أنتِ طالق.. "غيابي"

"شدينا مع بعض في مرة فأخد بعضه ونزل وساب لي البيت.. شوية ورجع عادي واتكلم معايا ومع ولادنا كإن ما فيش حاجة خالص.. لكن بعدها بدأ يغيب كتير وواحدة واحد بدأ يسيبني بالأسابيع ويتحجج بشغله في المعمار.. كان بيسيبنا أنا والولاد من غير فلوس، ولما روحت اشتكي لأخواته قالولي بهدوء: إنتي أصلًا متطلقة من تلات شهور!".

لم تكن كلمة "الطلاق الغيابي" تعني الكثير لنوال، السيدة الثلاثينية الأم لثلاثة أطفال، حتى وجدت نفسها بين صفوف الضحايا. علاقة استمرت 13 عامًا وانتهت فجأة وغيابيًا، وبقي الطلاق مخفيًا عنها لـ 3 أشهر، تمتع خلالها الزوج بحقه في مسكن قرر بإرادته هجره، لأن ثمة هناك عوار إجرائي سبقه عوار قانوني منح أحد طرفي العلاقة سلطة إنهاءها في غفلة من الطرف الآخر.

طلب قيد طلاق

حتى في الأرقام الرسمية.. غيابي

تكشف الأرقام الرسمية عن حجم هائل لظاهرة الطلاق في مصر، لكنها في الوقت ذاته تلقي بظلال من الغموض على الحجم الدقيق لإحدى أكثر صورها إشكالية: الطلاق الغيابي.

فوفقًا لأحدث نشرة سنوية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023، بلغ إجمالي حالات الطلاق في البلاد 265,606 حالة.

الطلاق الغيابي يندرج ضمن فئة "إشهادات الطلاق" التي يتم توثيقها مباشرة لدى الموثقين "المأذون"، والتي سجلت وحدها 254,923 حالة، أي أنها تشكل ما يقارب 96% من مجمل حالات الطلاق في مصر.

هذا الرقم الضخم، ورغم دلالته، لا يقدم أي تصنيف يميز الحالات التي تمت غيابيًا وبإرادة منفردة من الزوج عن غيرها من حالات الطلاق الحضوري الموثقة. وهذه "الضبابية الإحصائية" تعني أن الحجم الحقيقي للمأساة التي عاشتها "نوال" وغيرها من النساء يظل تقديريًا، ومخفيًا ضمن أكثر من ربع مليون حالة طلاق يتم تسجيلها سنويًا، مما يجعل قياس الأثر الفعلي لهذه الظاهرة وتداعياتها أمرًا بالغ الصعوبة.

حين يكشف الموت عن طلاق مُبيَّت

تأخذ المأساة أبعادًا أكثر قسوة حين لا تُكتشف إلا بعد فوات الأوان. هذا ما حدث مع هدى (48 عامًا)، التي لم تعلم أنها مطلقة إلا بعد أن غيّب الموت زوجها الذي عاشت معه خمس سنوات ورافقته في رحلة مرضه.

فبعد أيام من وفاته، طالبها شقيقه بمغادرة "شقة الزوجية"، ملوّحًا بوثيقة طلاق رسمية وقعت قبل أشهر دون علمها، ليخبرها أنها ليست أرملته، بل طليقته، ولا حق لها في الميراث، في واحدة من أخطر صور استغلال الطلاق الغيابي، بالحرمان من الحقوق المالية بعد الوفاة.

تقول هدى: "رحت للقضاء، بس كل الورق كان في صُفّه".

نمط متكرر من التحايل على القانون

وتوضح المحامية نهى الجندي أن حالة هدى ليست فردية، بل هي نمط متكرر من التحايل على القانون. وهي تؤكد في حديثها لـ فكر تاني، أن الطلاق الغيابي "يسبب الكثير من المشكلات إذا لم يتم إعلام الزوجة، فمن الممكن ألا تعرف أنها طلقت إلا بعد فترة طويلة".

المحامية نهى الجندي

وتشير إلى أن ما حدث مع هدى يندرج تحت ما يسمى "طلاق المريض مرض الموت"، وتشرح قائلة: "هناك الكثير من الألاعيب تحدث، مثل أن يقوم الرجل الذي أصيب بمرض الموت بتطليق زوجته حتى لا ترث مع أبنائه دون علمها، وتظل في بيته تخدمه ولا تعلم أنه طلقها ليحرمها من الإرث إلا بعد وفاته، وهذه كارثة كبيرة".

وتضيف الجندي أن حقوق المرأة في هذه الحالة لا تسقط، ويمكنها رفع دعاوى أمام محكمة الأسرة التي غالبًا ما تعتبر هذا النوع من الطلاق "طلاقًا تعسفيًا"، لأنه تم دون إرادتها وبنية الإضرار بها.

وتنبع الإشكالية برمتها من كيفية تطبيق النص القانوني المنظم لعملية الإخطار، حيث تنص المادة (5 مكرر) من القانون رقم 25 لسنة 1929 على ما يلي: "على المطلِّق أن يوثق إشهاد طلاقه لدى الموثق المختص خلال ثلاثين يومًا من إيقاع الطلاق. وتعتبر الزوجة عالمة بالطلاق بحضورها توثيقه، فإذا لم تحضره وجب على الموثق إعلانها بوقوع الطلاق على يد محضر، وعلى الموثق تسليم نسخة إشهار الطلاق إلى المطلقة أو من ينوب عنها...".

والثغرة تكمن في أن عملية "الإعلان على يد محضر" قد لا تتم بشكل فعال، إما عن طريق الخطأ أو بالتحايل عبر تقديم عنوان غير صحيح للزوجة، مما يجعلها غير عالمة بطلاقها لأشهر أو حتى سنوات.

"الرجعة".. سلاح للتحكم والمساومة

لا يقتصر استغلال الطلاق الغيابي على حرمان المرأة من حقوقها المالية فقط، بل يمتد ليصبح أداة للتحكم في مصيرها ومنعها من المضي قدمًا في حياتها، حتى بعد أن تتقبل فكرة الانفصال. هذا ما حدث مع غادة (38 عامًا) من محافظة كفر الشيخ.

تقول غادة: "أنا كنت متجوزة بقالي خمس سنين، وعندي بنت صغيرة، وفجأة بعد خلافات استمرت شوية، وأنا عند أهلي، اكتشفت إنه طلقني غيابي. وقتها خدت قرار إني أعيش لبنتي، وخالي اقترح عليّا بعد ما خلصت شهور العدة، إني أرجع شغلي كمدرسة، وأفكر في حياتي اللي جاية، حتى في الجواز كمان. بس بعد 7 شهور من الطلاق، وبعد ما خلصت العدة ورفعت قضية عشان آخد كل حقوقي، اتفاجئت بيه جاي عند بيت أهلي، وبيقولي إنه رجعني لعصمته قبل ما العدة تخلص، وكان معاه ورقة الرجوع! الصراحة اتصدمت، خصوصًا إنه ما بلغنيش ولا قال حاجة طول الفترة دي. بس قررت أرفع عليه دعوى طلاق، عشان أنا ما بقيتش حاسة بأي أمان معاه".

"حق كفله الشرع والقانون لنا"

لفهم المنطق الذي يستند إليه بعض الأزواج في هذا التصرف، يقدم رجب (اسم مستعار)، الذي طلق زوجته غيابيًا وأرجعها دون علمها، وجهة نظره قائلًا: "مش فاهم بصراحة كل الهري اللي حاصل حوالين الطلاق الغيابي! هو حق شرعي للرجل، والشرع إداله الإذن ده. يعني مش لازم نطلّق الست وهي قاعدة قدامنا، ممكن نطلّق ونرجّع من غير ما هي تعرف، طالما كل حاجة ماشية في إطار الشرع".

رجب طلق زوجته وأرجعها إلى عصمتها دون علمها، ولم يجد أي فائدة من إخبارها والتسبب في حدوث مشكلة بينهما، فهذا قد يتسبب في غضبها، على حد قولها. وعند سؤاله عن إمكانية إساءة استخدام هذا الحق، قال: "لا، هذا حسب نية الرجل وتدينه. لازم يخاف ربنا، بس مش صح التضييق علينا في حقوق كفلها لنا القانون والشرع".

