"مشدوهة كنت.. لم أستطع تمييز أي شيء حولي، الأصوات كانت مرعبة والزجاج يتكسر، لم أفكر في زوجي في هذه اللحظات، إنها القيامة، هكذا تخيلت وبكيت كثيرًا، وأنا أردد: "انتهت، حياتي انتهت!" هكذا وصفت رحمة أول ما شعرت به لـ فكّر تاني.
استيقظت رحمة -اسم مستعار- فزعة على دقات عالية، لم تستوعب ماهية هذه الدقات، تظنها زوجها الذي نامت وهي تنتظر عودته من عمله، لكنها اكتشفت أنها حبات البرد، نظرت من خلف الزجاج لتجد الإسكندرية غارقة في المياه والثلج.
دخلت رحمة في نوبة من نوبات الانهيار التي تزورها بين الحين والآخر، وضعت يديها على أذنيها، وضغطت بشدة علّ الأصوات تقل حولها، ألصقت جسدها بالجدار وأغمضت عينيها في صعوبة، سواد في سواد ولا رفاهية لديها حتى لإشعال ضوء الغرفة. ما عاشته رحمة كان قاسيًا عليها وهي وحدها تمامًا، فهي لم تتجاوز حتى الآن صعوبة الموقف، عروس جديدة لا تستطيع النوم وحدها بعد. وزوجها بالخارج تنتظر عودته من العمل.
تسكن رحمة الدور الخامس بمنطقة المنتزه، ويعمل زوجها بمكتب في منطقة الشاطبي، يعود كل يوم في الثانية بعد منتصف الليل، أخبرها هذه الليلة أنه سوف يتأخر لأن عمله لم ينتهِ بعد.
يرن هاتفها برقم والدتها، ترد سريعًا: "محمد عندك؟ مجاش لغاية دلوقتي وأنا مرعوبة". أخبرتها أمها باكية أن منزلها غرق وسيل المياه دمر الأثاث، وأيضًا "جهاز اختها" غرق بالكامل، ترجتها أن تغلق عليها شرفات بيتها بإتقان، وأن تضع قطع إسفنج كبيرة وراء كل واحدة منها كذلك باب الشقة، لكن رحمة لم تفعل.
أنهت اتصالها بأمها وكأنها بذلك تقطع خيوط التواصل بالعالم الخارجي، وطلبت زوجها، لكن هاتفه مغلق، والساعة تدق السابعة صباحًا، لم تتحرك من مكانها، أصابها الرعب والوهن وكل الأفكار السلبية في العالم.
"كان كابوسًا ليليًا.. نمت ليلتها وكانت السماء صافية لا سحب فيها، برق وإعصار من السماء وأصوات التكسير حولي وأنا لا أفيق، لا أستطيع تجاوز أن هذا حدث بعد زالزالين في الشهر ذاته".
تضيف، حتى لو بلغت الأمطار ذروتها قبل ذلك في الإسكندرية فإن هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها المياة تصل تقريبًا إلى الطابق الأول حينما نظرت في الصباح، حمدت الله أنها تسكن الطابق الخامس.
للمرة الأولى تكره رحمة الإسكندرية بعد أن كانت تخاف الخروج منها حتى للدراسة، لا تستطيع التجاوز، جسدها ممزق وتشعر بالألم ينخر فيه، تشعر بالضعف والعجز لأنه لا رجل هناك سوى زوجها، فمن يبحث عنه؟
عاد زوجها بعد مغرب يوم السبت، عاد بملابس جافة وشعر أشعث ومكتب غرقت أوراقه التي سهر عليها في شهره الأخير، يعمل زوجها بمكتب محاسبة، بعد هذه العاصفة سُرِّح جميع الموظفين لأنه لا أوراق باقية ولا أجهزة تعمل بسبب الغرق.
في فجر يوم السبت، الحادي والثلاثين من مايو، استيقظ أهل الإسكندرية على أمطار رعدية ضخمة، وبرق شديد، وعاصفة عنيفة لم يسبق حدوثها من قبل، مع سقوط كثيف للثلوج ورياح شديدة تجاوزت سرعتها 80 كم/ساعة. سقطت أعمدة الإنارة، وانهارت بعض الشرفات وأجزاء من المنازل خاصةً في البيوت العتيقة، وسيول جارفة سببت أضرارًا واسعة في المحال والسيارات، بالإضافة إلى امتلاء نفق سيدي بشر بالمياه والثلوج وتجمد السيارات فيه.
رفعت الحكومة حالة الطوارئ، وأجلت الامتحانات في المدارس والجامعات، كما أكدت أن هذه حالة غير مسبوقة لم تشهدها الإسكندرية من قبل. بالإضافة إلى أن هيئة الأرصاد الجوية التي أنبأت غرف العمليات لتكون بكامل استعدادها لم تتوقع أن تكون العاصفة بهذه الشدة. وهذا ما يدل على تسارع التغيرات المناخية في المنطقة.
لا قوت بعد اليوم
أمينة أيضًا تأثرت عربتها الخشبية بهذا السيل وغرقت فيه، هي أرملة تعول ابنتين، تعمل على عربة فاكهة في منطقة بحري، لم تحزن أمينة على العربة بقدر حزنها على ضياع اليوم دون بيع أو شراء وهي بالكاد تدبر أمرها باليومية وتجارتها في الفاكهة.
تقول أمينة لـ فكّر تاني، إنها لا تترك العربة في الشارع أصلًا، ولكن يومها لم تستطع جرها إلى الجراج بسبب آلام ظهرها ولسوء حظها أيضًا لم تستعن بأحد. وعندما نقر الثلج على زجاج غرفة السطوح التي تسكنها هي وابنتيها تأكدت أنها لا محالة غرقت ولم تستطع حتى تفقدها.
"كيف أشتري عربة جديدة وقد تكلفني أكثر من 500 جنيه، ولا يوجد جنيه واحد في جيبي، ولا أمتلك ناصية أضع عليها الفاكهة حتى".
لا يهمها ما حدث في العربة بقدر ما همها بكاء ابنتيها الهيستري، لأول مرة في حياتها تعجز عن طمأنتهم ولا أهل لهن سواها، تضرعت إلى الله أن يكشف عنهن الغمة واستضافتهن الجارة في بيتها وجلسن يذكرن الله كثيرًا حتى هدأت الرياح.
طمأنها زوج جارتها أنه لن يتركهن، ويتكفل بهن حتى يأذن الله وتعود لعملها مرة أخرى، أخبرها أن هذه الأزمة يجب أن تقف فيها الإسكندرية يدًا واحدة لتستعيد ثباتها مرة أخرى، مشيرًا إلى أنها ليلة لن ينساها أهلها حتى ولو نساها أهل مصر جميعًا.
تعبر أمينة عن فزعها لضياع مصدر رزقها، وتخطط للخدمة في البيوت أو حتى المساعدة في أعمال إزالة الحطام التي سببتها العاصفة، موضحة أنها لم يكن لديها خطة بديلة أبدًا، فهي تعمل على هذه العربة منذ أكثر من 11 عامًا.
ثلج لا يذوب في قلب نجاة
أما نجاة أبو رشة، السيدة العراقية التي تحتضن حفيدًا مريضًا بالتوحد، استيقظت على عاصفة فتحت كل شرفات المنزل، فزع قلبها وهي ترى كرات الثلج الذي لا يذوب في أنحاء البيت، لا تستطيع الوقوف في الثلج ولا تستطيع حماية المنزل من دخول المزيد.
فزع حفيدها ودخل في نوبته، لا يريد سماع أي شيء، وهي لا تستطيع تهدئته، كانت أكثر فزعًا منه وهي ترى "مشتركات الكهرباء" تسير في المياه أمامها في الشقة وتتصل بالتيار الكهربي الرئيسي، تجمدت مثل الثلج الذي تقف فيه، فزعت أكثر حينما رأت من الشرفة اقتلاع أعمدة الأنارة من الأرض.
تقول نجاة لـ فكّر تاني: "شوارع محطة الرمل امتلأت فجأة بالمياه، ما ذكرني بالرعب الذي عشته أثناء قصف بيتي في العراق قبل مجيئي لمصر، كنت خائفة جدًا من أن تشتعل النيران في منزلي كما اشتعلت قبل ذلك".. تستكمل: "كنت أظن أنني بمأمن هنا، وأن النيران لن تصيب بيتي مرة أخرى، لكن، في ليلة العاصفة فقدت كل يقين بعدم اشتعال النيران".
أهوال القيامة
كتب ولي الدين سعودي أحد أعضاء فرق الهلال الأحمر المصري، على صفحته الشخصية في فيسبوك، أن هذه الليلة كانت الأشد رعبًا في حياتهم، حتى إنه تخيلها أشبه بأهوال يوم القيامة من شدتها.
أوضح سعودي، أنه اضطر لاتخاذ قرارات مصيرية في مواجهة المجهول، فاستدعى فرق الإغاثة لتنفيذ أصعب المهام. وصف ما حدث من سقوط لافتات الإعلانات الكبيرة والصغيرة، وامتلاء الكافيهات والأنفاق على الكورنيش بالمياه والثلوج غير القابلة للذوبان، واقتلاع الأشجار والنخيل وأعمدة الإنارة من أماكنها، وارتفاع الأمواج، وانهيار أجزاء من العقارات، وتطاير الأسلاك الكهربائية واندلاع الشرر منها.
لم يشعر بالخوف على نفسه، بل كان قلقه الأكبر على الأرواح التي كانت في الشارع، بحسب تعبيره، سواء كانت حيوانات أو طيور أو أفراد الإنقاذ. أثقلته مهمة حمايتهم وخاف من عجزهم، وكان أكثر ما يشغله خطر الأسلاك الكهربائية التي تغمر الشوارع، وعدم ذوبان الثلوج.
وفي دراسة أجراها فريق من خبراء جامعة الإسكندرية، تبين أن ارتفاع حرارة البحر المتوسط يؤدي إلى تغيرات مفاجئة في الدورة الجوية فوق شمال مصر، وهو ما يسبب عواصف شديدة مباغتة. وترتبط هذه الظواهر بانهيارات متزايدة في البنية التحتية الساحلية لمدينة الإسكندرية.
هذا ما أكدته جريدة الجارديان البريطانية في دراسة نشرتها خلال مارس الماضي حول العواصف التي ضربت الإسكندرية، حيث أشارت إلى أن العاصفة الأخيرة لم تكن فقط عنيفة، بل جاءت دون إنذار كافٍ، وتسببت في أضرار جسيمة مرشحة للتكرار. كما لفتت الدراسة إلى أن أهالي الإسكندرية لاحظوا التغيرات المناخية المتسارعة خلال الأعوام الأخيرة.
ما حدث ليس صدفة
"لماذا لا يدرك الناس خطورة الوضع؟ ولماذا يصدقون في كل مرة شائعات تطعن في الوسط العلمي؟ كيف تمر العاصفة والناس لا تتخذ أي إجراءات وقائية؟"
يعبر الدكتور عصام حجي عالم الفضاء المصري، عن استيائه من تجاهل الناس لخطر ما يحدث في الإسكندرية، قائلًا: "الناس لا تخاف من العلم بل من الجهل، مؤكدًا أن ما جرى لم يكن مصادفةً".
شدد على أنه وفريقه البحثي حذّروا مرارًا من التغيرات المناخية التي تهدد المدينة، إلا أن الناس كانت تتعامل مع كل تحذير على أنه مجرد "حادثة نادرة"، متسائلًا: "إلى متى ستبقى نادرة؟" محذرًا من أن استمرار شدة العواصف قد يؤدي إلى انهيار الإسكندرية بالكامل.
في الشهادات السابقة، أكدت جميع النساء أنهن وجدن مكانهن في هذا العالم رغم الرعب والوهن، إذ بقين صامدات في مواجهة العاصفة، خائفات ولكنهن استمددن منها قوة غريبة لم يعرفنها من قبل. وحدها "رحمة" باغتها سؤال مؤلم: ماذا لو فقدت مكانها في العالم بعد انقضاء العاصفة؟
وقفت هشاشة الإسكندرية شاهدًا على كل ما جرى خلال ساعتين فقط؛ من عروس تبكي وحدتها في انتظار زوجها، وأرملة فقدت قوت يومها وتستجير بجيرانها، وجدة عراقية استغاثت بالإسكندرية بعدما ظنتها ملاذًا آمنًا. اهتزت ثقتها في آخر ما تبقّى من ملجأ، أمام ليلة لا تُنسى وثلج لا يذوب.
في النهاية، وبين صرخات الاستغاثة وسقوط العقارات، تتسع فجوة الأسئلة: هل ما تعيشه الإسكندرية مجرد عارض مناخي مؤقت، أم مقدمة لعصر جديد من التغيرات المناخية؟ وإذا كان اختبارًا للبنية التحتية والأرواح وقدرة الناس على الصمود، فهل سيتكرر؟ وإن حدث: من ينقذ المدينة وأهلها؟