إسرائيل أم إيران.. أيهما يجب أن يخشاه الخليج؟

في تحليل معمق نشرته صحيفة “واشنطن بوست“، قدم كريم فهيم، رئيس مكتب الصحيفة في إسطنبول ومراسلها المعتمد لتغطية قضايا الشرق الأوسط، قراءة شاملة لديناميكيات القوة المتغيرة في الشرق الأوسط، سلط فيه الضوء على تحول استراتيجي لافت في مواقف دول الخليج العربية، التي بدأت تعيد تقييم مصادر التهديد الإقليمية، وتتبنى سياسات أكثر استقلالية تضع مصالحها الأمنية والاقتصادية في المقام الأول، حتى لو تعارض ذلك مع الرؤية الأمريكية التقليدية للمنطقة.

وفقًا لفهيم، فإن المشهد الحالي لم يعد محكومًا بالخوف من إيران بقدر ما هو متشكل بفعل القلق المتنامي من سياسات إسرائيل التي يُنظر إليها على أنها “جامحة ولا يمكن التنبؤ بها”.

من طهران إلى تل أبيب

يرى فهيم أن حجر الزاوية في هذا التحول الجيوسياسي يكمن في التغير الجذري في بوصلة التهديد لدى الممالك الخليجية. فخلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الأولى، كان الخوف من إيران هو المحرك الأساسي الذي دفع بعض الدول العربية نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ودفع دولًا أخرى إلى التفكير جديًّا في الأمر. كانت الفكرة السائدة آنذاك هي بناء جبهة موحدة لمواجهة التوسع الإيراني. لكن اليوم، انقلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب.

يقول فهيم إن العمليات العسكرية الإسرائيلية واسعة النطاق والمتعددة الجبهات، في قطاع غزة ولبنان وسوريا وغيرها من الساحات، والتي تلت هجمات السابع من أكتوبر 2023، قد رسمت صورة جديدة لإسرائيل في أذهان صناع القرار الخليجيين.

من الضربات الإسرائيلية على إيران (وكالات)
من الضربات الإسرائيلية على إيران (وكالات)

لم تعد إسرائيل الشريك الأمني الذي يمكن الاعتماد عليه لتحقيق الاستقرار، بل أصبحت، في نظرهم، طرفًا فاعلًا يتسم بالاندفاع والعدوانية. وتستشهد بتحليل إتش. إيه. هيلير، الزميل البارز في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع والأمن في لندن، الذي لخص هذا التحول بالقول: “لقد تغيرت الحسابات. اللاعب الأكثر زعزعة للاستقرار الآن هو إسرائيل”.

ويضيف هيلير أن ما يزيد من قلق دول الخليج “بشكل هائل” هو حجم الدعم الذي حظيت به الإجراءات الإسرائيلية، أو على الأقل، ضعف المقاومة التي واجهتها من الولايات المتحدة وأوروبا، مما خلق شعورًا بأن إسرائيل تتصرف دون قيود حقيقية.

سياسة الاحتواء والحوار مع الخصم

في مواجهة هذا الواقع الجديد، يوضح فهيم أن دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اختارت مسارًا استراتيجيًّا مغايرًا تمامًا لما كانت تدعو إليه واشنطن. فبدلًا من الاستمرار في سياسة عزل إيران التي دامت لثلاثة عقود، قررت هذه الدول الانخراط المباشر مع طهران.

وقد بدأ هذا الجهد سعوديًا بشكل جدي قبل أربع سنوات، وتحديدًا في أعقاب الهجمات التي استهدفت المملكة في عام 2019 وألقت باللوم فيها على إيران، في إدراك بأن المواجهة والعزل لم يحققا الأمن المنشود.

ويضيف فهيم أن هذا التوجه يمثل “انعكاسًا لاستراتيجية استثمرت فيها الولايات المتحدة لثلاثين عامًا ولم تحقق شيئًا”. وتستند في ذلك إلى تحليل محمد باهارون، المدير العام لمركز “بحوث” في دبي، الذي يرى أن سياسة العزل الأمريكية فشلت في كل أهدافها المعلنة: “كان من المفترض أن توقف البرنامج النووي الإيراني؛ لكنه يتطور. وكان من المفترض أن تحد من تأثير برنامج الصواريخ؛ لكنها لم تفعل. وكان من المفترض أن تكبح اعتماد إيران على القوات الوكيلة؛ لكنها فعلت العكس تمامًا”.

ومن هذا المنطلق، أصبح الحوار الخليجي مع إيران ضرورة استراتيجية تهدف إلى نزع فتيل التوترات، وكبح جماح وكلائها، وتحقيق مكاسب اقتصادية متبادلة، والتعامل مع إيران “بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع الدول الأخرى”، على حد تعبير باهارون.

اختبار العلاقات.. أزمة قاعدة العديد

يشير فهيم إلى أن الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على قاعدة العديد الجوية الأمريكية في قطر كان بمثابة اختبار حقيقي لهذه العلاقات الناشئة.

جاء الهجوم ردًا على غارات جوية أمريكية استهدفت منشآت نووية إيرانية، وكان من الممكن أن ينسف سنوات من الجهود الدبلوماسية. لكن ما حدث كان لافتًا؛ فقد قدمت إيران تحذيرًا مسبقًا، ولم تسفر الصواريخ عن أي أضرار في قطر أو القاعدة.

الهجوم الإيراني على قاعدة العديد (وكالات)
الهجوم الإيراني على قاعدة العديد (وكالات)

ورغم أن الإدانات الخليجية كانت “شديدة اللهجة”، إلا أنها لم تتجاوز حدود الخطاب الدبلوماسي، مما يشير إلى أن الروابط الجديدة مع طهران منحت المنطقة هامشًا من المرونة لاحتواء الأزمة.

وقد تجلى ذلك بوضوح في تصريحات رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي رغم إدانته للهجوم، سارع إلى التعبير عن أمله في “عودة العلاقات الطيبة مع إيران إلى طبيعتها في أسرع وقت ممكن”، مؤكدًا: “الشعب الإيراني جار لنا، ونتمنى له السلام والنمو والتنمية”.

وفي المقابل، حرص الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان على احتواء الموقف، مؤكدًا أن القصف الصاروخي “لا ينبغي تفسيره على أنه مواجهة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجارتها الصديقة والشقيقة قطر”. وهنا، يرى فهيم أن هذا التعامل المتبادل يثبت أن الطرفين يدركان أهمية الحفاظ على قنوات الاتصال لتجنب حرب إقليمية أوسع.

المستقبل الغامض للتطبيع العثر

في خضم هذه التحولات، يوضح فهيم أن الجهود الأمريكية لدفع المزيد من اتفاقيات التطبيع، خاصةً بين السعودية وإسرائيل، تواجه طريقًا مسدودًا. ففي حين رأى مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون في الهجمات على إيران فرصة لكسر الجمود، كانت نظرة الخليج مختلفة تمامًا؛ إذ أدت هذه الهجمات إلى تفاقم الشعور بالقلق وعززت صورة إسرائيل كعامل مزعزع للاستقرار.

وعلاوة على ذلك، أدت الهجمات إلى تعطيل المحادثات النووية التي كانت مقررة في عُمان بين إيران والولايات المتحدة، وكانت دول الخليج تعلق عليها آمالًا كبيرة لخفض التوتر.

ويؤكد فهيم أن الموقف السعودي لا يزال ثابتًا وحاسمًا: لا تطبيع مع إسرائيل دون إحراز تقدم جوهري نحو إقامة دولة فلسطينية. إذ أدت الحرب في غزة ومواقف الحكومة الإسرائيلية المتشددة إلى تبديد أي أمل في تحقيق اختراق وشيك.

ويذهب تحليل محمد باهارون إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن الأحداث الأخيرة كشفت أن “إسرائيل لا تنظر إلى السلام، بل تنظر إلى الأمن. ليس فقط الأمن، بل تصورها الخاص له”، وهو تصور أمني ضيق يبرر حملة عسكرية غير مسبوقة في المنطقة.

ويستشهد فهيم بتقديرات آنا جاكوبس، من معهد دول الخليج في واشنطن، التي تعتقد أنه على الرغم من احتمال مرور العلاقات بفترة “فتور”، فإن دول الخليج ستظل “ملتزمة جدًا بالعلاقات مع إيران لأغراض خفض التصعيد الإقليمي”. فالقناعة الراسخة الآن هي أن الحوار، وليس المواجهة، هو السبيل الوحيد للتعامل مع منطقة تقف على حافة الهاوية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة