إشراف أعضاء هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية على الانتخابات يُعد من الناحية الدستورية والقانونية إشرافًا قضائيًا كاملًا، طالما أن الهيئتين أُدرجتا في باب السلطة القضائية بالدستور، وتم النص صراحة على تماثل الضمانات والحصانات والمخصصات بين أعضاء الهيئات القضائية والجهات القضائية دون تمييز.
ويضيف أن مفهوم “الإشراف القضائي الكامل” لا يتوقف عند قضاة مجلس الدولة أو القضاء العادي فقط، بل يشمل كل أعضاء الجهات والهيئات القضائية الذين يتمتعون بذات الصفة القضائية في نظر الدستور، طالما أن عضويتهم في هذه الهيئات مُنحت بموجب نصوص دستورية وقانونية صريحة. ومن ثم، فإن وجود أعضاء من هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية على كل صندوق انتخابي، سواء في اللجان الفرعية أو العامة، يُحقق الشرط الموضوعي والشكلي للإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية.
