هل انتهت الحرب بين إيران والاحتلال الإسرائيلي؟ يبدو ذلك مُرَّجحًا، لكنه ليس قاطعًا باتًا، فالمشهد لا يزال شديد السيولة والارتباك، ذلك رغم تصريحات مقاول البيت الأبيض، بأن الحرب وضعت أوزارها، والهدنة صارت حتمًا مقضيًا.
مصدر القلق الأكبر أن ترامب هو الذي يقول، وهذا سبب كافٍ لعدم أخذ الكلام على محمل اليقين، فالمقاول الأمريكي يضرب الأرقام القياسية في التناقضات.
مرةً يمتدح بوتين، ثم يهجوه، وتارةً يقصف مفاعلات إيران، ثم يشكر النظام، وحينًا يضع الشرق الأوسط فوق برميل بارود، ثم يدعو له بالسلامة، هذا ناهيك عن القرارات الجمركية التي فرضها ثم تراجع عنها، كأن شيئًا لم يكن.
على أي حال، وإذا كانت الإجابة على سؤال الهدنة لا تزال متأرجحة، و"حبة فوق وحبة تحت"، فرصاصة من هنا أو هناك قد تعيد الأمور إلى المربع رقم صفر، فإن المؤكد يقينًا أن هذه الحرب بكل المعاني والمعايير الموضوعية، قد أعادت رسم خرائط الشرق الأوسط، كما كان مجرم الحرب نتنياهو والذين معه يقولون، لكنها لم ترسمها بالألوان التي تريدها دولة الاحتلال.
في فسيفساء الصورة المتشابكة، يتبدى أن إسرائيل رغم عشرات الآلاف من الشهداء، في غزة وجنوب لبنان واليمن وسورية وإيران، تخرج من الحرب أضعف من أي وقت مضى.
نعم.. أضعف من أي وقت مضى، منذ نكبة فلسطين قبل 77 عامًا، وليست أضعف مما كانت عليه قبل الحرب فحسب.

بعيدًا عن البطولات التي لا تزال المقاومة تجترحها، بعد 21 شهرًا من حرب الإبادة، وآخرها ما رأيناه من مشاهد لبطل فلسطيني يطارد دبابة، ويهاجمها من "المسافة صفر"، وقريبًا من مشهد الحرب بين الجمهورية الإيرانية والكيان الصهيوني على وجه الخصوص، فإن هنالك حقائق جديدة تتشكل في الإقليم، وهنالك خرافات طالما رددها المنسحقون المنهزمون من بني جلدتنا، تتبدد الآن مع المباني الذي يتناثر غبار ركامها، في هواء الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أبرز ما يستنهض الاهتمام من مشاهد الحرب، أن الصواريخ الإيرانية التي فاجأت العالم بقدرتها على ضرب عمق العدو، على بعد 1600 كيلومتر، حتى أحرقت قلب عاصمته؛ تل أبيب، وأجبرت ساسته على الاختباء في الملاجئ كفئران الجحور، لم تُسقط الخرافة التي طالما تشدق بها الاحتلال، من امتلاكه أقوى منظومة دفاع جوي على وجه الأرض وكفى، ولم تكشف عن حقيقة الهشاشة الداخلية للمجتمع الاستيطاني فحسب.
الأهم من ذلك أنها هدمت "العقيدة التأسيسية" لإسرائيل، والمتعارف على تسميتها "عقيدة بن غوريون".
بعيَّد نكبة 1948 حدد الزعيم الروحي للاحتلال، الإرهابي المؤسس، بن غوريون، تلك العقيدة في مصطلح شديد الضبابية والتدليس؛ "الدفاع العدائي"، ومضى في تفسيرها قائلًا: "إن إسرائيل دولة محدودة المساحة وصغيرة السكان، وهذا لا يؤهلها لامتصاص الضربات، ما يقتضي دائمًا أن تبادر إلى الهجمات الاستباقية، درءًا لوصول النيران إلى أعماقها".
من المفارقات أن مصطلح "الدفاع العدائي" هذا، يحيلنا بالضرورة إلى المصطلح الترامبي لتزيين مخططه الاستعماري المنحط، لانتزاع الغزيين من أرضهم؛ "التهجير الطوعي".
كثيرًا ما تغدو المصطلحات فخًا كبيرًا، وكم من الجرائم تُرتكب تحت عناوين بلاغية؟
أيما يكن، فعلى مدى تاريخ الاحتلال ظلت "عقيدة بن غوريون" تحدد استراتيجياته، وترسم سيناريوهات معاركه، فإذا بجيشه "الأخلاقي" كما يتشدّق، يفاجئ الطيران المصري في حرب يوليو 1067، ثم يقصف بعد ذلك بأربعة عشرة عامًا خلسةً، المفاعل العراقي "تموز" جنوبي بغداد، وبين هذه وتلك، يقيم خط بارليف لمنع الجيش المصري من مهاجمته، فضلًا عن أمثلة أخرى ليس المجال مناسبًا لحصرها.

عندما قال بيغن: لن نسمح لعدو بالسلاح النووي
بعد قصف المفاعل العراقي، وقف رئيس وزراء إسرائيل الليكودي، والحاصل على جائزة نوبل للسلام مناصفةً مع السادات؛ مناحيم بيغن، أمام الكنيست، منفوشًا كطاووس: "لن نسمح لأي عدو بامتلاك سلاح نووي"، ومن تلك المقولة اشتُقت "عقيدة بيغن" التي تُعدُّ امتدادًا وتأصيلًا لعقيدة بن غوريون.
على هذا الأساس، كانت إسرائيل تتوخى دائمًا، أن تندلع حروبها خارج العمق الاستراتيجي لها، وكان عنصر المباغتة، هو طريقها إلى النصر السريع والخاطف، ولم يحدث مرةً أن وصلت ألسنة النيران إلى داخلها، أو على الأقل لم تصل بهذا القدر من الكثافة، والقدرة التدميرية، كما في الحرب مع إيران.
عندما أطلقت إسرائيل القذيفة الصاروخية الأولى، في الغارة الافتتاحية من الحرب، فاغتالت عديدًا من قادة الصف الأول بالجيش الإيراني، ومنهم رئيس الأركان، فضلًا عن علماء الطاقة الذرية، كانت تتحرك بدافع من "الدفاع العدائي"، كما في جميع حروبها السابقة، وأغلب الظن أن القادة العسكريين والسياسيين لم يحسبوا حساب أن إيران سترد، أو بالأحرى لم يتخيلوا أنها ستستطيع الرد.
لكن المفاجئ هذه المرة، وعلى خلاف جميع الحروب السابقة، أن حسابات الصهاينة كانت خاطئة، فإذا بإيران تهرع إلى لملمة جروحها، لترد الصاع صاعين بعد أقل من أربع وعشرين ساعة.
مع الصواريخ التي كانت تقطع كل ليلة 1600 كيلومتر، فتتخطى القبة الحديدية، هازئةً بها إذ هي أمام رشقاتها كأعجاز نخل خاوية، كانت تتبدى بدرجة فاضحة، الهشاشة البنيوية لمجتمع الاستيطان.
ذاك المجتمع العسكري الذي يبلغ عدد جنود الاحتياط فيه، بحسب التقديرات الإسرائيلية الرسمية، ما لا يقل عن 465 ألفًا، وبنسبة حوالي 5% من إجمالي السكان البالغ تعدادهم نحو تسعة ملايين -وهي أعلى النسب عالميًا- لا يقوى على امتصاص الضربات، وليس مؤهلًا لذلك.
هزمه الخوف وجدانيًا في داخله، واستعمره الهلع من شعر رأسه إلى أخمص قدميه.

هذه مستوطنة عارية في الشارع، تشتم جيشها الذي يعجز عن حمايتها، وذاك رجل تبوَّل على نفسه لا إراديًا من فرط الرعب، وأولئك يرومون الفرار من "أرض الميعاد" عبر زوارق الهجرة، إلى أي "مصيبة سوداء" في العالم، مقابل آلاف الدولارات.
مشاهد انهزامية فضَّاحة لا بد أن تستدعي المقارنة، بمشهد عودة النازحين الفلسطينيين إلى غزة، إبان هدنة مطلع العام الجاري.
كان الفلسطينيون يحثون خطاهم للعودة إلى ديارهم المحطمة، وأرضهم المجرَّفة التي قصفتها القنابل المحرمة دوليًا، ثم زُرعت الألغام بسخاء في كل شبر من ترابها، على وقع الأهازيج الشعبية، والتهليل والتكبير.
كذلك هي العلاقة بين الإنسان والوطن؛ إن الوطن ليس مكانًا نسكنه، وليس فندقًا نطلب أن نحصل خلال إقامتنا المؤقتة في أجنحته الملكية، على أفضل الخدمات، لكنه ذاك المعنى العميق الذي يسكن ذواتنا.
هذا "شعب" لا ينتمي للمكان، فيفر تاركًا "الجمل بما حمل"، مما دفع سلطاته إلى "حبسه قسريًا" بعد غلق المطارات، وتجميد الرحلات الجوية، وعلى النقيض ذاك شعب جذوره عميقة كأشجار الزيتون، يتشبث بترابه حتى رمقه الأخير، رغم ضراوة مؤامرات انتزاعه منها.
ما كشفته الصواريخ الإيرانية
لم تكشف الصواريخ الإيرانية إذن، عن فشل أجهزة الرصد والاعتراض الإسرائيلية فحسب، بل فضحت المجتمع الاستيطاني أمام نفسه، وأظهرته آيلا للسقوط في أية لحظة، وأكدت أن بقاءه حتى اللحظة الراهنة، ليس لمنعته ومناعته، بل لأنه لم يُختبر اختبارًا حقيقيًا.
"يجب أن نقول الحقيقة، لماذا لا نعترف أننا جميعًا زوار ولا يمكننا الاستقرار هنا؟".

كذلك طرحت شابة صهيونية، عبر شبكة "بي بي سي" البريطانية، السؤال الذي لا يؤرقها وحدها، بل يدور كذلك في عقول الباحثين الاستراتيجيين وصنّاع القرار السياسي، ليس في إسرائيل وحدها، بل أيضًا في أعرق مراكز الدراسات على مستوى العالم.
بغض النظر عن أن الحرب آلت إلى نهاية عسكرية، غير حاسمة لجميع الأطراف، وبمنأى عن ما يتردد من قِبل الحاخامات، تحت عنوان "لعنة العقد الثامن"، وما يتصل بها من أن أي دولة إسرائيلية عبر التاريخ، لم تُعمِّر أكثر من ثمانين عامًا، فهذه هرطقات غيبية ليست علمية موضوعية، لكن الموضوعي والمجرد للغاية، أن دولة تطرح الأسئلة عن احتمالية زوالها، هي دولة تحمل في حمضها النووي "كروموسوم الفناء".
الانكشاف قد حدث فادحًا فاضحًا، والشرخ قد ظهر عميقًا غائرًا، والغرب الذي طالما اعتبر إسرائيل مشروعًا استثماريًا واستعماريًا في المنطقة، بات متأكدًا أن الرهان على بقائها رهان خاسر.
مع كل صاروخ كان ينطلق من إيران، فتدوي صافرات الإنذار في تل أبيب أو حيفا، كان جزء معتبر من "عقيدة بن غوريون" يتآكل، وكان النخر يعتري أساسات إسرائيل، تمهيدًا للحظة انهيار تقترب.
ولعلها تقترب بأسرع مما يمكن للعيون أن ترى.
بارك الله فيك وفي قلمك
رائع وممتع كالعادة
تحياتي لحضرتك
مبدع كعادتك صديقي العزيز