أمامنا مشهدان يتجسَّد فيهما الإخفاق، عاريًا فاحشًا، ويتبدى فيهما الفشل وقحًا مفضوحًا، لكن المتسببين مُباشرةً عنهما، لا يضعون في عيونهم "حصوة ملح"، بل تأخذهم العزة بالإثم، فيرفضون الاعتراف بتقصيرهم، أو حتى مناقشتهم في ما جنت أياديهم.
الأول مشهد خروج النادي الأهلي المهين، من كأس العالم للأندية بالولايات المتحدة، والثاني حادثة الطريق الإقليمي بالمنوفية، وكلاهما يتماهى مع طبائع "الجمهورية الجديدة"، التي تحتفل بثورتها في الثلاثين من يونيو المجيدة؛ الثورة التي أنقذت البلاد والعباد، من الجماعات الإرهابية الحقودة، وبالتوازي تزأر في وجه كل من ينبس بمحض حرف نقدًا: "اذكروا الإنجازات".
قبيل طيران فريق الأهلي المصري، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كان الإعلام المُعبِّر عن القلعة الحمراء، يغني على الربابة ويقرع الطبول والدفوف، تبشيرًا بالإنجاز الذي سينتزعه "نادي القرن الإفريقي" من بين أنياب عظماء اللعبة في العالم.
الإدارة بقيادة النجم الأسطوري؛ محمود الخطيب، استبقت البطولة بأن أنفقت بسخاء على تعاقدات معتبرة ومدوية، فحصلت على خدمات لاعب الزمالك "زيزو"، ومن قبله بن شرقي وتريزيجيه، واستعادت المالي إليو ديانج، غيرهم من نجوم الصف الأول، كما تعاقدت مع مدير فني إسباني، قيل إنه ذو نزعة هجومية، وسيحقق طفرة فنية مع الفريق المدجج بالنجوم.

لكن ذلك كله كان "جعجعةً بلا طحين"، فالفريق لم يحصد سوى نقطتين يتيمتين من تعادلين وهزيمة، رغم أنه كان أدنى في التعادل الأول إلى الفوز، لولا أن لاعبًا تقدَّم لتسديد ضربة جزاء، بالمخالفة لتعليمات المدير الفني فأهدرها، وكذلك كان أقرب إلى الفوز في التعادل الثاني، لولا أن لاعبيه فرطوا برعونة في فرص ليس معقولًا أن يضيعها محترفون، يحصلون على عشرات الملايين من الجنيهات سنويًا.
المباراة الأولى يتبدى فيها الفشل الإداري، من جراء عدم الالتزام من قبل لاعب بتعليمات مدربه، وفي الثانية يتأكد الفشل الفني الجسيم.
لكن رجوع الأهلي من الولايات بخفي حنين، لم يدفع مجلس إدارته إلى تحمل مسؤولياته بشجاعة ونزاهة، فإذا بمقدمي البرامج الرياضية على شاشة النادي الفضائية وغيرها، يطنطنون بأن الفريق قد مثَّل الكرة المصرية "تمثيلًا مشرفًا"، واحمدوا ربنا "مش أحسن من الإسماعيلي والاتحاد"؟.
عوامل موضوعية لتفسير الفشل المونديالي
صحيحٌ أن هنالك عوامل موضوعية، وربما خارجة عن إرادة واستطاعة مجلس الإدارة، قد تُفسّر الإخفاق، منها عدم تجانس اللاعبين الذين تعاقد معهم مؤخرًا، فضلًا عن أن المدير الفني الجديد، قد جاء من "الدار للنار"، فلم يتمكن من عمل معسكر إعداد، أو ما شابه ذلك من ترتيبات لازمة قبيل بطولة كبيرة، وكذلك قد يستساغ الدفع بأن المدير الفني السابق؛ مارسيل كولر، قد حطم الروح المعنوية لعدد من النجوم الذين يعتبرون رمانة ميزان الفريق، والمنطقي أن استعادة مستواهم الفني والبدني يتطلب وقتًا.
لكن ما هو ليس موضوعيًا وليس مستساغًا وليس مقبولًا؛ تلك الحفلة التنكرية التي يلبس الفشل فيها أثواب الإنجاز.
تذيُّل الفريق مجموعته التي كانت الأضعف، أو من أضعف المجموعات في البطولة، ليس يعد بأي حال من الأحوال، تمثيلًا مشرفًا.

عدم الاعتراف بالخطأ، بل وتسويقه في إطار كونه إنجازًا، ليس فعل إدارة رشيدة، تعتبر الخطأ درسًا للتعلم منه، بما يكفل عدم الانزلاق إليه مستقبلًا.
مؤسفٌ ومخزٍ أن يجري تجييش الإعلام الناطق باسم الفريق الأعلى شعبية، والأكثر هيمنة على الخطاب الإعلامي المصري، للدفاع عن الإخفاق، تحت هرطقات لزجة من قبيل أن منتقدي الفشل، هم "أهل الشر" من مشجعي المنافس الأول؛ الزمالك، "عواجيز الفرح" الذين لم يشموا أبدًا رائحة المونديال، فإذا بهم يحاكون الثعلب الذي لم يبلغ عنقود العنب -في حكاية الطفولة- فقال إنه حامض.
هذا الأمر لا يعني شيئًا إلا أن الإدارة الحمراء، تمارس مع سبق الإصرار، التدليس لإخفاء عوراتها الإدارية، وإخفاقات الفريق الفنية.
في المسألة الفنية، بدا واضحًا أن لاعبي الأحمر لم يكونوا جاهزين بدنيًا، وظهرت فجوات واسعة في التمركز في نصف الملعب، فضلًا عن الثلث الدفاعي الأخير.
كان دفاع الأهلي شوارع بغير إشارات حمراء، لكل من هبّ ودبَّ، في حين أظهرت حالة هدر الفرص السهلة، افتقار المهاجمين للثبات الانفعالي أمام الثلاث خشبات، وقد انسحب ذلك على المهاجمين الجدد والقدامي، باستثناء الفلسطيني وسام أبو علي، الذي ينتمي إلى "قماشة مختلفة"، كما كان المرحوم ميمي الشربيني؛ صاحب المصطلحات البديعة يصف أفذاذ المستطيل الأخضر.
غابت الشخصية الفنية للأهلي، وتلاشت روح "الفانلة الحمراء"، في الولايات المتحدة، وظهر أن هناك خللًا فادحًا في توظيف الصفقات الجديدة، أو قُل بتعبير اقتصادي؛ في استثمار الثروة البشرية للنادي.
النتائج المخيبة للآمال خرجت إذن، من رحم أداء خائب متهافت، خرج بدوره من رحم إدارة متخبطة.
ظاهرة مصرية في كل المجالات
يبدو المشهد بأسره آفة مصرية مستحكمة، أو قُل متلازمة تنسحب على جميع المجالات، وليس كرة القدم وحدها.
خُذ مثلًا؛ حين ترفع الحكومة أسعار المحروقات أو المواصلات أو تخفض الدعم المستحق للطبقات الأشد فقرًا، فتلوذ بالحيلة ذاتها.
الأبواق الإعلامية هنا وهناك، تُزَّمر وتطنطِّن بأن الأسعار في مصر هي الأرخص عالميًا، مع مجافاة واقع تدني الأجور، وتُختزل المشكلة بالتوازي، في أن المواطن يريد من الحكومة أن تكون "بابا وماما"، دون أن يعمل أو يجتهد، متناسيًا "الإنجازات الكبرى" التي تحققت في الحقبة الميمونة.

المواطن المطحون لن يحس بجدوى أي إنجاز، مهما كان كبيرًا، متى ينخلع قلبه إذ يرى في عيني فلذة كبده، رغبةً في قطعة حلوى، ثمنها ليس في جيبه.
