في كل قطعة معمول.. مقاومةٌ لا تُرى

“مشروعنا مش بس تجارة.. هو حياة كاملة بنحاول نعيشها رغم كل شيء”.. كأن كل عبوة زعتر هي بيت لم يُقصف، وكل قطعة معمول هي ضحكة أم لم تُمزقها الحرب، وكل كيس دُقة ذاكرة لا تموت.

في ركن هادئ من شوارع القاهرة، تمتزج رائحة الزعتر الفلسطيني بنسائم الصيف، بينما يقف المعتصم، ذو الخمسة عشر عامًا كأنه نبت من بين أكياس الكعك والدُقة، حاملًا اسمًا يشبه الراية: “المعتصم بالله للمنتجات الفلسطينية”.

طفلٌ يافع، لكن تراه يفيض بنضج يسبق سنوات عمره، يجلس أمامه طاولة خشبية بالية تحمل فوقها ما يُشبه الوطن، زعتر أخضر مثل الأرض، وفلفل أحمر بلون دم الشهداء، ومعمول فلسطيني له طعم مثل ضحكة أمه حين كانت تصنعه ذات يوم.. قبل أن تنكسر رقبتها بانزلاق غضروفي. قبل أن ينكسر الوطن.

أنا معتصم من غزة.. ولسه هون (رسومات سلمى الطوبجي)

ليس غريبًا أن يكون اسمه المعتصم بالله، كأن والديه حين اختارا اسمه، أدركا أن الحياة سوف تُثقل كاهله باكرًا، وأنه يحتاج لما هو أكثر من القوة، فهو يحتاج الاعتصام بالله لا اسمًا فقط بل فعلًا.

حين تنظر في عينيه، وهو يضحك بهدوء ويقول: “الناس أحيانًا بتسألني.. اسمك حقيقي؟ بقولهم آه، وده الاسم اللي بحاول أكون زيه”.. تشعر كما لو أن القدر بالفعل قد وضعه في اختبار لاسمه.. وأنه نجح.

هو لا يملك من أسباب القوة شيئًا فلا يمكل مالًا، ولا بيتًا يستقر فيه، حتى تعليمه غير منتظم. لكنه يملك جدارًا من الإيمان لا يتصدّع، فكلما اهتز مشروعه الصغير، تشبّث أكثر، وكلما تعبت أمه رفع عينيه إلى السماء وتمتم: “أنا معتصم بك يا الله، فثبّتني”.

لا يسعى معتصم لإطعام عائلته فقط، بل يريد أن يمنحهم كرامة العيش، ويُعيد لأمه راحتها، ولأخواته البنات حقهن في الحياة.
اسم “المعتصم بالله” لم يكن مجرد اختيار.. بل صار عنوانًا لحياة، وراية مقاومة يرفعها فتى من غزة إلى قلب القاهرة، من أنقاض البيت إلى طاولة المعمول.

من تل الهوى إلى المعادي

رسومات سلمى الطوبجي
 رسومات سلمى الطوبجي

وُلد معتصم في حي تل الهوى شمال غزة، وهكذا مرت سنوات طفولته بين مباريات الكرة في الأزقة، وحلوى البسكويت من سوبرماركت والده.

لكنه الآن يهمس بصوته الحزين: “كنا عايشين حياة بسيطة.. قبل ما تيجي الحرب وتقلب كل حاجة”.

عيناه تنكسران، لا من الحزن، بل من ثقل الذاكرة. يتذكر كيف قُصف منزلهم، وكيف حمله والده جريًا تحت القصف، ثم تنقلوا بين بيوت الأقارب ومدارس الإيواء.. بين الخوف والجوع والعطش: “كان في أيام بنشرب مي مالحة، وننام على بلاط المدرسة.. بس ربنا كتب لنا عمر جديد”.

وصل معتصم وأسرته إلى القاهرة وهم لا يملكون شيئًا: ليس لديهم دخلًا يساعدهم، لا بيت ولا مدرسة. فقط حقيبة صغيرة وأمل كبير، استقروا هنا، في شقة صغيرة مع جدته بحي المعادي، ثم بدأت رحلتهم الأصعب: النجاة بالحياة بعد النجاة من الموت.

أختان وحلم واحد

في بيتٍ صغير، يعيش معتصم وأختيه، تبلغ إحداهن 17 عامًا، تحلم باستكمال تعليمها وتريد التخطيط لمستقبلها لكنها اضطرت للتوقف عن الدراسة. أما الأخرى ذات الـ 11 عامًا، فما زالت تتطلع إلى المدرسة بعيون الحلم.

ومعتصم بينهن، هو “السند” و”الأمان”، كما تصفاه. ينظر إليهما بمحبة، ويقول: “نفسي أختي الكبيرة ترجع تكمل تعليمها، وأختي الصغيرة تلبس الزي المدرسي وتروح المدرسة زي باقي اللي في سنها”.. أما عنه فيقول: “بحب الانجليزي والرياضيات” لكنه لم يذهب إلى المدرسة بسبب نقص الأوراق، لكنه، ورغم صغر سنه لم يشكُ. 

رسومات سلمى الطوبجي

بل يحمل في قلبه حلمًا بسيطًا وعميقًا، أن يكون مصدر الأمان لعائلته. فهو يشعر أن المسؤولية أكبر من عمره، لكنه لا يتراجع.
ومع كل منتج فلسطيني يبيعه، يقترب خطوة من حلمه: أن يُعيد البهجة لأسرته، ويمنحها مستقبلًا يليق بها.

من مطبخ الجدة

كالعنقاء وُلدت فكرة معتصم من الرماد. فبعد أن خسر والده متجره في غزة، وواجهوا واقعًا قاسيًا في مصر بلا رأس مال أو إقامة مستقرة، أطلق الصغير مشروعه بفكرة بسيطة: “ليش ما نبيع الزعتر الفلسطيني؟ الناس هون بيحبوه، وبيشتاقوا لطعمه”.

هكذا بدأ “المعتصم بالله للمنتجات الفلسطينية”، بعشرين عبوة زعتر مُغلفة يدويًا، وصور التقطها بهاتفه القديم نشرها عبر صفحة فيسبوك. اعتمد أيضًا على أبناء الجالية الفلسطينية والمشاركين في البازارات الصغيرة لنشر مشروعه دون ميزانية إعلانات.

(رسومات سلمى الطوبجي)

أعدّ معتصم خلطات الزعتر والدُقة والفلفل الأحمر في مطبخ جدته الضيق، وقام بتغليفها بينما كان والده يتولى إعداد زيت الزيتون وقياس الكميات. صنعت والدته الكعك والمعمول كما فعلت في غزة، لكن إصابتها بانزلاق غضروفي منعتها مؤخرًا من الاستمرار، فباتت ترشدهم فقط من بعيد.

لم تكن منتجات معتصم التي يبيعها مجرد مصدر رزق، بل رسالة يحاول بها الحفاظ على الذاكرة الفلسطينية: “كل عبوة زعتر هي جزء من فلسطين. بنبيع الطعم، بس بنوصل الذاكرة كمان”.

يشارك مع والده في فعاليات محلية مثل بازار “زهراء المعادي” و”الحديقة الدولية” و”مول هب 50″، حيث كان يُحضّر الطاولة ليلًا، ويصطحب سماعة صغيرة يشغل فيها أناشيد فلسطينية، لكن المشاركة في البازارات الأكبر كـ “مدينتي” كانت بعيدة المنال بسبب ارتفاع التكاليف، حتى طباعة البوسترات كانت عبئًا.

ورغم التحديات، يظل الحلم حاضرًا. يتمنى معتصم افتتاح متجرًا يحمل اسم فلسطين، ويُقدم فيه منتجات العائلة دون الاعتماد على الإنترنت فقط: “نفسي الناس تمشي وتشوف اسم فلسطين على يافطة كبيرة”.

أنا معتصم من غزة .. ولسه هون (رسومات سلمى الطوبجي)

يجلب معتصم بعض المواد من العريش، لكنه يقول: “الزعتر من غزة كان له ريحة غير.. يمكن لأنه من أرضنا؟”.. يُردد وهو يُغلف عبوات الدقة: “أنا بشتغل مش بس عشان نعيش، أنا بشتغل عشان ما ننسى.. عشان تظل فلسطين عايشة في كل بيت ندخل عليه”.

يبدأ المعتصم بالله يومه بترتيب طاولة الزعتر وهو يرد على “الأوردرات” وينهيه بمراجعة المخزون والتخطيط لليوم التالي، على أمل شراء ماكينة تغليف أفضل.

ناظرًا إلى كيس زعتر بين يديه: “أمي تعبت، وأبوي محتاج اللي يسنده. كلنا بنشيل بعض”

قصة معتصم ليست عن بائع صغير فحسب، بل هي مقاومة ناعمة، يحمل فيها الوطن بطعم الزعتر ورائحة الكعك وصوت يقول: “أنا معتصم ابن غزة.. ولسه هون”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة