كيف يصنع الخليج الجديد النظام الإقليمي؟ (2)

إنّ دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، تُساهم في تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط من خلال مزيج من القوة الاقتصادية، والمبادرات الدبلوماسية، ونهج الأمن المتطور، والمشاركة الاستراتيجية مع القوى العالمية.

تعمل دول الخليج على الاستفادة من مواردها الاقتصادية الكبيرة، وتسعى إلى تحقيق تحولات داخلية طموحة، وتشارك في جهود دبلوماسية ووساطة متنوعة، وتُوازن العلاقات استراتيجيًّا مع القوى العالمية، وتُشكّل بنشاط ديناميكيات الأمن في مناطق محددة لتصبح جهات فاعلة محورية في النظام الإقليمي المتطور في الشرق الأوسط.

أدوار متعددة

إن تركيزهم على الاستقرار والازدهار الاقتصادي، والبحث عن الأمن، وأدوارهم في الاستراتيجية الأمريكية، وتموضعهم في الرأسمالية العالمية، بالإضافة إلى تطلعات القيادات الشابة الحاكمة وطموحهم الإقليمي، هو المحرك الرئيسي لسياساتهم الإقليمية.

بن سلمان وبن زايد
بن سلمان وبن زايد

1. قيادة التحول والتكامل الاقتصادي:

تشهد دول الخليج تحولًا اقتصاديًّا جوهريًّا، بعيدًا عن الاعتماد الأساسي على الموارد الطبيعية، نحو اقتصادات متنوعة قائمة على المعرفة ومدفوعة بالابتكار. وهذا يتطلب جذب استثمارات وشركات أجنبية كبيرة، والاستثمار بكثافة في قطاعات البنية التحتية والتكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات. ويتطلب هذا التحول الاقتصادي الاستقرار الإقليمي ويعززه.

إن برامجهم للتنمية الاقتصادية والازدهار تُعتبر نماذج ومحركات للتغيير. تتضمن المقترحات داخل مجلس التعاون الخليجي تعميق التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، مما يعزز الترابط المتبادل.

يُسلط الضوء على نموذج دبي، الذي يعتمد على الشراكات بين القطاعين العام والخاص، والتجارة، والسياحة، والتمويل، كمثال على كيفية دفع التكيف الاستراتيجي والعمل مع شبكات التجارة للنمو وتوفير مساحة للمناورة في الاقتصاد العالمي. يوضح الدور التاريخي الذي لعبته دبي في شبكات تجارة الذهب كيف يمكن للتعاون مع الشبكات الدولية أن يُسهل الاندماج في الاقتصاد المعولم.

الهدف الاستراتيجي من قيادة أو المشاركة في التكامل الإقليمي هو تهيئة الشرق الأوسط ليكون معبرًا وممرًّا لخطوط التجارة العالمية، بما يتطلبه ذلك من تطبيع العلاقات السياسية بين دوله المختلفة، والقدرة على دمج بعض دول المنطقة – بما فيها إسرائيل – في مشاريع للتكامل الإقليمي المطروحة.

من هنا، تتجلّى أهمية الوضع الحالي لمشروع "ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا" (IMEC)، ويكشف عن عدة جوانب مهمة حول المنطقة والتجارة العالمية. لم يُصوَّر مشروع IMEC كطريق تجاري فحسب، بل كوسيلة لتعزيز الاستقرار الإقليمي وتطبيع العلاقات السياسية، لا سيما من خلال ربط الهند بأوروبا وأمريكا عبر الخليج العربي والأردن وإسرائيل. ويُعد وضعه الحالي، المتأثر بشكل كبير بحرب الإبادة الجماعية على غزة والصراعات الإقليمية المرتبطة بها، مؤشرًا واضحًا على "حالة عدم الاستقرار العميقة" التي لا تزال تعوق مشاريع التكامل الطموحة هذه. إن حقيقة أن بناء البنية التحتية اللازمة، وخاصة بين إسرائيل والأردن، يُعتبر الآن أمرًا "غير محتمل".

2. المشاركة في الدبلوماسية النشطة والوساطة:

تتصرف دول الخليج بشكل متزايد كوسطاء دوليين. تشتهر قطر بدورها في التوسط في إطلاق سراح الرهائن ومحادثات وقف إطلاق النار. استضافت المملكة العربية السعودية محادثات حول قضايا عالمية مثل أوكرانيا، وتُقدّم المشورة بشأن الصراعات الإقليمية.

هناك دفع واضح من جانب دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، نحو الدبلوماسية وخفض التصعيد مع المنافسين الإقليميين مثل إيران، وإعطاء الأولوية للاتفاقيات التفاوضية (مثل الاتفاق النووي المحتمل) على الصراع العسكري، لحماية بنيتها التحتية الاقتصادية.

لقد دعموا وشاركوا بشكل فعال مع الحكومات أو هياكل السلطة الجديدة في الدول الإقليمية الأخرى، مثل الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، سعيًا إلى الاستقرار ومواجهة التأثيرات المتنافسة.

3. التأثير على القوى الخارجية والسعي إلى التحوّط الاستراتيجي:

لقد أثبتت دول الخليج قدرتها على التأثير في بعض جوانب السياسة الأميركية المتعلقة بالمنطقة، ولا سيما في الدعوة إلى رفع العقوبات عن سوريا.

إنهم يستعدّون لنظام عالمي متعدد الأقطاب من خلال الحفاظ على العلاقات مع القوى الكبرى المتعددة، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وروسيا، رافضين أن يُجبَروا على اختيار أحد الجانبين.

تسمح لهم هذه الاستراتيجية "التحوّطية" باكتساب النفوذ والتأثير على عملية صنع القرار في القوى العظمى. إن شراكاتهم الاقتصادية، وخاصة في مجال التكنولوجيا والاستثمار مع دول مثل الولايات المتحدة والصين، تضعهم كمراكز مهمة في الاقتصاد العالمي.

محمد بن سلمان وأحمد الشرع وبينهما في الخلفية ترامب
محمد بن سلمان وأحمد الشرع وبينهما في الخلفية ترامب

4. الأدوار الأمنية المتطورة وتوقعات النفوذ:

في حين تعتمد دول الخليج على الدعم العسكري الأمريكي، تشارك أيضًا في تشكيل ديناميكيات الأمن على الأرض.

لقد قامت الإمارات العربية المتحدة ببناء شبكات أمنية وميليشيات عابرة للحدود الوطنية في دول مثل ليبيا واليمن والسودان والصومال، وغالبًا ما تدعم هياكل السلطة الانفصالية أو اللامركزية من خلال الوسائل المادية والعسكرية والمالية (مثل تجارة الذهب في السودان).

هذا النهج، الذي يُوصف بأنه "فرّق تسد"، يُرسّخ النفوذ ويُؤمّن نقاط الوصول الاستراتيجية مثل الموانئ – التي تحتل أهمية كبيرة في استراتيجية الإمارات.

تسعى دول الخليج إلى تحالف أمني مع الولايات المتحدة، وتدعو إلى تعزيز التكامل العسكري بينهم. ومن المتوقع أن يتحمّلوا العبء ويسعوا للحصول على عقود لإعادة الإعمار بعد الصراع في مناطق مثل سوريا وغزة ولبنان، مما يساهم في تشكيل المشهد المستقبلي لهذه المناطق.

5. التعامل مع التعقيدات الإقليمية ومواءمة المصالح:

إن العلاقة بين بعض دول الخليج وإسرائيل تتطور: ففي حين أن التطبيع المحتمل مع السعودية مرتبط بضمانات الأمن الأمريكية وأهداف القيادة الإقليمية، والوضع في فلسطين، تتمتع الإمارات بعلاقات وثيقة وتنسيق في ملفات عدة مع الكيان الصهيوني.

لقد سلط الصراع في غزة الضوء على الاختلافات مع السياسة الإسرائيلية، وأعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة بالنسبة للقيادة السعودية تحت تأثير الرأي العام. لقد أبرزت زيارة ترامب للخليج منتصف شهر مايو الماضي حالات بدت فيها المصالح الأمريكية أكثر انسجامًا مع دول الخليج منها مع إسرائيل.

أظهرت المملكة العربية السعودية وتركيا "توافقًا فريدًا" في دعم الحكومة السورية الجديدة والتأثير على القرار الأمريكي بشأن العقوبات، مما يشير إلى تقارب المصالح المحددة على الرغم من المنافسة الإقليمية الأوسع المحتملة.

الخليج والاستراتيجية الأمريكية

السياسات الخارجية المتطورة للولايات المتحدة ودول الخليج تعمل على إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية وهياكل النفوذ بشكل كبير، مدفوعة في المقام الأول بالتحول نحو المعاملاتية، والأولويات الاقتصادية، والمشهد الجيوسياسي المتغير، والتنافس الدولي مع القوى الدولية الأخرى.

أصبحت العلاقة بين الولايات المتحدة والخليج شراكة معاملاتية أكثر وضوحًا، حيث يشكّل التعاون الاقتصادي والتكنولوجي محور الاهتمام. ويمنح هذا التحول دول الخليج نفوذًا أكبر على السياسة الأميركية، كما يتضح من قرار رفع العقوبات عن سوريا.

إن الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية مثل شرائح الذكاء الاصطناعي يُعد عنصرًا أساسيًا في هذه الشراكة المتطورة، على الرغم من أنها تأتي مع المخاطر وتتطلب تدابير أمنية وتنازلات من الجانب الخليجي.

الرئيس الأميركي وولي العهد السعودي في صورة جماعية مع المشاركين في منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي في الرياض. (رويترز)
الرئيس الأميركي وولي العهد السعودي في صورة جماعية مع المشاركين في منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي في الرياض. (رويترز)

يتميز النهج الأمريكي في عهد الرئيس ترامب بأنه يعتمد على المعاملات إلى حد كبير ويستند إلى مبدأ "أمريكا أولاً". يتضمن ذلك إعطاء الأولوية للصفقات الاقتصادية، والاستثمارات المتدفقة إلى الولايات المتحدة، وخلق بيئة مستقرة مواتية للأعمال التجارية، والتي غالبًا ما تتجاوز اعتبارات السياسة الخارجية التقليدية أو مخاوف حقوق الإنسان.

هناك تحوّل ملحوظ لأمريكا بعيدًا عن الدور التقليدي لضامن الأمن في المنطقة. يبدو أن السياسة الأميركية تبتعد عن مركزية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتتعامل مع مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة الإقليمية، بما في ذلك بعض الأطراف المُهمّشة سابقًا. على سبيل المثال، عمدت إدارة ترامب إلى إجراء محادثات نووية مع إيران، وإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحوثيين لا يشمل إسرائيل، والتواصل بشكل مباشر مع حماس من أجل إطلاق سراح الرهائن، وفي بعض الأحيان دون إشراك مسؤولين إسرائيليين.

هذه الأمثلة وغيرها تُسلّط الضوء على التركيز على الصفقات المفيدة للولايات المتحدة بدلاً من إعطاء الأولوية للمخاوف الأمنية الإسرائيلية المحددة أو التطلعات السياسية الفلسطينية.

وتشمل التحولات السياسية المحددة رفع العقوبات عن سوريا، وهو القرار الذي تأثرت به المملكة العربية السعودية وتركيا، والذي اعتبره البعض خطوة محورية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة ومواجهة النفوذ الروسي والإيراني.

تستخدم الولايات المتحدة نفوذها الكبير في مجال التكنولوجيا، وخاصة في مجال رقائق الذكاء الاصطناعي، للتأثير على الشركاء، والسعي للحصول على تنازلات مقابل الوصول إلى التكنولوجيا.

في المقابل، تستعد دول الخليج لعصر متعدد الأقطاب وتهدف إلى تجنب الاضطرار إلى الاختيار حصريًا بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، وتسعى إلى الحفاظ على العلاقات مع العديد من الجهات الفاعلة العالمية. على سبيل المثال، توازن المملكة العربية السعودية علاقاتها مع الولايات المتحدة (الأمن) والصين (الاقتصاد).

