صوتٌ لا يُذاع ولا يُنسى.. ثلاثون عامًا على رحيل الشيخ إمام

“الفن هو من يساوي أولئك الذين كسرتهم الحياة”..

تُلخّص هذه العبارة حكاية الشيخ إمام “1918–1995” كما لو كانت كُتبت لأجله. رجلٌ عاش حياته في الظل، لكنه ترك أثرًا في الضوء. وُلد في بيت فقير بقرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة، لا يحمل من العالم سوى اسمه وبعض الصدى.

أُصيب في عامه الأول بـ “الرمد الحبيبي”، وهو داء بسيط لو وُجدت الرعاية الصحية المناسبة له، لكنّ جهل القرية وقلة الحيلة أطفأتا بصره للنهاية.. كان ذلك مشهدًا متكررًا في الريف المصري: طفل يفتح عينيه على الدنيا، ثم يُغلقهما الطب الشعبي إلى الأبد.

يشبه ذلك ما حدث مع الأديب طه حسين، الذي فقد بصره في ظروف مشابهة، لكنه وجد طريقه إلى الجامعات والمحافل الدولية، بينما مضى الشيخ إمام في طريق آخر، لا يقل عمقًا: طريق الغناء. لكلٍّ منهما لغته، ولكلٍّ طريقته في مواجهة العالم، أحدهما بالكلمة المكتوبة، والآخر بالصوت الحيّ. لم يكن لإمام أن يرى، لكنه سمع العالم جيدًا، وقرأه بأنامله، وفهمه عبر وجع الناس.

عاش الشيخ إمام حياته على الهامش، لكنه لم يطلب يومًا أن يكون في المنتصف. لم يغنِّ للترف، ولا للمسرح، ولا لمنصات السلطة، بل غنّى لأنه لم يجد وسيلة أصدق من صوته ليقول ما لا يُقال. حين كانت الأغاني تحتفي بالرؤساء، كان يغنّي للفقراء، وللهزيمة، ولليأس، وللصبر العنيد. لم يبحث عن التصفيق، ولا حمل همّ الشهرة، بل حمل وجع الناس على كتفيه، وغنّى كما يتنفس.

في حارة “حوش قدم” العتيقة، المتفرعة من شارع المعز لدين الله الفاطمي، عاش سنوات عمره. المكان كان يشبهه: ضيّق، متواضع، لا يلفت النظر، لكنه عميق ومفعم بالحياة. في شقة صغيرة، كان يجلس على كرسيه الخشبي، يمسك بعوده، ويغني دون ضجيج. لم يكن هناك جمهور بالمعنى الرسمي، ولا كاميرات، ولا حفلات، لكن صوته كان يصل. يصل إلى من في الزنازين، وإلى من في المقاهي، وإلى من لا صوت لهم أصلًا.

كانت أغانيه تُتداول سرًّا، لا تخرج من استوديوهات، بل من شرائط كاسيت تُنسخ يدويًا وتنتقل من يد إلى يد. لم يكن مغنيًا “ناجحًا” كما تعرّفه القنوات، لكنه كان حاضرًا في وجدان الناس. عاش فنه كما عاش حياته: بكرامة، ورفض، وصدق.
وعندما عادت الجموع إلى الميادين في يناير 2011، بعد وفاته بخمسة عشر عامًا، لم تكن بحاجة إلى أغنية جديدة؛ كانت أغانيه ما تزال صالحة. خرجت كلماته كما خرجت الحناجر: غاضبة، واضحة، وحقيقية.

اقرأ أيضًا: صنع الله إبراهيم.. الشيوعي الذي كتب تاريخًا على هامش السلطة

بين التلاوة واللحن

في منتصف الثلاثينيات، التحق إمام محمد أحمد عيسى بمدرسة الجمعية الشرعية بالقاهرة، ودرس فيها لمدة أربع سنوات علوم الشريعة وتجويد القرآن الكريم. كانت تلك المدرسة أحد الملاذات المتاحة لأبناء الفقراء، وخصوصًا من المكفوفين، ممن يُنتظر منهم أن يصيروا مشايخ في التلاوة أو الإمامة. أتمّ دراسته، لكنّه لم يكمل الطريق الذي رُسم له.

الشيخ درويش الحريري

كان يقضي وقته في التردد على مساجد القاهرة القديمة، من الأزهر إلى الحسين، يستمع للمبتهلين والمقرئين، ويتتبع طبقات الصوت ومقاماته. تأثر بأصوات مثل الشيخ علي محمود، وطه الفشني، وأحمد ندا، لكنه لم يكن أسيرًا لهذا اللون وحده. شيئًا فشيئًا، بدأ يميل إلى ألحان زكريا أحمد ويستمع لصوت أم كلثوم، ويختزن ذلك كله في ذاكرته الحادة.

لم يتلقّ تعليمًا موسيقيًا نظاميًا، لكنه التقى لاحقًا بالشيخ درويش الحريري، أحد أعلام المقامات في مصر، وتعلم منه أساسيات الغناء الشرقي. ثم التقى بالعازف كامل الحمصاني، الذي ساعده على التمرّس في العزف على العود رغم كفّ بصره. كان يتمرّن لساعات طويلة، يتعرّف إلى العود بأصابعه لا بعينيه، إلى أن أصبح العود جزءًا من صوته، لا مجرد آلة بيده.

لقاء غير مجرى كل شيء: الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم

في أوائل ستينيات القرن العشرين، تعرّف الشيخ إمام على الشاعر أحمد فؤاد نجم داخل حوش قدم، الحارة الشعبية التي سكنها إمام لسنوات في حي الأزهر. نجم كان قد خرج حديثًا من السجن، يحمل معه خليطًا من الغضب الشعبي واللغة العامية الساخرة، بينما كان إمام قد بدأ يغني في بعض التجمعات الصغيرة، متعاونًا مع شعراء متفرقين، لكن دون مشروع واضح.

كان نجم يكتب بسرعة، وكان إمام يلحن بالأذن والحس. لم يكن هناك استوديو، بل غرفة، وعود، وكلمة صادقة.

حصل اللقاء الأول بوساطة الصحفي زكريا الحجاوي، الذي رأى في إمام صوتًا مختلفًا، وفي نجم شاعرًا يحمل لغة الناس على كتفه، فجمعهما معًا. كانت الكيمياء بينهما فورية، كما يقول نجم نفسه في مقابلاته. جلسا في الغرفة الضيقة، قرأ نجم بعض قصائده، ولم تمرّ دقائق حتى أمسك إمام عوده، وبدأ في تلحين “أنا أتوب عن حبك أنا؟”.

منذ تلك اللحظة، وُلد ما يمكن وصفه بأهم ثنائي غنائي سياسي في تاريخ مصر الحديث. كانت القصيدة تُكتب في الصباح، تُلحَّن في المساء، وتُغنّى في اليوم التالي أمام جمهور من الطلبة، أو العمال، أو سكان الحارات الشعبية.

خلافًا للأغنية السائدة في ذلك الزمن، لم تكن أغاني إمام ونجم تتغزّل، ولم تمتدح زعيمًا. بل كانت تنقد، وتهجو، وتسخر، وتصرخ من “جيفارا مات” إلى “شيد قصورك”، ومن “مصر يا بهية” إلى “سايس حصانك”، كانت كلمات نجم تجد في صوت إمام وعوده ما يجعلها تنبض بالغضب الشعبي الحقيقي، لا المزيف.

وجدير بالذكر فقد ساهم في انتشار أغنية “مصر يا بهية” بشكل لافت استخدامها في فيلم “العصفور” إنتاج 1972 للمخرج يوسف شاهين، الذي كان بدوره فيلمًا مثيرًا للجدل، حاول مساءلة السلطة بشكل غير مباشر عقب نكسة يونيو. ظهرت الأغنية في ختام الفيلم، مصحوبة بمشاهد الأبطال المنهزمين وأحلام البسطاء المتكسرة، فصارت التيمة الموسيقية والبصرية التي رافقت وجدان جيل بأكمله.

كان نجم يكتب بسرعة، وكان إمام يلحن بالأذن والحس. لم يكن هناك استوديو، بل غرفة، وعود، وكلمة صادقة. وسرعان ما أصبحت أغانيهما تُتداول عبر شرائط الكاسيت، بعيدًا عن الإذاعة الرسمية، وتتسرب من الجامعات إلى البيوت، ومن الحارات إلى السجون.

وكان من الطبيعي أن يُقلق هذا الغناء السلطة. فتم استدعاؤهما، واعتقالهما مرارًا، ووضِعا تحت الرقابة. لكن حتى في السجن، واصلا تأليف الأغاني، وترديدها بين المسجونين، حتى صارت الأغنية وسيلة لمقاومة العزلة، والقهر، والنسيان.

اقرأ أيضًا: أن تموت لأنك شاعر في مصر.. عن معاناة لا يتَّبِعُها الغاوون| 1

الأغنية السياسية والمطاردة المستمرة

مع تصاعد حضور الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في أوساط الطلبة والنقابيين والمثقفين، بدأت الأغنية تأخذ شكلًا مختلفًا تمامًا عما اعتادته الدولة. لم يكن مجرد فنان يعارض بشكل عابر، بل كان هناك مشروع غنائي قائم على النقد والسخرية والمواجهة المباشرة. أغنية مثل “جيفارا مات”، التي كتبها نجم عقب اغتيال المناضل الأممي تشي جيفارا، أثارت ضجة داخل الأوساط الأمنية، لأنها لم تكن تأبينًا تقليديًا، بل كانت دعوة للمواجهة والصمود.

ثم جاءت نكسة 1967 لتُطلق صوت الشيخ إمام أبعد مما تخيل هو نفسه. في حين كانت الخطابات الرسمية تتحدث عن المؤامرات الخارجية والاحتفاظ بالكرامة، كانت أغاني إمام ونجم تقول الحقيقة كما يشعر بها الناس: عن الجيش المهزوم، وعن الكذب، وعن وطن يُدار من فوق لا من الأرض. أشهر تلك الأغاني كانت: “عدّى النهار”، و “شيد قصورك”، و”احنا مين وهم مين”.

لم تمضِ أشهر على النكسة، حتى بدأت المضايقات تتصاعد. تم منعهما من الغناء في الجامعات، واستُدعيا للتحقيق أكثر من مرة، ثم جاء أول اعتقال رسمي في 1969، بعد إذاعة إحدى أغانيهما  “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا” للشاعر أحمد فؤاد نجم.

وفي فترة حكم السادات، ازداد الضغط، خاصة بعد أن شملت أغانيهم هجاءً لسياسة الانفتاح، مثل أغنية “بوتيكات” التي انتقدت التحول الاقتصادي الذي حوّل مصر – كما رأيا – إلى سوق مفتوح بلا كرامة. وتم اعتقال إمام أكثر من مرة، بين عامَي 1974 و1977، وكان من أبرز محاكماته تلك التي وُجّهت فيها له تهمة “التحريض على قلب نظام الحكم”، على خلفية أغنية غنّاها في ندوة في نقابة الصحفيين.

في مذكراته، أشار أحمد فؤاد نجم إلى أن الغناء في السجن لم يتوقف، بل كان أحيانًا أكثر حرية، لأن جمهورهما داخل الزنزانة كان يفهمهم جيدًا. ولم يكن الشيخ إمام يرى نفسه فنانًا يُصفَّق له، بل أقرب إلى من يُقلق أصحاب القرار، ويمنح من هم في الأسفل صوتًا لا يخاف أن يقول ما يجب أن يُقال، فرغم الرقابة والمنع، كانت أغانيهما تنتشر أسرع من أي دعاية رسمية. يكفي أن تُسجّل الأغنية على شريط، لينسخها عشرات الناس، وتصل إلى المحافظات والجامعات ومقاهي وسط البلد.

ورغم التضييق، حاولت السلطة احتواء الثنائي، فعرضت عليهما الإذاعة المصرية الغناء رسميًا، وهو ما رفضاه. ويذكر محمد حسنين هيكل أن الدولة ناقشت ضمّهما لتقليل تأثيرهما الشعبي، ويُنقل عن محمد حسنين هيكل أن ضمّ صوت مثل إمام إلى الإذاعة كان سيُفقده صدقه، ويُضعف تأثيره الشعبي. وحين كان يُمنع إمام من الغناء في المسارح، كان يغنّي في بيوت الأصدقاء، وفي نقابات مهنية، وحتى في غرف ضيّقة لا تتسع إلا لأشخاص قليلة.

بين الغربة والانفصال: السنوات الأخيرة في الظل

في مطلع الثمانينيات، بعد سنوات طويلة من المنع والملاحقة، بدأ اسم الشيخ إمام يتردد خارج حدود مصر. دعته وزارة الثقافة الفرنسية لإحياء سلسلة من الحفلات، وكانت تلك الرحلة هي أولى تجاربه مع الجمهور الغربي والعربي في المهجر. سافر إلى فرنسا، ثم إلى بيروت، وتونس، وإنجلترا، وأحيى حفلات في أماكن صغيرة، لكن الحضور كان حقيقيًا، متفاعلًا، يحمل أسئلة عن مصر، وعن الحارة، وعن الأغنية التي لا تزيّف الواقع.

في باريس، التقى بمجموعة من المثقفين والمنفيين العرب، وغنّى في صالات ثقافية، وأحيانًا في بيوت خاصة. لم يغيّر شيئًا من طريقته، جلس على كرسيه، ورفع العود، وغنّى “مصر يا بهية” وكأنها كُتبت قبل دقائق. بعض من حضر حفلاته هناك ذكروا أنه كان يرفض أي ترتيب يُشعره بأنه يؤدي دورًا رسميًا، ويُصر على بقاء الأغنية كما هي: حوارًا مع الناس، لا استعراضًا أمام جمهور.

لكن في الوقت نفسه، بدأت تظهر خلافات متراكمة بينه وبين أحمد فؤاد نجم. كانت أسبابها متشابكة: جزء منها يتعلق بتوزيع العائد المادي من الحفلات، وجزء آخر يتعلّق باختلاف في الرؤية، وحتى في المزاج الشخصي. نجم كان أكثر ميلاً إلى الانفتاح الإعلامي، بينما إمام كان يميل إلى العزلة والهدوء. لم يُعلن أحدهما القطيعة رسميًا، لكنها حدثت بهدوء.

لكن حتى في السجن، واصلا تأليف الأغاني وترديدها بين المسجونين

عاد الشيخ إمام إلى مصر، واستقر مجددًا في حوش قدم، في غرفة صغيرة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي بدأ منها. ابتعد عن الأضواء، ولم يقدّم أعمالًا جديدة بكثافة. ظل يستقبل أصدقاءه من حين إلى آخر، ويغني أحيانًا في جلسات خاصة، لكن المرحلة التي كانت فيها الأغنية “سلاحًا” بدت وكأنها قد تراجعت.

في تلك السنوات، لم يكن حاضرًا في الإعلام، ولا مطلوبًا في الحفلات. بعض الجيل الجديد لم يعرفه إلا بالاسم، أو عبر أغانٍ مسجّلة على شرائط قديمة. ومع ذلك، لم يكن غائبًا تمامًا. ظل حضوره مثل أثر قديم في جدار، لا يُرى من النظرة الأولى، لكنه موجود إذا اقتربت.

اقرأ أيضًا: الترجمة الأدبية العربية.. مقاومة ضد ضمور اللغة

النهاية الهادئة والعودة المتأخرة: إرث لا يموت

في السنوات الأخيرة من حياته، انكمش حضور الشيخ إمام الإعلامي، لكن اسمه لم يُمحَ من ذاكرة من عرفوه أو سمعوا أغانيه في زمن الخوف. عاش في شقته المتواضعة بحارة حوش آدم، يكتفي بجلسات صغيرة، وغناء متقطّع في بيوت أصدقائه أو في نقابات مهنية ولقاءات محدودة. لم يعد يُسجّل كثيرًا، ولم يظهر في مناسبات رسمية. لكنه لم يتوقف عن أن يكون “الشيخ إمام” الذي ظلّ أمينًا لصوته، ولألمه، ولمن غنّى لهم.

لم يتوقف عن أن يكون “الشيخ إمام” الذي ظلّ أمينًا لصوته، ولألمه، ولمن غنّى لهم

توفي يوم 7 يونيو 1995، عن عمر ناهز 76 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض، وبعد سنوات من العزلة شبه التامة. لم تكن له جنازة رسمية، ولم تكتب الصحف الكبرى عنه كثيرًا، لكنه ودّع كما عاش: بصمت، وكرامة، ورفقة قريبة.

صوته لم يغِب. بمرور الوقت، عادت أغانيه تتردّد في سياقات جديدة. في انتفاضة الطلبة عام 2000، ثم مع ثورة 25 يناير 2011، خرجت أهازيجه من جديد: “مصر يا بهية” و”شيد قصورك” و”يا فلسطينية”. أصبح يُستعاد كرمز للفن الذي لا يخضع، وللكلمة التي لا تهادن، وللحناجر التي لا تُربّيها المؤسسات.

اليوم، لا يمكن الحديث عن الأغنية السياسية في مصر والعالم العربي دون التوقّف عند تجربة الشيخ إمام. ليس لأنه كان صادقًا، بعيدًا عن اللعبة. لم يكن مشروعه فنيًا فقط، بل إنسانيًا، فـ”الغُنا”، كما كان يقول، “ماينفعش من غير وجع”. وكان وجعه دائمًا حقيقيًّا.

ومع حلول يونيو من هذا العام، تمرّ ثلاثون عامًا على رحيله، دون أن تُطفأ نبرته الساخرة ولا نغمه الحاد. وبعد أيام، وتحديدًا في الثاني من يوليو المقبل، تحلّ ذكرى ميلاده الـ107، في وقت يبدو فيه صوته أقرب من أي وقت مضى.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة