في مجموعتها القصصية "مقطوعات على الحب والخوف" تكتب إيمان عبد الرحيم عن الكثير مما نعيشه ويختمر في نفوسنا وعقولنا دون أن نفصح عنه، تكتب عن ذاكرتنا وأحلامنا ومشاعرنا وأفكارنا وهواجسنا التي ندركها بصورة مباشرة، أو تدور في عالم اللاوعي مثل طيف نشعر بأثره ولا نراه.
المجموعة القصصية الصادرة حديثًا عن الكتب خان، تبدو مثل مقطوعات موسيقية تُعزف على أوتار من مشاعر الحب والخوف والقلق والحنين والفقد والتيه والأحلام المؤجلة؛ بإيقاعات متنوعة فيها من الجموح والتجريب والجرأة والطموح على مستوى السرد واللغة والرمز والأفكار والخيال.
تعود إيمان عبد الرحيم بعد أكثر من عشر سنوات على صدور روايتها الأولى "الحجرات وقصص أخرى" الحائزة على جائزة ساويرس في 2015، بعمل أدبي جديد مشحون بمشاعر وأفكار وتأملات ورؤى متنوعة عن الحب والخوف، الماهية والوجود، والحياة والموت، والوعي واللاوعي.
نقرأ على الغلاف الخلفي للمجموعة القصصية تقديم موجز يشير إلى أن الكاتبة تأخذنا عبر عوالم لا معقولة في رحلة نفسية تعكس تعقيدات الإنسان واهتزازاته الداخلية، حين يجد كل شخص نفسه في مواجهة مرآة تعكس صورًا متعددة لشخصياته، نتأرجح بين الفصام والوعي، الحلم واليقظة، والموت والحياة.
عن هذا الحب والخوف والكتابة والتجريب وسنوات الغياب، حاورنا إيمان عبد الرحيم.

"مقطوعات على الحب والخوف".. عنوان يطرح كثير من التساؤلات عن مشاعرنا، كيف جاء اختيار العنوان خاصة إنه لا توجد قصة في المجموعة تحمل هذا العنوان، وما الذي يعنيه لك الحب وكذلك الخوف ‘ما الذي يطرأ في بالك عند الحديث عن أي منهما‘؟
لا يشير العنوان إلى قصة بعينها، بل يعمل كـإطار شعري أوموسيقي جامع، تمامًا كما تُقسم المقطوعات الموسيقية إلى تنويعات على لحن رئيسي، حيث يوحي بأن هذه القصص جميعها هي تنويعات أدبية/إنسانية على موضوعين وجوديين هما: الحب والخوف.
كل قصة هنا، هي "مقطوعة" منفردة، تعزف لحنًا صغيرًا على وتر الحب أو وتر الخوف، أو على الوترين معًا: لا قصة تخلو من الشعورين: كالحب بين الأخت وأختها والأم وأولادها، والبنت وأبيها، والزوجة لزوجها.
كل قصة هنا، هي "مقطوعة" منفردة، تعزف لحنًا صغيرًا على وتر الحب أو وتر الخوف، أو على الوترين معًا: لا قصة تخلو من الشعورين: كالحب بين الأخت وأختها والأم وأولادها، والبنت وأبيها، والزوجة لزوجها.
والخوف بأنواعه: الخوف النفسي، ومن الموت والفقد، الخوف من الجنون. الحب هنا ليس الحب الرومانسي التقليدي، بل هو الحب كعبء، كالتزام، كألم، كتضحية، كمنبع للخوف. والخوف هنا ليس خوفًا ظاهريًا، بل يعني أكثر بـ "اللايقين" من العقل، من الواقع، من الآخر، وهو يشمل كل خوف يسببه الحب.
تبدأ كل قصة في مجموعتك بآية قرآنية فيها من البلاغة والرمزية ما يجعلها تتجاوز كونها مقدمة محملة بالحكمة والعظة، لماذا اخترت هذه الثيمة، وكيف تتعاملين مع الحساسية المجتمعية والرقابية تجاه قداسة النصوص الدينية؟
كل آية هي باب تأويل للقصة لا تشرحها مباشرةً، بل تفتحها على احتمالات رمزية. واختياري لهذه الثيمة نابع من حبي وإعجابي الشديد بالنص القرآني، بغض النظر عن التأويلات الدينية، فكتاب القرآن كتاب شاعري بديع، لا يخلو من الجمال والخصوصية والحساسية الصالحين لكل وقت، وفرد، وزمان.
القصص لا تستخدم الآيات لتثبيت "رسالة دينية"، بل لتأكيد أن القرآن هو مرآة نرى فيها أنفسنا، مخاوفنا، وهشاشتنا، وأسئلتنا. كل آية تشتبك مع التجربة الشخصية والإنسانية المعاصرة، أحيانًا لتواسيها، وأحيانًا أخرى لتزيد من توترها.
القصص لا تستخدم الآيات لتثبيت "رسالة دينية"، بل لتأكيد أن القرآن هو مرآة نرى فيها أنفسنا، مخاوفنا، وهشاشتنا، وأسئلتنا. كل آية تشتبك مع التجربة الشخصية والإنسانية المعاصرة، أحيانًا لتواسيها، وأحيانًا أخرى لتزيد من توترها.
"القصص" معنى وجزء أساسي في النص القرآني، وفي مستهل مجموعتك القصصية تستدعي الآية القرآنية "فاقصص القصص لعلهم يتذكرون"ما الذي يعنيه لك القصص، وكيف تتأملين علاقة الأدب والنصوص الدينية؟
لا فرق عندي بين الأدب والنص الديني -مع أخذ القدسية في الاعتبار، من ناحية أن كلاهما محمل بالجمال والرمز.. القرآن كتاب أدبي في الأساس، واعجازه يكمن في جمال لغته وبلاغته. استخدامي للآية هو وسيلة لربط تجربة القص بجذر سردي مقدس، يُعلي من شأن المعاناة الفردية. أقول ضمنًا: القرآن لا يزال حيًا في تجاربنا النفسية والعاطفية، لا كوعظ، بل كمجاز مفتوح للمعنى.
يظهر الواقع والخيال في قصصك كوجهي عملة واحدة، ما يجعل كل ما يبدو غرائبي من أحداث طبيعي ضمن هذا العالم، كيف تتأملين هذه المساحة بين الواقع والخيال والأحلام، الوعي واللاوعي؟
اعمد في كتابتي على كسر الخط الفاصل بين الداخل والخارج، فأكتب أحلام تنزف إلى الواقع، كوابيس تتلبس اليقظة، شخصيات تنتمي لعالم الواقع وتُعامل ككائنات خرافية، أسئلة منطقية تتداخل مع رؤى غير منطقية.
أنا أرى الخيال ليس هروبًا من الواقع بل واقع موازِ تعيشه شخصياتي. الجنون وعالم اللاوعي هنا ليس مرضًا، بل شهادة على ما لا يحتمل الواقع قوله، بدون حقائق أو ثوابت: قصصي لا تسعى إلى تصوير "جنون الشخصية" بل تصوير جنون العالم نفسه.
الأسئلة والأفكار الوجودية عن ماهية الوجود، الحياة والموت، الإيمان والقدر والمصير، الروح والجسد، المظهر والجوهر، الوعاء والحقيقة وغيرها من الأفكار والتأملات، متى بدأ اهتمامك بهذه الوجودية والفلسفية وكيف تطور مع مرور الزمن؟
بدأ اهتمامي بالفلسفة مع بدء الإدراك وتكون المعرفة، أي منذ الطفولة، وتبلور وتطور عند وفاة أبي حين بلغت الرابعة عشر من عمري. كنتُ صغيرة بما يكفي لأتسائل دون خوف، وكبيرة بما يكفي كي أُدرك أن الإجابة قد لا تأتي أبدًا.
الأسئلة الجودية والفلسفة هنا ليست عن كتب قرأتها، بل عن تجارب عشتها، مع كل خسارة، مع كل صدمة، مع كل مرضٍ نفسي عاينتُه في ذاتي أو من أحب، تبددت فواصل اليقين، وظهرت الأسئلة ليس ترفًا فلسفيًا معرفيًا، بل وسيلة للنجاة.
الأسئلة الجودية والفلسفة هنا ليست عن كتب قرأتها، بل عن تجارب عشتها، مع كل خسارة، مع كل صدمة، مع كل مرضٍ نفسي عاينتُه في ذاتي أو من أحب، تبددت فواصل اليقين، وظهرت الأسئلة ليس ترفًا فلسفيًا معرفيًا، بل وسيلة للنجاة.
في قصصك جرأة وجموح للتجريب على مستوى البناء واللغة والأفكار المطروحة، ما هو طموحك في الكتابة، وهل التجريب بالنسبالك قيمة في حد ذاته أم وسيلة لغايات أخرى؟
أحب الكتابة المجنونة وأنفر العاقلة، هناك ملايين الكتب عن العقل والعاقلون، ماذا عن العوالم الأخرى؟ ماذا عمّ وراء العقل؟

لكي أمارس كتابة مجنونة فاللعب والتجريب هنا هما المفتاح، ليس كقيمة في حد ذاتهما وإنما كإطارين منطقيين لعوالم الكابوسية المشوشة.
طموحي في الكتابة ببساطة، في ملاحقة التجربة الإنسانية حتى في جنونها. أن يرى أحدهم نفسه في قلمي كمرآة ويقول: هذا أنا، لست وحدي هكذا! طموحي أيضًا، أن يخرج الكتاب ويُقرأ العمل، دون أن يفكر القارئ أو يميز نوع المؤلف، امرأة كانت أم رجلًا.
الأفكار والتأملات والتجارب والخبرات المرتبطة بعلم النفس والاضطرابات النفسية والعقلية لها حضور بارز أيضًا في قصصك، كيف تتأملين علاقة الأدب وعلم النفس، والقدرة الفن والأدب على رؤية وتحليل وفهم جوانب مختلفة من حياة الشخصيات؟
يهتم علم النفس بالتحليل والشرح، بينما الأدب والفن عمومًا يقدمان ويظهران التجربة. العالم كما تعيشه وتراه الشخصية، دون أحكام، ودون أبعاد لما هو واقع وما هو خيال. علم النفس معني بالتعافي والشفاء، أما الأدب فيعني بالشهادة والرؤيا: هكذا يبدو العالم حين تتشقق رؤيتك، ويتحول الحائط إلى ستارة، وسقف البيت إلى بحيرة خوف. يهمني أن أوضح أن ما يسميه علم النفس "اضطرابًا" قد يكون طريقة أخرى للفهم، أو الصراخ، أو النجاة.
يحظى سؤال الذاكرة وخاصة ذكريات الطفولة بحضور بارز في قصصك، ما الذي تعنيه لك الذاكرة، وبرأيِك إلى أي مدى نحن أبناء طفولتنا وذاكرتنا الأولى؟
الذاكرة ليست ماضيًا فقط، ليست شيئًا حدث وانتهى، بل شيء يحدث الآن بالنسبة لي، في كل نبضة، وكل كتابة، وكل سؤال. الذاكرة كائن حي، يتنفس ويتألم ويهاجم أحيانًا، ويواسي أحيانًا أخرى. أعيش داخلها أكثر مما أعيش في الحاضر، وأحيانًا أشك إن كان الحاضر موجودًا أصلًا خارجها.
نحن أبناء طفولتنا وذاكرتنا الأولى لأبعد مدى. اللحظة التي تشكّل فيها "معنى العالم"، اللحظة التي اكتشفنا فيها الحب والخوف لأول مرة. أول مرآة رأينا فيها أنفسنا، عبر عيون الآخرين ماما، بابا، أو تلك المعلمة في الصف الثالث. الطفل داخلنا لا يموت بمرور الزمن، بل يظل جالسًا في زاوية ما من أرواحنا، يراقب في صمت، ويُذكّرنا بأن كل شيء بدأ من هناك. الطريقة التي نُحب بها، نخاف ونكتب ونغضب بها، كلها امتدادات مباشرة لطفولتنا الأولى.
العلاقة مع الأب فيها كثير من النوستالجيا والمحبة والقدوة، بينما العلاقة مع الأم فيها بعض التوتر والقلق كيف تتأملين هذه المساحة والعلاقة مع الأبوة والأمومة؟
النوستالجيا لبابا هنا لأنه رحل عن عالمي باكرًا، وهي رغبة عميقة في الاحتفاظ بوجوده دومًا رغم الغياب. رغبة عميقة في الاحتفاظ بمن أحبني دون شروط. أما ماما في قصصي فهي ليست شريرة ولا باردة، لكنها: خائفة ومجهدة، قاسية أحيانًا بسبب الظروف. أحبها جدًا كما أبي، وأفرد لها رواية كاملة أعمل عليها حاليًا. الكتابة عندي ليست تمجيدًا ولا إدانة، بل مفاوضة داخلية. كل قصة فيها جزء يريد أن يصرخ في وجه الأم، وآخر يريد أن يحضنها. وكل سطر عن الأب هو صلاة خفية كي يعود.
في قصة بعنوان بابا نقرأ في بدايتها "إيمان ترغب في أن تكتب عن إيمان. نادرًا ما تكتب إيمان عن نفسها بصورة مباشرة"، إذن لماذا لا تكتب إيمان عن نفسها بصورة مباشرة، وما الذي تود أن تكتبه إيمان عن نفسها ولم تكتبه بعد؟
لطالما كتبت عن نفسي كثيرًا، فالكتابة عندي هي محاولة للنجاة والخلاص، هي أداة لعلاج مرضي النفسي "الاكتئاب"، لكني لم أجرؤ يومًا على نشر ما أكتبه عني بصيغته المباشرة.
في الرواية التي أعمل عليها الآن أكتب عن نفسي بصيغة مباشرة. احتجت للوقت والنضج الكافيين حتى أرى الأشياء بعين المشاهدة، بعد أخذ المسافات الكافية، قديمًا كنت غارقة في نفسي وذاتي وتجربتي، والآن وبعد سفري واستقراري خارج مصر، أتيحت لي الفرصة أخيرًا لأتأمل وأرى الأشياء من الخارج بحجمها. في النهاية أنا لا أكتب عن إيمان بشخصها، بل عن العالم كما خبرته وعرفته إيمان.
في قصصك إحالات وإشارات إلى أعمال أدبية وكتب بحثية من مجالات متنوعة، من أبرز الكتاب/ات المفضلين/ات لك، وأي المجالات لها حضور بارز في مكتبتك الشخصية؟
بدأت القراءة منذ نعومة أظافري، لذلك فمكتبتي تحوي كل شيء عن كل شيء تقريبًا. بصورة خاصة الأدب اللاتيني والروسي والتاريخ والفلسفة وعلم النفس. وأعتقد أنني تأثرت كثيرًا بأدب بورخيس وساراماجو وكورتاثر و وكاواباتا وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وجوجول. ولقد تأثرت كتابتي أيضًا بسينما ديفيد لينش للغاية.
استُقبلت روايتك "الحجرات وقصص أخرى" بحفاوة كبيرة وحصلت على جائزة ساويرس عام 2015، لكن لم تُنشر لك أي أعمال بعدها، أين كانت إيمان طوال هذه المدة، وكيف كانت علاقتك بالكتابة؟
كنت وما زلت أكتب، ملفات الوورد عندي مكدسة. الكتابة عندي كالماء والهواء. لكني لا أحب ما أكتبه، لا أرضى عنه بشكل كافي لأشاركه مع القارئ\الآخر. أعمل على التخلص من هذه الخصلة، لأني تعلمت أن الكتابة ليست مرآة نُلمعها، بل نافذة نفتحها، حتى لو دخل منها الغبار! وروايتي التي أعمل عليها حاليا تنشر قريبًا إن شاء الله.