تواجه السوق المصرية اليوم تداعيات هيمنة الشركات الأجنبية على نحو 80% من إنتاج الأسمنت، في ظل زيادات متكررة وغير مبررة في الأسعار، تثير تساؤلات واسعة حول آليات التسعير ومدى ارتباطها بالتكلفة الفعلية.
فرغم استقرار سعر صرف الدولار، ارتفع سعر الطن الواحد من الأسمنت بنسبة 33% منذ بداية العام، ليبلغ نحو 4000 جنيه في مايو، مقابل 3000 جنيه في ديسمبر الماضي، وسط وفرة في الإنتاج المحلي وتراجع نسبي في معدلات الاستهلاك.
هذا التناقض بين فائض المعروض وتسارع وتيرة رفع الأسعار يكشف عن اختلالات هيكلية في السوق، يعزّزها ضعف الرقابة ومحدودية المنافسة، ما يفرض ضغوطًا إضافية على قطاعي البناء والعقارات، ويقوّض بعض أهداف التنمية الاقتصادية.
يبلغ عدد شركات الأسمنت العاملة في مصر نحو 19 شركة، معظمها مملوكة لكيانات أجنبية، بإجمالي استثمارات تُقدَّر بـ4.5 مليار دولار. وتصل الطاقة الإنتاجية الكلية إلى ما بين 80 و82.5 مليون طن سنويًا، في حين لا يتجاوز الاستهلاك المحلي 50 مليون طن، وفق شعبة الأسمنت؛ ما يشير إلى وجود فائض كبير في السوق.
وعزَت شعبة الأسمنت بغرفة مواد البناء باتحاد الصناعات ارتفاع الأسعار في مايو إلى زيادة موسمية في الطلب، نتيجة اقتراب إجازة عيد الأضحى، حيث تسعى شركات المقاولات لتكثيف العمل قبل العطلة. كما أشارت إلى اقتراب نهاية العام المالي في 30 يونيو، ما يدفع المقاولين للإسراع في تنفيذ المشروعات للحصول على مستحقاتهم قبل بدء العام المالي الجديد في أول يوليو.
تعطيش السوق.. آلية ضغط تتكرر
يتهم أحمد الزيني، رئيس شعبة مواد البناء بالغرفة التجارية، شركات الأسمنت الأجنبية بتقليص المعروض عمدًا لخلق حالة “تعطيش” تبرر رفع الأسعار، في ظل غياب رقابة فعّالة على ممارساتها السوقية.
ويشير الزيني – في حديثه لـ فكر تاني – إلى أن هذه الشركات تستغل أي مستجدات في السوق لتحقيق أرباح إضافية، قائلًا: “شركات الأسمنت غالبًا ما ترفع الأسعار كلما سنحت الفرصة، وقد استغلت مؤخرًا توجه بعض الشركات الحكومية نحو التصدير، وفي مقدمتها إسمنت سيناء، لزيادة الأسعار”.

وفي عام 2024، تحولت شركة إسمنت سيناء – التي كانت تُعد عنصر توازن في السوق المحلي – إلى التصدير، بعدما لعبت دورًا محوريًا في ضبط الأسعار. وتمتلك الشركة خطي إنتاج بطاقة سنوية تصل إلى 2.9 مليون طن، وأسهمت وحدها بنحو 15% من صادرات مصر من الأسمنت خلال العام الماضي، وفق بيانات رسمية.
ويستعيد الزيني واقعة مماثلة حينما توقف المصنع ذاته عن العمل عام 2018 بسبب الاضطرابات الأمنية في سيناء، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الطن من 700 إلى 1800 جنيه، نتيجة استغلال باقي الشركات لتراجع المعروض المحلي.
وفي عام 2021، لجأت الشركات إلى جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية للمطالبة بخفض الإنتاج، بحجة حماية الاستثمارات في ظل تراجع الطلب ووفرة المعروض. وقد وافق الجهاز على القرار، وتم تمديده لثلاثة أعوام متتالية، في خطوة اعتبرها مراقبون المحرك الأساسي لموجة ارتفاع الأسعار الحالية.
قرار تقليص الإنتاج.. المحرك الخفي لأسعار الأسمنت
مع ارتفاع الأسعار المتتالي في 2025، تدخل جهاز حماية المنافسة وأعلن – قبل أيام – تعليق العمل بآلية خفض الطاقات الإنتاجية للمصانع حتى نهاية يونيو الجاري، في مسعى لزيادة المعروض واستقرار السوق. إلا أن القرار أعقبته زيادات جديدة في الأسعار تراوحت بين 70 و100 جنيه للطن، ما أثار شكوكًا بشأن جدواه وتأثيره الفعلي على توازن السوق.
هنا، يقول الزيني إن “تعليق القرار لا يكفي؛ فالشركات الأجنبية تسعى بالأساس إلى تعظيم الأرباح على حساب المستهلك”، بينما يقترح إلغاءً نهائيًا لهذا القرار الذي بدأ منذ أربع سنوات، إضافة إلى إعادة تشغيل ثلاثة خطوط إنتاج في إسمنت سيناء لتغطية السوق المحلية والتصدير، خاصةً مع تزايد وتيرة البناء في المدن الجديدة والمشروعات القومية.
“الأسمنت سلعة استراتيجية ولا يجوز تركها بالكامل بيد الشركات الأجنبية”؛ يضيف الزيني.
صناعة الأسمنت في مصر من أقدم الصناعات، بدأ إنتاجها عام 1911 بمصنع صغير في المعصرة قرب حلوان. وتأسست بعده عدة شركات مساهمة، أبرزها: إسمنت بورتلاند طره (1927)، بورتلاند حلوان (1929)، الإسكندرية بورتلاند (1949)، القومية للإسمنت (1956)، والسويس للإسمنت (1976). ومع بداية الألفية، اتجهت الدولة إلى خصخصة القطاع وبيع معظم الشركات إلى مستثمرين من القطاع الخاص، أغلبهم أجانب، ما أدى إلى تغيّر موازين السوق.

الهيمنة الأجنبية تُعيق التحديث
منذ انتقال ملكية أغلب شركات الأسمنت في مصر إلى مستثمرين أجانب، ظهرت مؤشرات على تقاعس هذه الشركات في تحديث تقنياتها الإنتاجية، رغم أن التكنولوجيا الحديثة تُعد أساسية في خفض استهلاك الطاقة، التي تمثل نحو 60% من التكلفة الإجمالية للإنتاج في هذه الصناعة.
ورغم وجود طاقات إنتاجية غير مستغلة لدى عدد من الشركات، فإن الوضع الاحتكاري وتوافر الحماية الحكومية شجّعا هذه الشركات على تجنب التوسع الإنتاجي أو فتح أسواق تصديرية جديدة، خاصةً في ظل المنافسة القوية خارجيًا، وهو ما ساهم في استمرار تحكمها بالأسعار داخل السوق المحلي.
وتشير دراسات متخصصة إلى أن العديد من هذه الشركات تربط اعتمادها على التكنولوجيا الحديثة بالمساعدات والمنح الخارجية فقط، دون استثمار فعلي من مواردها الذاتية. ورغم التأثير البيئي السلبي للنشاط، لم تفرض الدولة ضريبة بيئية تحت بند “الملوث يدفع”، والتي كان من شأنها أن تدفع هذه الشركات لإعادة هيكلة أنظمتها الإنتاجية بما يحقق كفاءة الطاقة ويحافظ على البيئة.
وقد موّلت مؤسسات دولية مثل بنك الاستثمار الأوروبي، والوكالة الفرنسية للتنمية، وبنك التعمير الألماني، والاتحاد الأوروبي، مشاريع للتحكم في التلوث الصناعي، قدّمت خلالها ملايين الدولارات على شكل منح لمصانع الأسمنت الكبرى في جنوب القاهرة، مثل القومية وطره وحلوان، لتنقية الهواء من الأتربة وتحسين الأداء البيئي.