يستغلون فترة "العلم بالطلاق"

ويوضح المحامي ياسر سعد الأبعاد القانونية الخطيرة لهذه الممارسة، مشيرًا إلى أن المشكلة لا تكمن في "الرجعة" بحد ذاتها، بل في الثغرات التي تسمح باستغلالها.

يقول سعد في حديثه لـ فَكّر تاني: "الطلاق الغيابي يسبب الكثير من المشكلات للمرأة، وخاصةً أنه يتم حساب العدة من وقت علمها بوقوع الطلاق، فذلك يتيح للرجل فرصة الذهاب للزواج من أخرى ومحاصرة زوجته الأولى التي ربما يعيدها لعصمته فور علمه أنها تسعى للحصول على بعض حقوقها، ويمنعها من مواصلة حياتها أو الزواج من آخر لفترات طويلة".

محكمه الاسرة

ويضيف: "القانون حدد 30 يومًا ما بين وقوع الطلاق وإخطار الزوجة، ولكن للأسف هذا لا يحدث، إما بتواطؤ مع المأذون أو لا. وكنا قد طالبنا أن يكون الإخطار بجواب مسجل بعلم الوصول، لكن القانون لم يحدد طريقة الإخطار، حتى إن لم تصل للزوجة. كما كنا نطالب أن يكون العنوان هو مسكن الزوجية، وبالتالي يتم التلاعب في العناوين حتى لا يتم إعلامها بالطلاق".

هذه الثغرة في "الإخطار" هي ما تسمح للزوج بالتحكم في مصير زوجته المطلقة غيابيًا لفترة طويلة، وإعادتها إلى عصمته دون رضاها، مما يحول "الحق" الذي تحدث عنه رجب إلى أداة للإكراه والمساومة.

آلية الطلاق.. بين النص الرسمي ومناطق التلاعب

لفهم كيف يمكن أن تظل الزوجة غير عالمة بطلاقها لأشهر أو سنوات، من الضروري تفكيك الآلية الرسمية للطلاق الغيابي، والنظر في كيفية تطبيقها على أرض الواقع، والثغرات التي تسمح بالتحايل عليها.

هذا ما تشرحه رحاب صبري، وهي مأذون شرعي، في حديثها لـ فَكّر تاني، فتقول: "الطلاق الغيابي يتم بحضور الزوج دون الزوجة، ويطلب وقتها الرجل أن يطلق زوجته أو أن يثبت تطليقه لها بشكل رسمي. في هذه الحالة، يحصل المأذون على عنوان الزوجة، وخاصة أنه يشترط أن يتم الطلاق الغيابي بواسطة مأذون من نفس بلد الزوجة، بخلاف الطلاق الذي يتم في حضورها".

ووفق رحاب، فإن الأمر هنا يكون في ذمة "المأذون الذي من المفترض أن يقوم بدوره بتوثيق العقد في المحكمة ويرسل لها إعلانًا عن طريق المحضر على العنوان الموجود في قسيمة الزواج، ويتم إعلامها بتاريخ وقوع الطلاق. كما أنه في حالة أن الزوج أعاد مطلقته لعصمته ثانية دون علمها ورضاها، يجب أيضًا إعلامها، حتى لا تحدث مشكلات، فمن الممكن أن تنتهي عدتها ولا يصلها إعلان الرجوع وتتزوج رجلًا آخر، وفي هذه الحالة الخطأ على المأذون والزوج معًا.

وتوضح رحاب الفارق في الحقوق فتضيف: "المطلقة حضوريًا يمكن أن تبرئ الزوج من كل حقوقها، ولكن المطلقة غيابيًا تحصل على كافة حقوقها، فلو مات زوجها في فترة العدة ترث فيه، وتتقاضى معاشه لو كانت في فترة العدة. ولكن المشكلات تحدث عندما لا يتم إعلامها".

الواقع العملي.. تواطؤ وتزييف للعناوين

ولكن، وعلى النقيض من هذه الصورة الإجرائية الواضحة، يكشف المحامي الحقوقي رضا الدنبوقي، مدير مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية، عن واقع مختلف تمامًا.

يقول الدنبوقي: "بالنسبة للتطليق الغيابي، أحيانًا كثيرة يتم بالتواطؤ مع كتبة المحاكم والمحضرين والمأذون الشرعي في تغيير عنوان الزوجة بشكل مخالف للحقيقة والواقع، بهدف تفويت فرص الطعن عليها وحرمانها من حقوقها، إلى جانب إطالة أمد التقاضي وإرهاق كاهلها ماديًا ونفسيًا واجتماعيًا، مما يجعلها تحت وطأة الحاجة فتقبل بالأمر الواقع أو تتنازل عن السير في القضايا".

من أرملة إلى مُدانة

ويوضح المحامي ياسر سعد إحدى أشد النتائج المترتبة على هذا التلاعب، والتي تحول الضحية إلى متهمة. يقول: "هناك الكثير من الحالات التي تحدث فيها مشكلات، كأن مثلاً ترث المرأة في رجل كانت تظن أنها أرملته، ثم تكتشف بالأوراق أنها مطلقة ويجب عليها أن تعيد ما ورثته مع الفوائد، ويمكن أن يقاضيها الورثة بتهمة التدليس والتزوير. ولذلك، عدم الإخطار يضع المرأة في خطر".

وهكذا، تتحول الآلية التي وُضعت لحماية حق المرأة في العلم بطلاقها، إلى ثغرة يُساء استغلالها عبر التلاعب في العناوين والتواطؤ، مما يؤدي إلى عواقب قانونية واجتماعية وخيمة.

"تمييز وعدوان" مخالف للدستور

ويقدم المحامي الحقوقي رضا الدنبوقي النقد الأكثر جذرية للوضع الحالي، معتبرًا أن الطلاق بالإرادة المنفردة ليس مجرد مشكلة قانونية، بل هو مخالفة دستورية صريحة.

يقول في حديثه لـ فَكّر تاني: "الطلاق القائم في مصر بالإرادة المنفردة يعد تمييزًا ضد المرأة وعدوانًا صارخًا، وفيه مخالفة للمادة 53 من الدستور التي تنص على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة".

ومن هذا المنطلق، يرى الدنبوقي أن الحل لا يكمن في ترقيع القانون الحالي، بل في تغييره بشكل جذري، ويقترح: "يجب أن يكون الطلاق بيد القاضي. فإذا ما أراد الزوج الطلاق، عليه الذهاب إلى المحكمة، وعقب تحقيق قضائي وفحص تتمكن خلاله الزوجة من حقوقها كافة، يطلقها القاضي عقب استلامها لكامل مستحقاتها من نفقة وغيرها، والأهم توفير مسكن للحاضنة أو غير القادرة على توفير مسكن".

ثقافة ذكورية تستغل النصوص

وتتفق الناشطة النسوية آية منير مع هذا الطرح، مضيفةً بُعدًا ثقافيًا. تقول آية: "هي ثقافة ذكورية، والطلاق الغيابي إشكاليته في عدم إخطار المرأة. تحدث المشكلة بسبب القوانين وبعض النصوص التي يتيحها البعض للرجل ويقوم باستغلالها بشكل مستفز يضيع حقوق الزوجة".

وهي تشير إلى أن الحل يتطلب نظرة مختلفة من المؤسسات الدينية والقانونية تركز على حجم الضرر الواقع على الأسرة.

التحرك البرلماني.. بين العقوبات وقانون جديد

وعلى الصعيد التشريعي، توضح النائبة البرلمانية ضحى عاصي الوضع الحالي للعقوبات قائلة: "شرعًا، الطلاق نافذ، ولكن القانون يُلزم الزوج أو الموثق بإبلاغ الزوجة خلال 30 يومًا. لا تقع عقوبة جنائية مباشرة مثل الحبس أو الغرامة في حالة مخالفة ذلك، ولكن قد يتعرض الزوج لنتائج قانونية تضر به. فقد تعتبر المحكمة أن الزوج تعمد الإضرار بها، وهو ما قد يؤثر على تقدير النفقة أو يقوي موقف الزوجة في دعاوى التعويض".

وتضيف زميلتها النائبة مها عبد الناصر نظرة مستقبلية، مشيرة إلى أن الطلاق الغيابي له عواقب وخيمة، وأن هناك أملًا في المواجهة التشريعية القادمة، قائلة: "من المنتظر أن يتصدى قانون الأحوال الشخصية الجديد لمثل تلك الأمور وحماية الأسرة بشكل أكبر".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة