قبل ساعاتٍ من اليوم العالمي لحرية الصحافة، شهدت نقابة الصحفيين المصريين، في الثاني من مايو الجاري، واحدةً من أشرس الجولات الانتخابية في تاريخها، لكنها كالعادة لم تخرج عن مسار التوازن والاعتدال في تعامل الجمعية العمومية مع الصناديق الانتخابية، ذلك رغم حالة الشد والجذب، والتلاسن في بعض الأحيان، بين حملات المرشحين، خاصةً على مقعد النقيب. ولا يخفى على أحدٍ في المجتمع الصحفي كمّ سحابات التخوفات التي تلبدت بها سماء هذه الانتخابات، من تكرار سيناريوهات نقاباتٍ أُخرى شهدت تدخلاتٍ خشنة.
لكن كما تعودنا أن يكون عنوان الديمقراطية في مصر، كائنًا في 4 شارع عبد الخالق ثروت، مقر نقابتنا التي علمتنا على مرِّ تاريخها، أن النصر الحقيقي لكل الصحفيين، في وحدة الصف، والنضال من أجل انتزاع حقوقنا في الحريات الصحفية، ويكمن ذروة سنامه في تحرير الكلمة الحرة من كل القيود. لذلك كله، مرّت عاصفة الانتخابات بسلام، ورضخ الجميع لاختيارات الجمعية العمومية التي لا تُخدع بالشعارات الزائفة، ولا تُبتز بالرشاوى الانتخابية، ولا تخضع لمخططات التفرقة وشرذمة الكيان النقابي.
مجلس متنوع
كان من الطبيعي أن تفرز هذه الانتخابات مجلسًا متنوعًا يتمثل فيه مختلف الأفكار والآراء والانتماءات السياسية. وكلنا - كصحفيين - ندرك أن هناك كتلتين ينطوي تحتهما مجلس النقابة الحالي: الأولى، تيار الاستقلال – الذي ينطوي تحته تيارات عدة – وهو الذي حصد الأغلبية المرجحة، وذلك لوجود النقيب خالد البلشي في صفه، والثانية لا تُخفي انتماءها للحكومة، وهنا أرفض نعتهم بتيار الدولة، لأني أرى أننا كلنا كصحفيين أبناء الدولة المصرية، التي من المفترض أن لا تفرق بين مصري وآخر.
وعلينا أن نؤكد أن الجمعية العمومية نجحت في توجيه رسالة لكل المهتمين بالشأن الصحفي، مفادها انحيازها لحرية الصحافة وقيم العمل النقابي، وتعاليها على كافة المغريات والرشاوى الانتخابية التي استمرت على مدار شهرين قبل انعقاد الانتخابات.
أرقام النتائج كشفت الحقائق
بتحليل دلالات النتائج لانتخابات الصحفيين، سنجد أنفسنا أمام مجموعة من الحقائق التي لا يستطيع أن ينكرها عقل، ومنها ما يلي:
تميزت هذه الانتخابات بمشاركة غير مسبوقة، حيث بلغ عدد الحضور 6051 صحفيًا من أصل 10,250 لهم حق التصويت، بنسبة مشاركة تجاوزت 59%، وهي من أعلى نسب المشاركة في تاريخ الانتخابات النقابية.
أكدت النتائج أن الجمعية العمومية عبّرت عن انحيازها الصريح لمرشح تيار الاستقلال، مجددةً تمسكها بالحريات الصحفية، واستقلال النقابة، ورفضها أي محاولات للوصاية عليها.
نجد أن الارقام التي حصل عليها "البلشي" والتي قدرت بـ 3346 صوتًا من أصل 5748 صوتًا صحيحًا، متفوقًا على منافسه الأبرز عبد المحسن سلامة الذي حصل على 2562 صوتًا، بفارق 784 صوتًا، تعد سابقة في تاريخ النقباء المستقلين، وتؤكد أن سياسات الحشد بالإجبار، التي اتبعتها المؤسسات الصحفية مع العاملين فيها، أتت بنتائج عكسية.
ضربة لسياسات التوجيه والتحكم
جاء فوز "البلشي" بمنصب النقيب بمثابة ضربة لسياسات النهج القائم على التوجيه والتحكم، وكشف تآكل قدرة قيادات المؤسسات الحكومية على فرض مرشحيها، حتى في أوساط المؤسسات القومية التي شهدت حملات ضغط وترويج غير مسبوقة.
على مستوى العضوية، كان هناك اضطرابًا في صف تيار الاستقلال، نتج عنه الفوز بمقعدين فقط من أصل 6 مقاعد، وتمثل هذا الاضطراب في كثرة المرشحين لتيار الاستقلال، ما ترتب عليه تشتيت الأصوات، في حين ركز الجانب الآخر على قائمة موحدة ، ونجح في الفوز بأربعة مقاعد.

أكدت النتائج أن معظم الفائزين المحسوبين على "قائمة الحكومة" خاضوا الانتخابات من قبل، وكانوا على تواصل دائم مع الصحفيين، ما يوضح أن الحضور في المجتمعات الصحفية، والتحركات الميدانية له أثر كبير في النتائج ، وخير مثال على ذلك فوز أيمن عبد المجيد وحسين الزناتي ومحمد شبانة الذي أدرك خطيئته في الدورة السابقة، والتي تُعرف بين الصحفيين بـ"تكفين النقابة"، وكانت سببًا في تغيبه عن المجلس خلال الدورة السابقة، لكنه صحح مساره بفتح نادي الصحفيين أمام الجميع، والتعهد بمزيد من الأنشطة النقابية التشاركية.
تمثيل الصحفيات في مجلس النقابة
تمثيل الصحفيات في مجلس النقابة ما يزال محدودًا. أظهرت الأرقام أن الجمعية العمومية لا تزال على قناعتها بالاكتفاء بمقعد وحيد للصحفيات، رغم أن الصحفيات يمثلن أكثر من ثلث الجمعية العمومية، وأن هذه الدورة الانتخابية شهدت تعدد المرشحات لمقاعد العضوية والنقيب.

تعكس النتائج رفضًا كبيرًا من قبل الجمعية العمومية للصحفيين، لأي تدخلات من خارج الإطار النقابي، وتؤكد أن فرض الرقابة والوصاية من قبل القائمين على المؤسسات الصحفية أصبح "ورم خبيث"، يجب استئصاله من الجسد الصحفي.
أبرزت نتائج هذه الانتخابات كوادر نقابية شابة ومستقلة، تشكل نواة لقيادات مستقبلية واعدة، منهم من نجح مثل محمد السيد، وإيمان عوف صاحبة التاريخ النضالي، ومنهم من سيكون حصانًا أسودًا في الدورات الانتخابية القادمة، مثل فيولا فهمي، وأحمد عاطف، وخيري راغب، وعلاء عمران، وغيرهم، وذلك بخلاف قيادات نقابية لم يحالفها الحظ، ولكن ستكون حاضرة بقوة في المرحلة المقبلة، ومنهم النقابي المخضرم محمد خراجة، وعمرو بدر، وحماد الرمحي، وهاني عزت.
عبّر الصحفيون من خلال صناديق الاقتراع عن تطلعهم إلى مجلس قوي، يسعى لتحقيق حياة كريمة لأرباب القلم، وقادر على انتزاع الحقوق الاقتصادية والمهنية، دون التفريط في القيم النقابية.
انحياز لصالح تيار الاستقلال
نجحت الجمعية العمومية في التصدي لكل محاولات شراء الأصوات أو تمرير "الرشاوى الانتخابية"، ما يعكس حرص الصحفيين على كرامة مهنتهم ونقابتهم، وصوتت عقابيًا لمن تورط في هذه الظاهرة.
نتائج الانتخابات أظهرت انحيازًا لصالح تيار الاستقلال النقابي، لدعمه في معركته لتحرير الصحافة من القيود المفروضة عليها، والعودة لرحابة التنوع في المعالجات الصحفية في الملفات المختلفة.

من المؤشرات الجيدة في هذه الانتخابات، موقف الحكومة من قضية زيادة البدل، حيث حرصت على عدم منح أي من المرشحين الإعلان عن قيمة هذه الزيادة، واكتفت بتصريح وزير المالية بإعلان أن هناك زيادة قادمة لم تحدد، وأرى أنها بداية لتحرير ملف "زيادة البدل" من شباك الوعود الانتخابية.
كان من الواضح أن الوعي الجمعي للجمعية العمومية في هذه الانتخابات، لم تغب عنه القضية الفلسطينية، والرفض التام لأي من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأن هذه ثوابت راسخة في الضمير النقابي العام. وظهر ذلك بوضوح في هتافات أنصار المرشحين الناجحين بمختلف توجهاتهم، عقب إعلان النتائج.
تطلعات واجبة النفاذ
نجحت انتخابات الصحفيين بمصر في ترسيخ صورة ذهنية عن نقابتنا في الضمير الجمعي للمجتمع المصري، مفادها أن نقابة الصحفيين ما تزال قلعة وطنية عصية على الترويض، منحازة لمصلحة الوطن، محصنةً ضد التطبيع مع الصهيونية، وأن هذه الانتخابات كانت استفتاءً على هوية المهنة وحريتها.
ويتبقى على المجلس الجديد أن يكون على قدر المسؤولية المنوطة به، ولا يبدد جهده في النزاع على تقسيم مناصب المجلس الزائلة، وأن يتجه بقوة نحو تحقيق تطلعات الصحفيين، وأمانة المهنة في ظل ظروف سياسية مضطربة تسود المنطقة بل والعالم.
وأري أن أول واجبات هذا المجلس السعي بجدية لإنقاذ المهنة من وضعها المتردي، والعودة بها كقوة ناعمة للوطن، لا تؤثر في الواقع المصري فقط، بل تؤثر في مجريات الأحداث الإقليمية والمحلية، ولا يتثنى ذلك إلا من خلال عودة الصحافة لبراح الحريات الصحفية، والالتزام الكامل بكل المعايير المهنية.

فليس من الرشد أن تستمر أوضاع المهنة على ما هي عليه، والتي أدت إلى قبوع مصر في المركز 170 من أصل 180 دولة في مؤشر الحريات الصحفية الخاصة بمنظمة مراسلين بلا حدود، كما ترتب على هذا الوضع الهش، إغلاق عشرات الصحف، وحجب مئات المواقع، وتشريد آلاف الصحفيين، وتراجع غير مسبوق في توزيع الصحف، حيث لا يتجاوز التوزيع اليومي لأكثر من 75 صحيفة يومية وأسبوعية عن 200 ألف نسخة، وذلك بحسب إحصائيات رسمية وحقوقية، في حين كان الأهرام اليومي يوزع سابقًا أكثر من نصف مليون نسخة.
ملف الأوضاع الاقتصادية للصحفيين
ومن الملفات التي يتطلع الصحفيين أن يشتبك معها مجلسهم الجديد، ملف الأوضاع الاقتصادية للصحفيين ومؤسساتهم، ويكفي أن نعلم أن أكثر من نصف المؤسسات الصحفية (51.8%) لا تمتلك لائحة أجور واضحة، في حين أن النسبة الأكبر (50.5%) لا تطبق الحد الأدنى للأجور، بينما نسبة قليلة من المؤسسات الاعلامية (27.9%) تطبق الحد الأدنى للأجور، وأنه لا يتلقى 13.1% أي أجر على الإطلاق، بينما يحصل البعض على أجور تتراوح بين 1 و1000 جنيه مصري، وذلك بحسب استبيان للمؤتمر السادس لنقابة الصحفيين. وهذا يستوجب التخطيط الجيد لمواجهة الازمة الاقتصادية التي تحكم قبضتها على حياة الصحفيين.