وخلال المرحلة الثالثة من المشروع، جرى تخصيص 70 مليون يورو لـ14 مصنعًا في قطاعات الأسمنت والأسمدة والورق، بهدف توفيق أوضاعها البيئية، بينما قدمت المرحلتان الأولى والثانية تمويلًا بقيمة 220 مليون يورو، كان نصيب قطاع الأسمنت منها نحو 58 مليون دولار، ما يجعله من أكثر القطاعات حصولًا على المنح ضمن ما يُعرف بالصناعات “الأكثر تلويثًا”.
بحسب التقديرات، تستهلك صناعة الأسمنت قرابة 58.6% من المواد البترولية، و3.8% من الزيوت والشحومات، إضافة إلى 37% من الغاز الطبيعي والبوتاجاز، ما يجعلها من الصناعات الأعلى استهلاكًا للطاقة في البلاد.
لماذا رفع الأسعار؟
تعتمد مصانع الأسمنت في مصر على مواد خام محلية، وتستخدم الفحم كمصدر رئيسي للطاقة، وليس البنزين أو السولار، ما يعني أن أسعار الوقود التقليدي لا تؤثر فعليًا على تكلفة الإنتاج، وفقًا لتصريحات أحمد الزيني.
وبسبب أزمة الطاقة التي شهدتها مصر، وافقت الحكومة في مايو 2014 على تشغيل خطوط إنتاج مصانع الأسمنت وفقًا لما يُعرف بـ”مزيج الطاقة الأوروبي”، والذي يسمح باستخدام الفحم بنسبة تصل إلى 85%، إلى جانب المخلفات الصلبة، بينما يُخصص الغاز الطبيعي والمازوت لنحو 15% من الطاقة المستخدمة فقط.
ورغم ذلك، تتكرر اتهامات موجهة إلى شركات الأسمنت بالاتفاق على تحديد الأسعار، بما يخل بقواعد المنافسة الحرة. ويقول مراقبون إن قرابة 18 شركة أجنبية كبرى تتحكم فعليًا في السوق، ولديها القدرة على فرض السعر السائد، في ظل تفاوت يصل إلى 5% أحيانًا حتى بين منتجات الشركة نفسها، لأسباب غير واضحة لا ترتبط بتكاليف الإنتاج المباشرة.

ويشير محمد عبدالرؤوف، أمين صندوق اتحاد مقاولي التشييد والبناء، إلى هذه الأزمة موضحًا أن الأسمنت يُعد عنصرًا أساسيًا في عمليات البناء، لا غنى عنه، “كأنه رغيف الخبز في المعمار”. ويضيف: “من غير المنطقي أن تُصدَّر الشركات الأسمنت بسعر يبلغ 50 دولارًا للطن – أي ما يعادل 2500 جنيه – بينما يُباع في السوق المحلية بنحو 4000 جنيه، علمًا بأن سعر التصدير يشمل أيضًا تكاليف التعبئة والنقل”.
ورغم هذه الفجوة، سجّلت صادرات الأسمنت المصري نموًا بنسبة 17% خلال عام 2024 لتبلغ 913 مليون دولار، مقابل 779 مليونًا في 2023، وتصدّرت ليبيا قائمة الدول المستوردة بقيمة بلغت 149.8 مليون دولار، مقارنة بـ86.8 مليون دولار في العام السابق، بزيادة نسبتها 72%، وهو ما يُعزى إلى مشاركة شركات مصرية في مشروعات إعادة إعمار ليبيا.
غير أن عبدالرؤوف يرى أن أغلب شركات الأسمنت العاملة في مصر مملوكة لأجانب، وتقوم بتصدير منتجاتها لجهات تابعة لها في الخارج، ما يقلل من الأثر الإيجابي المباشر على الاقتصاد المصري. ويضيف أن قرار الحكومة في عام 2021 بخفض الطاقة الإنتاجية لمصانع الإسمنت أدى إلى تراجع الإنتاج من 100 مليون طن سنويًا إلى نحو 80 مليون طن، بينما يستهلك السوق المحلي نصف هذه الكمية فقط. وفي ظل ارتفاع الصادرات، بدأ يظهر نقص في المعروض المحلي.
