في هذا العالم المليء بالتناقضات، بات من الطبيعي أن نجد أي قضية -مهما بلغت من وضوح أو تعقيد- محط خلاف كبير، فالمؤيدون والمعارضون ليسوا دائما على ضفتي نهر متقابلتين، أحياناً تجدهم يتزاحمون على نفس القارب، وآحيانا يختلفون بداخله، لذلك قد نجد خلافات عميقة أحيانا داخل نفس التيار، وربما في نفس الحزب، وقضية الإيجار القديم خير مثال لذلك، فاختلاف وجهات النظر والتحزب بين جبهة الملاك وجبهة المستأجرين امتدّت لتصل داخل احزاب الموالاة نفسها، فضلا عن التحزب أو الانقسام بين الجبهتين داخل كيانات المعارضة أيضا حسب موقع كل شخص من الأزمة.
أزمة مثيرة للجدل
ولطالما كان قانون الايجار القديم موضوعًا مثيرًا للجدل، حيث يعاني الملاك من دخل إيجار ثابت منذ عشرات السنين حتى آصبح لا يساوي شيئا مع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة المصرية طوال تلك السنوات، المالك يرى نفسه مظلوماً بقيمة إيجار أصبحت لا توازي تكلفة فنجان قهوة في مقهى متوسط. والمستأجر، من جانبه، لا ينكر اختلال المعادلة، لكنه يرفض أن يكون الحل بطرده إلى الشارع بعد عقود من الاستقرار، خصوصا أن عقود الإيجارات القديمة كانت بمثابة عقود البيع ويتم توريثها وظلت تلك العلاقة مستقرة حتى تغير النظام الاقتصادي للدولة وانخف سعر العملة وزاد التضخم.

لقد مرت عقود منذ وضع هذا القانون في المرحلة الاشتراكية، وأصبح إصلاحه أمرًا ملحًا. وإن الوضع شديد التعقيد والخطورة، وتحولت القضية لصراع إرادات ومصالح، وكلا الطرفان على صواب من وجهة نظري، فمصالح المالكين والمستأجرين تتصارع في معارك قانونية وإعلامية وسياسية، هذا الصراع يأتي نتيجة لاستمرار تطبيق قانون الإيجار القديم الذي تم تشريعه منذ عدة عقود، الذي أدى إلى توازن قوى غير مستقر بين الطرفين فكيف يكون القانون أكثر عدالة لكل من الملاك والمستأجرين، وكيف يكون التعديل مُرضي لجميع الأطراف.
معاناة الجميع
يعاني المالكين من القيمة الإيجارية الثابتة التي لم تتغير منذ عقود، مما أدى إلى تآكل دخلهم الحقيقي بسبب التضخم. هذا الوضع يجعل من الصعب على المالكين الحفاظ على صيانة العقارات وتحديثها، فكيف يُعقل أن يكون هناك مالك لعمارة تتكون من عشرات الشقق لكن لا يتحصلون ألا على جنيهات قليلة، أما عندما يرغب ابناؤهم في الزواج والاستقلال فيضطرون للبحث عن شقق بنظام الايجار الجديد والتي تكون بألاف الجنيهات، بالإضافة لعجز المالك الأصلي عن القيام بواجبه من الصيانة الضرورية للعقار نتيجة لشح الموارد.

من ناحية أخرى، يخشى المستأجرين من التشريد المفاجئ إذا تم تحرير القيمة الإيجارية بنفس معدلات الإيجار الجديد، أو حتى بعد ٥ سنوات هناك إمكانية للطرد الفوري كما تنص مسودة القانون المقترحة، ويعتقد المستأجرين أنهم سيواجهون صعوبات في العثور على سكن بديل بسبب ارتفاع أسعار الإيجار في السوق الحرة غير المنضبطة.
ويرى المستأجرون - الذين تقدر أعدادهم بأكثر من اثنين ونصف مليون أسرة - بأن لهم حقوق يجب وضعها في الاعتبار، ولا يجب إهدارها ، فلقد تحمل المستأجرون على مر السنوات تكاليف كبيرة أثناء استخدامهم للعقارات المؤجرة.
حقوق المستأجرين
من أبرز هذه الحقوق ما دفعوه من مقدم سواء رسمي أو غير رسمي تحت عنوان "خلو الرجل" حيث كان المستأجرون يدفعون مبالغ كبيرة مقدمًا للحصول على حق الإيجار، ويرى البعض بأن المبلغ يقدر بحوالي ٢٠٠-٣٠٠ جرام من الذهب بالإضافة إلى تكاليف التشطيب وإدخال المرافق الأساسية إلى الوحدات السكنية مثل الكهرباء والمياه والغاز، مما زاد من التزاماتهم المالية تجاه العقارات المؤجرة وهي مبالغ ضخمة بمقاييس وقتنا الحالي.
على مر السنوات، تحمل المستأجرون أيضًا تكاليف الصيانة المستمرة للعقارات، فالمالك الرسمي للمبنى أما عازف عن القيام بواتجباته أو لا يستطيع نتيجة قلة الموارد، مما أضاف أعباء مالية إضافية علي المستأجر الذي يتعامل مع العقار كأنه ملكه، كما أن عقود الايجار طويل المدى ظلت تعامل معقود التمليك لعشرات السنين، ولم تتغير تلك النظرة إلا بعد تغير النظام الاقتصادى وانهيار قيمة العملة.
كل طرف يرى نفسه صاحب الحقيقة، وأن الآخر في غيٍّ مبين. وهذا، للأسف، لا يقتصر على السياسة فقط، بل يتسلل إلى كل جوانب الحياة العامة. الاختلاف في الرأي بات يُفهم كخيانة، والخيانة لا تُغتفر، فيُعلَّق الناس على مشانق إلكترونية من البلوك والتجاهل والقطيعة.
حل توافقي
نحن بحاجة إلى حل توافقي يأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والاحتياجات الحالية لكلا الطرفين.وليس المطلوب إنكار الظلم الذي يعاني منه الملاك، بل تقديم حل وسط يراعي حقوق الطرفين. زيادة عادلة، تعويض منطقي، انتقال تدريجي وليس ترحيل قسري مقنَّع بالقانون.
كما أن المنظومة القضائية لا تتحمل مئات الآلاف من دعاوى الطرد أو فسخ التعاقدات القديمة، كما أن المنظومة الشرطية لا تتحمل ألاف المشاجرات والمشاحنات التي ستحدث نتيجة للتطبيق الفوري للقانون الجديد، أما عن استعداد الحكومة لتقديم تعويضات للمضارين فحدث ولا حرج، فهل تستطيع الدولة بناء مساكن بشكل سريع لاستيعاب ملايين العائلات وتعويضهم عن الفسخ الفوري لتعاقداتهم القديمة؟

خير ما فعلت احزاب الموالاة بأن تراجعت عن المشروع المعيب، وهناك بالفعل حالة إيجابية من النقاش المجتمعي البناء ،ومقترحات أكثر توازنا تعطي فترة انتقالية أطول، وتدعم فكرة الزيادة المعقولة للإيجارات في مقابل فكرة الطرد، آو جعل قيمة الزيادة مرتبطة بالمساحة والمنطقة السكنية وليست جزائية كما كان المقترح الأصلي، مع طرح تحمل الدولة لجزء من التعويضات وفتح باب السكن اللائق للأسر، فالسكن المناسب حق من حقوق الانسان.
فالقضية ليست شقة بقدر ما هي عدالة اجتماعية. ليست إيجاراً بقدر ما هي كرامة إنسانية، وفي النهاية، هذه كلها مواقف، تمر. قوانين تُسن وتُلغى، انتخابات تُقام وتُنسى، لكن ما يبقى هو روابطنا كبشر. تلك الروابط التي تُهددها الخلافات حين تفقد البوصلة.