ومن الملفات التي تحتاج الاشتباك الجاد من المجلس الجديد، ملف التشريعات الحاكمة للعمل الصحفي، ويكفي أن نعلم أن هناك 180 نصًا قانونيًا - بحسب إحصائيات منظمات قانونية - قيدت حرية التعبير والنشر، وذلك على الرغم من أن الدساتير المتعاقبة، ومنها دستور 2014، حرصت على ضمان حرية التعبير. ومن أمثلة هذه القوانين قانون الجريمة الإلكترونية، وقانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام رقم 92 لسنة 2016، ولائحته التنفيذية الصادرة في عام 2018، وقانون تنظيم الاتصالات وغيرها الكثير.
كما يتطلع الصحفيين لتحقيق حلم إصدار قانون تداول المعلومات، الذي وعد به "الحوار الوطني"، حيث تفننت القوانين بداية من القانون رقم 20 لسنة 1936 في شأن المطبوعات والنشر، مرورًا بقانون رقم 356 لسنة 1954 في شأن إنشاء دار الوثائق القومية، وقانون رقم (121) لسنة 1975 الخاص بالمحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وتنظيم أسلوب نشرها، وأيضًا قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937 بتعديلاته المختلفة، وقانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016، وصولًا إلى قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، في حرمان الصحفيين من حقهم في تداول المعلومات.
تبيض السجون من الصحفيين والإفراج عنهم
ومن الملفات الشائكة التي يطلع جموع الصحفيين لها، تبيض السجون من الصحفيين والإفراج عنهم، وأعلم أن "البلشي" بذل جهدًا كبيرًا خلال العامين الماضيين في هذا الملف، ومن قبله النقيب ضياء رشوان، لكن استمرار أكثر من 24 صحفيًا بالسجون حتى الآن يحتاج للدخول الفوري في مفاوضات مع المسؤولين، من أجل إنقاذ أسر هؤلاء الصحفيين من رق العوز الاقتصادي، والحرمان من عوائلهم، وكان هذا الملف على أولويات قائمة توصيات الجمعية العمومية الأخيرة.

كما على المجلس أن ينفذ توصية الجمعية العمومية بالتصدى لظاهرة الفصل التعسفي، الذي طال أكثر من 1500 صحفي على ىمدار السنوات السبعة الماضية، وذلك بحسب إحصائيات حقوقية، وإلزام مجلس النقابة بإحالة رؤساء التحرير ومجالس الإدارات المتورطين في ذلك لمجلس التأديب، والتأكيد على اعتبار الفصل التعسفي "خطًا أحمر"، وذلك إعمالًا لنص توصيات الجمعية العمومية.
تعديل لائحة القيد
وأختم هذه التطلعات بملف تعديل لائحة القيد بما يضمن إغلاق الأبواب الخلفية أمام غير الممارسين للمهنة، مع إلزام مجلس النقابة بمراجعة أوضاع الصحف دوريًا، ومنع القيد من الصحف المتوقفة أو غير الواضحة إداريًا، وفتح أبواب النقابة أمام صحفيي المواقع الإلكترونية والذين أصبحوا عصب العمل الصحفي في ظل التطور التقني والتحول الرقمي، وأيضًا تعظيم الاستفادة من مركز التدريب بالنقابة، وتحويله إلى كيان أكاديمي يمنح شهادات الدراسات العليا، ويُعترف بها من المجلس الأعلى للجامعات.
هذه ثلة من التطلعات التي ننتظر من مجلسنا الجديد أن يحققها على أرضية الواقع المهني، حتى يعود لمهنتنا مكانتها، وتقوم بدورها كقوة ناعمة للوطن، تؤثر في المحيط الإقليمي والعالمي، وتعيد من جديد جسور الثقة بينها وبين القارئ المصري، ويشعر أبناؤها بأنهم على أعتاب مرحلة جديدة.
إنها الصحافة المصرية يا سادة التي وقفت شامخة على مدار أكثر من 200 عام، وتستحق منا الآن أن نعود بها من جديد لمجدها.