لم يعد دونالد ترامب مجرد حليف استراتيجي لإسرائيل، بل تحول في غضون ساعات قليلة إلى ما يشبه “الجندي” المتقدم في خدمة أهدافها العسكرية المباشرة. هذا هو الاستنتاج الأبرز الذي يفرض نفسه بعد التحول الدراماتيكي في موقف الإدارة الأمريكية تجاه إيران، والذي رصده عن كثب عامر مدني، مراسل وكالة أسوشيتد برس (AP) من قلب البيت الأبيض، مفسرًا تأرجح الولايات المتحدة بين ميل مُعلن للتفاوض على النووي الإيراني وتحركات وتصريحات تُظهر انجذابًا ترامبيًا لخيارات بنيامين نتنياهو العسكرية في المنطقة.
ففي خطوة مفاجئة، انتقل الرئيس الأمريكي خلال ثماني ساعات فقط من التلويح بصفقة نووية “ممكنة” إلى إطلاق تهديد وجودي لسكان طهران، مطالبًا إياهم بإخلاء مدينتهم. وهو تحول، استدعى قطع مشاركته في قمة مجموعة السبع (G7) والعودة العاجلة إلى واشنطن، ينزع عن الولايات المتحدة عباءة الوسيط، ويكشف عن انحياز كامل يضع البيت الأبيض في خندق واحد مع تل أبيب في مواجهة طهران.
يغوص هذا التحليل في الأبعاد الخفية لهذا الموقف، مستكشفًا كيف أن المتطلبات الميدانية الإسرائيلية هي التي تملي الآن على ما يبدو أجندة واشنطن، وكيف يجد ترامب نفسه في صدام مباشر مع وعوده الانتخابية وقاعدته السياسية، ليطرح السؤال الأهم: هل سيُقدم الرئيس الأمريكي على مغامرة الانخراط المباشر في الصراع من أجل تحقيق نصر استراتيجي لإسرائيل، وما هي تكلفة هذا القرار؟
اقرأ أيضًا: هل تصلح سياسة “جز العشب” الصهيو-أمريكية مع إيران؟
انقلاب في ثماني ساعات
بدأت فصول القصة أثناء وجود دونالد ترامب في كندا للمشاركة في قمة مجموعة السبع (G7)، حيث جاء الإعلان المفاجئ باختصار زيارته والعودة العاجلة إلى واشنطن. لم يكن الأمر يتعلق باجتماع روتيني، بل بمحادثات طارئة مع فريقه للأمن القومي لمناقشة التطورات المتسارعة في الصراع الإسرائيلي-الإيراني.
وفقًا لتحليل وكالة أسوشيتد برس، فإن هذا التحول السريع يكشف عن طبيعة اتخاذ القرار في دائرة ترامب، حيث يمكن لمتغير واحد أن يقلب الاستراتيجية بأكملها.
انتقل الخطاب الرئاسي من لغة “صناعة الصفقات” التي طالما افتخر بها ترامب، إلى لغة التهديد العسكري الصريح.
تجلى ذلك بوضوح في منشور له عبر منصته “تروث سوشيال”، والذي لم يترك مجالًا للشك في نواياه: “كان ينبغي على إيران توقيع “الاتفاق” الذي طلبتُ منهم توقيعه. يا له من عار، يا له من إهدارٍ للأرواح البشرية. ببساطة، لا يمكن لإيران امتلاك سلاح نووي. لقد كررتُ ذلك مرارًا وتكرارًا! على الجميع إخلاء طهران فورًا!”.
صب ترامب – كما هي عادته – الزيت على النار، مستخدمًا لغة لا يمكن تفسيرها إلا على أنها إنذار يسبق عملًا عسكريًا وشيكًا. لكنه، عندما سُئل لاحقًا لتوضيح تعليقه الصادم، اكتفى بالقول إنه يريد “أن يكون الناس آمنين”، وهو تبرير غامض يفتح الباب على مصراعيه أمام تفسيرات متعددة، أقلها تفاؤلًا هو أن الإدارة الأمريكية بدأت بالفعل في تهيئة الرأي العام لتدخل عسكري مباشر.

الضربة الأمريكية ستكون القاضية
لفهم الدوافع الحقيقية وراء هذا التحول الأمريكي المفاجئ، لا بد من تحليل المعطيات الميدانية من المنظور الإسرائيلي.
تشير التقديرات الاستراتيجية في تل أبيب، بعد خمسة أيام من الضربات الصاروخية المكثفة، إلى أن أضرارًا بالغة لحقت بالبنية التحتية العسكرية والصناعية الإيرانية. وتعتقد القيادة الإسرائيلية أنها باتت على وشك تحقيق هدفها الأسمى: توجيه “ضربة قاضية” للبرنامج النووي الإيراني برمته.