وحتى حين يشهد طريق سيئ السمعة، لحد أنه يُسمى على نطاق شعبي بـ"طريق الموت"، حادثًا مروعًا فيقطف أرواح 18 فتاة وسائق، فيدمي وجدان مصر، ويقيم سرادقات العزاء في صدور شعبها، يهرع المتحدثون باسم الحكومة إلى الحديث عن "إنجازات" شبكة الطرق الكبرى، التي يقول وزير المواصلات؛ كامل الوزير، إنها تكلفت 1.7 تريليون جنيه خلال الفترة ما بين عامي 2014 و2024.
حسنًا.. ما المحصلة والأثر الإيجابي؟
الشبكة الرهيبة العظيمة التي لا مثيل لها، تبدو مفتقرةً إلى شروط السلامة، والدليل وفق إحصائيات رسمية وغير رسمية، أن عدد الذين أُزهقت أرواحهم على الأسفلت، خلال العام الماضي بلغ نحو 5500 ضحية، ناهيك عن ما لا يقل عن 70 ألف مصاب.
الأنكى أن الوزير الذي كان يُنتظر منه التقدم باعتذار، أو على الأقل مكاشفة الرأي العام بالأسباب الموضوعية لتهالك طريق، افتُتح قبل ثمانية أعوام، أعرب عن الأسى من جراء النقد الذي طاله، فتحدث عن كفاءته وجدارته الشخصية قائلًا: "اسألوا عني أساتذتي وزملائي في الكلية الفنية العسكرية"، وقال أيضًا: إنه يشعر بغضاضة من النقد.. لكنه ضم الغين عوضًا عن فتحها!

يشعر الوزير الذي كان طالبًا نابهًا في الكلية الفنية العسكرية، والفخور بأنه مقاتل لن ينسحب فيترك مقعده أو بالأحرى مقعديه الوزاريين إلا بالموت بـ"غُضاضة" إزاء النقد، فهل يشعر أو حتى يتخيل النيران التي تتضرم في قلوب الأمهات الثكالى والآباء المكلومين؟
ليس في طرح السؤال "قلة أدب"، وليس فيه أي درجة من درجات "الغُضاضة".
الشواهد تؤكد أن الطريق "عليه لعنة"، حتى إن الوزير الذي تكرّم بقطع زيارته إلى تركيا، فسارع إلى تفقد الطريق ما إن هبطت طائرته أرض القاهرة، رأى بأم عينيه لدى جولته التفقدية حادثًا "عاديًا أو مألوفًا متكررًا"، فإذا به "يغض" طرفه، ويواصل حديثه إلى "وش فتة التوك شوك"؛ نشأت الديهي عن الإنجازات، من دون "غُضاضة".
كما يستغرق مسؤولو الأهلي في حديث الإنجازات في "عز الفشل"، يتحدث الوزير عن الإنجازات الكبرى لوزارته، والحديث هنا وهناك يجافي أن لكل مقام مقالًا، كما يجافي واقع الحال في لحظة الإخفاق على الضفتين.
هو الحال في "الجمهورية الجديدة"، والظاهر أن مناخ الشأن العام المصري، في شتى ملامحه ومظاهره، بحاجة ماسة إلى إعادة تعريف ماهية الإنجاز وماهية الفشل، بعيدًا عن "متلازمة اذكروا الإنجازات" أو اخرسوا!
كانت صفقات الأهلي "المدوية"، أشبه ما تكون بالأصداف التي يلتقطها الأطفال من على رمال السواحل، محض أحجار لا قيمة لها في مواجهات المونديال، برغم ألوانها الزاهية، وكذلك لم تقلل المليارات التي أريقت على مشروعات الطرق، من جريان دماء الأبرياء المساكين، هدرًا على الأسفلت.
هذا وذاك فشل يستدعي الاعتراف به من قبل المسؤولين عنه أولًا، ثم محاسبة هؤلاء بشفافية، عبر الوسائل الدستورية والشرعية، ذلك إذا كانت هنالك بصدقٍ نيةٌ للإصلاح.. إذا.