تؤكد دول الخليج على نفوذها الإقليمي الأكبر وتتصرف بشكل أكثر استقلالية، وتُنوع شراكاتها خارج العلاقات التقليدية مع الولايات المتحدة.

من الملاحظ أنه يجري إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية وهياكل النفوذ في المنطقة.

تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل توترًا وتهميشًا ملحوظًا في بعض القضايا الإقليمية. وتُسلّط كثير من التقارير الضوء على الأولويات المتباينة، وخاصة فيما يتعلق بالمفاوضات مع إيران، والنهج المتبع في التعامل مع الصراع في غزة، والصفقات مع جماعات مثل الحوثيين.

في حين تظل إسرائيل حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة ومتلقيًا رئيسيًا للأسلحة، يبدو أن الديناميكية تتغير، حيث تشير بعض المصادر إلى أن المملكة العربية السعودية تشترك الآن في مصالح مشتركة أقوى مع واشنطن في بعض الأمور.

كما تشهد الديناميكيات الخليجية الداخلية والإقليمية الأوسع إعادة تشكيل. تتعاون بعض دول الخليج (السعودية، قطر) في قضايا إقليمية محددة، مثل التأثير على السياسة الأمريكية تجاه سوريا والمشاركة في جهود إعادة الإعمار هناك، بالإضافة إلى أدوار قطر مع إيران.

لقد بنت الإمارات العربية المتحدة، على وجه الخصوص، شبكات نفوذ واسعة النطاق، لا مركزية في كثير من الأحيان، من خلال تقديم الدعم المالي واللوجستي والأمني لوكلاء في بلدان مختلفة (ليبيا واليمن والسودان والصومال)، مما جعلها فاعلًا إقليميًا مهمًا، وإن كان ذا طبيعة محفّزة للصراعات.

كما تلعب كل من قطر والمملكة العربية السعودية أيضًا دورًا كوسيطين إقليميين أو دوليين.

يبدو أن إعادة ترتيب جديدة للمواقف تتشكل حول سوريا. بعد تغيير الحكومة، تتخذ القيادة السورية الجديدة خطوات نحو الاستقرار، وتتعاون مع الغرب في محاربة الإرهاب، وتنأى بنفسها عن إيران وحزب الله. ويُتماشى هذا مع أهداف المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، التي دعمت رفع العقوبات الأمريكية وتخطط للاستثمار في إعادة إعمار سوريا، مما يخلق ديناميكية جديدة للتعاون الإقليمي والنفوذ في سوريا.

إن العلاقات الاقتصادية المتنامية بين دول الخليج والصين تطرح بُعدًا جديدًا، مما يتطلب من دول الخليج الموازنة بين شراكتها الاقتصادية الحاسمة مع بكين واعتمادها الأمني على واشنطن. يشكّل الضغط الأمريكي على دول الخليج فيما يتعلق بروابطها التكنولوجية مع الصين نقطة توتر.

باختصار، أصبحت السياسات الخارجية لدول الخليج أكثر مرونة وأقل تقيّدًا بالتحالفات التقليدية. فبينما تنتهج الولايات المتحدة نهجًا أكثر تركيزًا على المعاملات والاقتصاد، تُعطي دول الخليج الأولوية لتحولها الاقتصادي وتسعى إلى الاستقرار من خلال شراكات متنوعة وتواصل مباشر مع خصوم سابقين مثل إيران.

تؤدي هذه السياسات المتطورة إلى تحولات في التحالفات القائمة، وظهور اصطفافات إقليمية جديدة، وزيادة نفوذ دول الخليج في السياسة الأمريكية المتعلقة ببعض قضايا المنطقة، وإعادة تقييم مُتصوَّرة للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية في قضايا معيّنة.

وفق هذه الديناميكيات المتغيرة التي تساهم دول الخليج في صنعها؛ كيف ستبدو ملامح النظام الإقليمي؟ سؤال يستحق المتابعة.

لقراءة الجزء الأول من السلسلة.. اضغط هنا

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة