في جلسة وصفتها النائبة مها عبد الناصر بأنها "الأكثر اشتعالًا خلال فصل تشريعي كامل"، تحولت قاعة البرلمان إلى ساحة مواجهة صريحة بين الحكومة وجبهة من النواب المعارضين لمشروع قانون الإيجار القديم. وقد بلغ الصراع الذي أشعله مشروع القانون نفسه، ذروته عندما تبين أن الحكومة حضرت لمناقشته دون أن تأتي بـ"البيانات المطلوبة"، وهو ما استدعى تدخلًا من رئيس البرلمان لتأجيل الجلسة إلى الغد، في انتظار أن تفي الحكومة بوعدها.
الإيجار القديم.. مشروع القانون و"ألغامه"
تعود جذور المواجهة الساخنة إلى مشروع القانون الذي قدمته الحكومة، ويستهدف تغيير وجه العلاقة الإيجارية بشكل كامل. فبينما حددت المادة (1) نطاق سريان القانون على عقود الإيجار القديم السكنية وغير السكنية، ووضعت المادة (3) آلية فنية لتشكيل لجان حصر لتقسيم المناطق إلى "متميزة ومتوسطة واقتصادية"، كانت هناك مواد أخرى بمثابة ألغام قانونية فجرت غضب النواب المعارضين.
كانت الشرارة الأولى هي المادة (2)، التي نصت صراحة على إنهاء إجباري للعقود، بحيث "تنتهي عقود إيجار الأماكن السكنية بعد سبع سنوات وعقود الأماكن غير السكنية بعد خمس سنوات"، وهو ما اعتبره النواب "طردًا" للمستأجرين.
أما الصدمة الثانية فجاءت في المادتين (4) و(5)، اللتين فرضتا زيادات مالية ضخمة. فقد قضت المادة (4) بزيادة الإيجار السكني إلى "عشرين مثل القيمة الإيجارية" في المناطق المتميزة و"عشرة أمثال" في المناطق الأخرى وخمسة أمثال الأماكن لغير غرض السكن. ثم أضافت المادة (6) عبئًا جديدًا بفرض "زيادة سنوية دورية بنسبة 15%" على هذه القيم الجديدة، وهي الأرقام التي أثارت تساؤلات النواب حول قدرة المواطنين على تحملها.
جبهة الرفض بالبرلمان.. الحكومة في قفص الاتهام
لم يكد يُعرض مشروع القانون حتى انطلقت أصوات المعارضة بهجوم كبير، لم يترك جانبًا من جوانب القانون المقترح أو أداء الحكومة إلا وانتقده بحدة، واضعًا إياها في قفص الاتهام من زوايا متعددة.
"ضد طرد المستأجرين"
كانت "المادة الثانية" التي تقضي بإنهاء العقود هي نقطة التفجير الأولى. ورغم إعلان النائبة مها عبد الناصر عضوة الهيئة البرلمانية عن الحزب المصري الديمقراطي، اتفاقها مع "حكم المحكمة الدستورية، ومع حقوق الملاك وأن يتم تحرير القيمة الإيجارية"، إلا أنها أعلنت رفضها القاطع لهذه المادة الجدلية، قائلةً في تصريحات خاصة لـ فكر تاني: "أرفض المادة الثانية التي تنص على طرد المستأجرين بعد سبع سنوات".

وقد تساءلت النائبة، في تصريحات خاصة لـ فكر تاني، عن منطق الحكومة قائلة: "القيمة الإيجارية ستزيد بعد تحرير القيمة الإيجارية، وبالتالي ما الهدف من إخراج السكان من منازلهم؟". وشددت على ضرورة حماية المستأجر الأصلي وأسرته، خاصةً وأن "أغلب السكان اقتربوا أو بالفعل على سن المعاش"، متسائلة بقلق: "وإلى أين سيتم نقلهم؟".
ولم تكتف بذلك، بل شككت في وعود الحكومة قائلة: "وإذا فرضًا صدقت الحكومة - ونحن لا نثق في كلام الحكومة - في أنها ستوفر لهم سكن بديل، كيف لهم أن يسكنوا في أماكن جديدة وربما بعيدة عن أماكن سكنهم التي اعتادوا عليها طوال حياتهم؟".
وقد أيد هذا التوجه النائب إيهاب منصور وكيل لجنة القوى العاملة رئيس الكتلة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، مُقرًا بأن "فئة كبيرة من الملاك قد تعرضت لظلم بيّن"، لكنه حذر من ظلم أكبر يلوح في الأفق، قائلاً: "على الطرف المقابل هناك فئة كبيرة من المستأجرين قد تتعرض لظلم أكبر بفقد أحد مقومات الحياة الأساسية وهو السكن الكريم، خاصةً وأن من بينهم نسبة كبيرة بلغت من العمر ما يصعب معه التعرض للطرد أو الانتقال لمكان آخر للسكن في هذه المرحلة الحرجةً من حياتهم".
"من أين لهم دفع هذا الإيجار؟"
انتقل الهجوم إلى الأثر المالي الكارثي الذي سيخلفه القانون على الفئات الضعيفة. وقدمت مها عبد الناصر مثالًا حسابيًا صارخًا في هذا الشأن، حين قالت: "إذا كانت الشقة إيجارها 200 جنيه، وسيتم ضرب المبلغ في 20 ضعف، أصبح الإيجار 4000 جنيه، من أين يستطيع الساكن الذي يحصل على معاش تكافل وكرامة أن يدفع الإيجار؟ ولا هيترموا في الشارع؟".

وموضحة المأزق، أشارت: "من يحصل على معاش لا يتجاوز 4000 جنيه، بالكاد يمكنه توفير حق الدواء، من أين لهم أن يدفعوا هذا الإيجار؟". واقترحت حلاً عملياً عبر مطالبة "صندوق الإسكان الاجتماعي بدفع فروق القيم الإيجارية، للملاك".
وهو نفس ما أكد عليه إيهاب منصور، الذي شدد على "ضرورة أن تتحمل الدولة نصيبها من أعباء حل تلك المشكلة التاريخية بدعم الفئات الأولى بالرعاية باستخدام مخصصات صندوق الإسكان الاجتماعي في تحمل جزء من فروق الزيادة السنوية".
"أهالينا تحت الأنقاض"
تجاوز النقد بنود القانون ليصل إلى اتهام مباشر للحكومة بالفشل والتقصير في واجباتها الأساسية. وقد أشار إيهاب منصور إلى أن "الحكومات المتعاقبة تخلت عن دورها في توفير المسكن الملائم والصحي والآمن طبقا للمادة 78 من الدستور". ولم يكتف بذلك، بل فتح ملفًا آخر أكثر خطورة، وهو إهمال صيانة المباني، قائلًا إن "محافظة القاهرة فقط بها 5000 مبنى شديد الخطورة، والإسكندرية بها 24 ألف مبنى معرض للسقوط"، ووجه سؤالًا لاذعًا للحكومة: "ماذا أنتم فاعلون وأهالينا تحت الأنقاض؟".
"الحكومة التي لا تعرف"
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي قضية البيانات الغائبة، والتي كشفت عن عمق أزمة الثقة. فخلال جلسة النواب، قال إيهاب منصور إن "مشروع القانون يمس ملايين المصريين... لذلك لا بد أن يبنى على قاعدة بيانات دقيقة وتفصيلية ومحدثة، أما المطروح الآن فهو مشروع قانون مبنى على بيانات قديمة من 8 سنوات". ووجه سؤالًا استنكاريًا للحكومة لإثبات جهلها بالواقع: "هل تعرفوا كام واحد تكافل وكرامة؟ ورد: الإجابة أن الحكومة لا تعرف".
وأكدت مها عبد الناصر النقطة نفسها، قائلة إن "الحكومة لم توفر البيانات، كالمعتاد"، وهو ما دفع رئيس المجلس في النهاية إلى تأجيل كل شيء لجلسة الغد.
"الأغلبية الملكية أكثر من الملك"

لم يقتصر الهجوم على الحكومة وحدها، بل امتد ليشمل نواب الأغلبية أنفسهم، حيث كشف النائب أحمد بلال نائب رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع عن سبب آخر لما وصفه بـ"حالة الجدل الواسعة"، وهو أن "البعض من أحزاب الموالاة لا يريدون سماع نقد للحكومة".
ووصف بلال رد فعلهم بأنه "حالة من الهياج لنواب الأغلبية غير طبيعية" كلما تم انتقاد القانون، وتساءل مستنكرًا: "لماذا يدافع النواب عن الحكومة، ما الحكومة تدافع عن نفسها، لماذا نكون ملكيين أكثر من الملك؟".
وشدد بلال، في حديثه لـ فكر تاني، على أن جوهر الخلاف ليس في المبدأ، مستشهدًا بدراسة لمركز البحوث الجنائية والاجتماعية، وموضحًا أن "القيمة الإيجارية يجب أن ترتفع، وهو ما يتفق عليه نواب الأغلبية ونواب المعارضة"، ولكن النقطة الفاصلة هي أن "المستأجرين ليسوا ضد رفع قيمة الإيجار، إنما ضد طردهم من مساكنهم".
وحول نهاية الجلسة، قدم بلال رواية مختلفة، موضحًا أنها "لم تؤجل، وإنما رفعت في ميعادها... لأن وقت الجلسة اليومي لا يكفي لسماع كل النواب، وهذا يجعل الجميع يعبرون عن رأيهم بشكل جيد".

"تسقط الحكومة ومعها القانون"
لم تقف "المشادات الساخنة" عند حدود النقد الفني، وسريعًا ما وصلت حد الإدانة السياسية الكاملة للحكومة. وقد فجّر النائب عاطف مغاوري، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع، الموقف حين أعلن رفضه التام للقانون وتقرير اللجنة، ثم وجه حديثه مباشرة للحكومة واصفًا إياها بأنها "نبتّ شيطاني".
وفي كلمته التي هزت أرجاء القاعة، تساءل مغاوري: "هل أنتم نبتّ شيطاني، أم انقلاب على حكومات سابقة؟ لا تشّقوا الوطن". ثم أطلق العبارة الأعلى صوتًا في الجلسة، قائلًا: "تسقط الحكومة ومعها القانون".
هذا الشعور بعدم جدوى الحوار مع الحكومة عززته النائبة مها عبد الناصر، التي أشارت إلى نمط حكومي متكرر بقولها إن "الحكومة دائمًا ما تمرر القوانين التي تنوي إصدارها، حتى تلك التي واجهها المواطنون بالرفض"، وهو ما رسم صورة لحكومة عازمة على المضي قدمًا في خططها بغض النظر عن حجم المعارضة.
الوزير فوزي: عقارات وسط البلد ما لهاش علاقة بالقانون
في مواجهة هذا السيل من الاتهامات، تولى المستشار محمود فوزي وزير الشؤون النيابية، مسؤولية تقديم الرواية الحكومية ومحاولة الدفاع عن مشروع القانون، إذ استهل الوزير كلمته بالتأكيد على أن المجلس النيابي يتحلى بـ"الشجاعة والموضوعية" في اقتحام هذا الملف الشائك، محاولًا في الوقت ذاته التنصل من المسؤولية التاريخية عن الأزمة.

قال الوزير: "لم يكن لهذه الحكومة أو مجلس النواب دور في صنع هذه المشكلة، بل صنعتها الظروف وتفاقمت على مدار عقود طويلة".
وفي محاولة لتقديم صورة متوازنة، أضاف أن الحكومة والبرلمان لا ينحازان لطرف على حساب الآخر، وأن المشروع لا يميل "لا لمالك ولا لمستأجر". وأشار إلى أن التحرك الحكومي لم يأتِ من فراغ، بل استجابة لحكم المحكمة الدستورية العليا الذي قضى بعدم دستورية تثبيت الأجرة، وأن هذا المشروع جاء "لمعالجة هذه الإشكالية" بعد حوار مجتمعي واسع.
وسعى الوزير فوزي لإظهار مرونة الحكومة، موضحًا أن هذا الحوار المجتمعي هو ما أدى إلى تعديلات جوهرية تراعي البعد الاجتماعي، تمثلت في زيادة الفترة الانتقالية للإيجارات السكنية إلى سبع سنوات بدلًا من خمس.
وفي نقطة محورية أخرى، أكد أن من أبرز نتائج الحوار كان تعديل المادة الخاصة بالبدائل السكنية للمتضررين، حيث تم الانتقال من مجرد منحهم "أولوية" إلى النص صراحة على "الأحقية الواضحة" في القانون. بل ذهب الوزير إلى ما هو أبعد من ذلك، مقدمًا حجة بدت متناقضة في آذان المعارضين، حيث أكد أن "عدم إصدار هذا القانون سيؤدي إلى ضرر بالغ بالمستأجرين"، مبررًا ذلك بأن القانون بوضعه الحالي يمنحهم فترة انتقالية محسوبة وزيادات مدروسة، مما يعطيهم الوقت الكافي للتكيف مع الأوضاع الجديدة، وبالتالي فهو "في مصلحتهم".
واختتم الوزير دفاعه بالإشارة إلى أن 82% من المشكلة تتركز في أربع محافظات فقط، مشددًا على أن عقارات وسط البلد لا علاقة لها بهذا القانون، في محاولة لتقليص حجم الأزمة المتصورة وتهدئة المخاوف العامة.
المعركة بدأت للتو.. داخل البرلمان وخارجه
بينما كانت "المشادات الساخنة" تضع الحكومة في مأزق تحت قبة البرلمان، كانت جبهة أخرى تتشكل في الخارج، معلنةً أن الصراع أكبر من مجرد جلسة برلمانية.
وقد أصدر "مؤتمر المستأجرين القدامى ضد التهجير والطرد" بيانًا شديد اللهجة، أكد فيه رفضه المطلق للقانون الذي وصفه بأنه يتجاهل "أي أبعاد اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية".
وأشار البيان إلى أن هذا الرفض يأتي "في ظل كل ما قدمه المستأجرون من مقترحات تثبت حقوقهم إلى الرئاسة، ومجلس الوزراء، ومجلس النواب"، بالإضافة إلى ما قدمه "الكثير من القانونيين والحقوقيين والبرلمانيين، والنقابات، والأحزاب"، وحتى وجود "فتوى رسمية لدار الإفتاء المصرية، بموافقة عقود الإيجار القديمة للشريعة الإسلامية"، بينما لا تزال الحكومة "تضرب بكل ما قدموه عرض الحائط".
ولم يكتف البيان بالرفض، بل أطلق وعيدًا صريحًا بمواجهة قانونية طويلة الأمد، مؤكدًا أنه في حالة تمرير القانون، "فسوف يبدأون العمل على اتباع كل الطرق القانونية الممكنة لإسقاطه". واختتم المؤتمر رسالته بنبرة تحدٍ مباشرة: "فمن اعتدى على حقوق المستأجرين بقانون سندفع اعتداءه أيضًا بالقانون، والجواب سيكون بما ترون لا بما تسمعون".
صفحة ربما هي الأكثر جدلًا وإثارة إلى الآن في صفحات هذا المشروع الذي أُجلت جلسته "الأكثر اشتعالًا" تحت سقف البرلمان إلى الغد، حيث لا خيار أمام الحكومة سوى تقديم بياناتها الغائبة، أمام جبهة برلمانية أعلنت رفضها المبدئي للقانون، وشارع يستعد لمعركة قانونية، في وقت تبقى كل الأنظار معلقة على ما ستحمله الأيام المقبلة، التي ستحدد ما إذا كانت الحكومة ستتراجع تحت وطأة الضغط المزدوج، أم ستمضي في طريق المواجهة المفتوحة.