لكن هذه الضربة النهائية، التي تستهدف شل قدرات إيران النووية لعقود قادمة، تتطلب إمكانيات عسكرية تتجاوز ما يمتلكه الجيش الإسرائيلي حاليًا.
الهدف الأكثر تعقيدًا وصعوبة هو منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم، المحصنة في عمق جبل صخري قرب مدينة قم، مما يجعلها منيعة أمام معظم الذخائر التقليدية.
لتدمير هذا الموقع، تحتاج إسرائيل إلى سلاح أمريكي حصري وفائق القوة: القنبلة الخارقة للتحصينات GBU-57 Massive Ordnance Penetrator (MOP).
قنبلة GBU-57 (MOP) هي قنبلة دقيقة التوجيه، تزن حوالي 13,600 كيلوجرام (30 ألف رطل)، ومصممة خصيصًا لاختراق أهداف محصنة تحت الأرض. تعتمد على كتلتها الهائلة وقوتها الحركية لاختراق ما يصل إلى 60 مترًا من الخرسانة المسلحة قبل أن تنفجر، مما يجعلها السلاح الوحيد في الترسانة الأمريكية القادر على الوصول إلى منشآت مثل فوردو.
المشكلة التي تواجهها إسرائيل مزدوجة: فهي لا تمتلك هذا النوع من القنابل، والأهم من ذلك، أنها لا تملك المنصة القادرة على حملها وإلقائها، وهي قاذفات الشبح الاستراتيجية B-2 Spirit، التي تحتكرها القوات الجوية الأمريكية بشكل كامل.
هنا، يكمن جوهر الدور الأمريكي الحاسم.
يرى تحليل وكالة أسوشيتد برس أن هدف إسرائيل الاستراتيجي بتدمير برنامج إيران النووي أصبح مرهونًا بشكل كامل بالحصول على دعم عسكري أمريكي مباشر ونشط.
لم يعد الأمر يتعلق بمساعدات مالية أو دعم لوجستي، بل بتوفير أسلحة استراتيجية ومنصات إطلاقها، أو حتى تنفيذ الولايات المتحدة للضربة بنفسها. بهذا المعنى، لم يعد قرار ترامب مجرد موقف سياسي، بل تحول إلى قرار عسكري يحدد مسار الحرب، ويجعل من الرئيس الأمريكي عنصر تمكين أساسيًا في الاستراتيجية الهجومية الإسرائيلية.
بناء الذرائع.. تهيئة المسرح للتدخل
تدرك إدارة ترامب أن الانخراط المباشر في حرب بالشرق الأوسط يحمل مخاطر سياسية هائلة، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. لذلك، بدأت عملية مدروسة ومتدرجة لبناء حالة عامة تبرر هذا التدخل وتجعله مقبولًا لدى الرأي العام الأمريكي.

تتجلى هذه العملية في خطوات عدة:
– إعادة تموضع القوات: أعادت وزارة الدفاع الأمريكية بالفعل نشر بوارج حربية وطائرات مقاتلة في منطقة الخليج والشرق الأوسط. ورغم أن البنتاجون وصف هذه الخطوة بأنها “إجراءات دفاعية لردع العدوان”، إلا أنها تحمل رسالة استعداد هجومي واضحة، وتضع الأصول العسكرية الأمريكية في وضعية تسمح بشن ضربات سريعة.
– استخدام الإعلام لتوجيه الرأي العام: فور الإعلان عن عودة ترامب الطارئة، أوفد البيت الأبيض وزير الدفاع بيت هيجسيث للظهور في برنامج بارز على شبكة “فوكس نيوز”، الحليف الإعلامي الأبرز للإدارة.
كانت رسالة هيجسيث مصممة بعناية لتبدو حازمة ووطنية: “ما تشاهدونه في الوقت الفعلي هو السلام من خلال القوة، وأمريكا أولًا”. يرى محللون أن هذه العبارة هي غطاء كلاسيكي لتبرير الاستعدادات العسكرية تحت ستار السعي للسلام، وهي صيغة استخدمتها إدارات سابقة لتمهيد الطريق أمام التدخلات العسكرية.
– تجاهل متعمد لتقارير الاستخبارات: في خطوة لافتة تكشف الكثير، رفض ترامب بشكل قاطع شهادة مديرة الاستخبارات الوطنية، تولسي جابارد، التي أكدت أمام الكونجرس في شهر مارس أن جميع وكالات التجسس الأمريكية الـ17 لا تعتقد أن إيران تعمل على بناء سلاح نووي. كان رد ترامب حاسمًا وعدائيًا: “لا يهمني ما قالته. أعتقد أنهم كانوا قريبين جدًا من امتلاكه”.
يشير هذا الرفض العلني لإجماع أجهزة استخباراته، بحسب تحليل (AP)، إلى أن القرار السياسي قد تم اتخاذه مسبقًا، وأن الإدارة لم تعد تبني سياستها على تقييمات موضوعية، بل تبحث بنشاط عن تبريرات لقرارها.
اقرأ أيضًا: الحرب الإسرائيلية الإيرانية.. خيارات الردع والمواجهة في أخطر أزمات الشرق الأوسط
انقسام “ماجا”.. المراهنة بالقاعدة الانتخابية
الأمر الأكثر تعقيدًا بالنسبة لترامب هو أن هذا التوجه نحو الحرب يهدد بتفكيك التحالف السياسي الذي أوصله إلى السلطة. فقاعدته الانتخابية، المعروفة بشعار “لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا” (MAGA)، منقسمة بشكل حاد حول قضية التدخل العسكري الخارجي.

التيار الانعزالي المناهض للحرب: يمثل هذا التيار شخصيات مؤثرة تحظى بمتابعة واسعة، مثل المعلق الإعلامي تاكر كارلسون، والنائبة مارجوري تايلور جرين، ومؤسس منظمة Turning Point USA تشارلي كيرك. يرى هؤلاء أن جر الولايات المتحدة إلى حرب للدفاع عن إسرائيل ضد إيران هو خيانة مباشرة لوعد ترامب الأساسي بإنهاء “الحروب التي لا نهاية لها” وإعادة القوات الأمريكية إلى الوطن.
وقد بلغ الأمر بتاكر كارلسون حد وصف ترامب بأنه “متواطئ في عمل حربي”، مما دفع ترامب إلى مهاجمته شخصيًا وبشكل لاذع، في مؤشر على حجم التوتر داخل معسكره.
تيار الصقور الداعم للتدخل: على الجانب الآخر، يقود هذا التيار أعضاء بالشيوخ نافذون مثل ليندسي جراهام، الذي يرى في هذه اللحظة فرصة تاريخية لا يمكن تفويتها. يحث جراهام الرئيس على “المضي قدمًا بكل قوة” في دعم إسرائيل، معتبرًا أن هذه هي اللحظة المناسبة لـ”توجيه ضربة حاسمة” للنظام الإيراني وتدمير برنامجه النووي مرة واحدة وإلى الأبد. ويرى هذا التيار أن إيران “لعبت لعبتها القديمة مع الرجل الخطأ”، وأن استعراض القوة هو الخيار الوحيد.
هذا الانقسام الأيديولوجي العميق يضع ترامب في مأزق حقيقي. فبينما يدفعه ولاؤه العميق لإسرائيل ورغبته في الظهور بمظهر القائد الحاسم نحو تبني الخيار العسكري، فإن غريزته السياسية تحذره من أن مثل هذه الخطوة قد تكلفه أصوات قاعدته الأساسية التي انتخبته لإنهاء الحروب، لا لإشعالها.

رئيس عند مفترق طرق
يقف دونالد ترامب اليوم عند نقطة تحول مفصلية قد تحدد إرثه الرئاسي. لم يعد السؤال هو ما إذا كان سينجح في التوصل إلى “صفقة كبرى” مع إيران، بل ما إذا كان سيأمر الجيش الأمريكي بتقديم الدعم اللازم لإسرائيل لتنفيذ ضربتها الحاسمة.
إن مواقفه الأخيرة، وتحركاته العسكرية، وتجاهله لتقارير استخباراته، كلها ترسم صورة رئيس تخلى عن عباءة الوسيط ليرتدي بزة جندي في جيش حليف. لقد تحول، في نظر الكثيرين، من رئيس للولايات المتحدة إلى عنصر أساسي في استراتيجية عسكرية تخدم مصالح تل أبيب الوجودية.
والقرار الذي سيتخذه، سواء بتزويد إسرائيل بقنابل GBU-57 أو بتقديم دعم مباشر آخر، سيجعله مشاركًا فعليًا في الحرب. وسيكشف المستقبل القريب ما إذا كان “الجندي ترامب” سينفذ المهمة، والأهم من ذلك، ما هي التكلفة التي ستتحملها الولايات المتحدة، والمنطقة بأكملها، نتيجة لهذا القرار.
