“ظلم المصطبة”.. دراما تقتنص الخلاص وسط صراخ المسلسلات

وسط طوفان الدراما المشحونة بالأداء المتشنج والصراخ وأطنان البوتوكس، بدا العثور على عمل درامي جدير بالمتابعة أمرًا مستحقًا. في “ظلم المصطبة” وجدت ضالتي، وأعتقد أن شيئًا من الظلم أصابه بسبب عنوانه غير المألوف، لكنه جاء مناسبًا تمامًا لمحتوى ورسالة العمل.

تتبعت المأثور الشعبي “ظلم المصطبة ولا عدل المحكمة” في قواميس الأمثال المصرية لأحمد تيمور وإبراهيم شعلان، فلم أجد له توثيقًا، إلا أنه يبدو في كل الأحوال من الأمثال التي تعكس علاقة المجتمع بالسلطة أو الدولة الناشئة، وربما يعود أصله إلى عصر محمد علي مع تأسيس الدولة الحديثة وسلطة القضاء، غير أن الأمر يحتاج إلى بحث أعمق لا يتسع له المقام هنا.

نقلنا تتر العمل بموسيقاه المصاحبة، التي تشبه صوت آلة السمسمية الساحلية، إلى مسرح الأحداث في “البحيرة -دمنهور”، في اختيار بدا موفقًا للغاية. تذكرت دراسة الدكتوراة التي أعدها الباحث أحمد عبد السلام بعنوان  “العلاقة بين الأعراف البدوية والشريعة الإسلامية.. دراسة تاريخية بين المؤسسة والتطبيق”، وقد اختار فيها البحيرة – دمنهور تحديدًا للدراسة، نظرًا لأن مجتمع البحيرة يجمع بين الطابع الساحلي والنكهة الريفية، مع تماس بدوي واتصال بالحضر ممثلًا في الإسكندرية.

أضف إلى ذلك أن أبطال العمل أتقنوا لهجة أهل البحيرة، ما أضفى عليه واقعية وصدقًا نادرين.

بدأ العمل وانتهى بمسجد القرية، في إشارة مكثفة إلى تلك العلاقة الملتبسة بين الشريعة والعُرف وانعكاساتها المعقدة على المرأة تحديدًا. وهذه العلاقة جسدها ببراعة “حمادة – فتحي عبد الوهاب”، الذي مثّل العرف والسلطة الأبوية، و”علاء – أحمد عزمي” الذي مثّل الشريعة بتفسيرها السلفي.

اعتمد “حمادة” على “Phobokratie”، أو حكم الإرهاب، لإدارة بيته وبيت العائلة تحت ستار حماية “العزوة والهيبة”، متحالفًا مع أخيه “علاء”، الذي كان يتولى خطبة الجمعة رغم عدم كتابته لها، مدفوعين معًا برغبة عارمة في السيطرة المالية والاجتماعية والدينية في مجتمع منغلق نسبيًا، وهو ما كان يتردد كثيرًا على لسان حمادة: “نحن ملوك البلد”.

ومن أجل حماية هذه السلطة الذكورية الدينية، يبذل حمادة الغالي والنفيس إذا ما تعرضت للتهديد، وهو ما تكشف عنه أحداث المسلسل تدريجيًا.

بدأت الأزمة بعودة “حسن – إياد نصار” من سفر طويل، كان يُظن أنه لن يعود منه، مما أثار غيرة “حمادة” زوج “هند – ريهام عبد الغفور” حبيبة حسن القديمة. بادر حمادة هند فورًا بالضرب المبرح دون أن تفهم سبب العنف المسلط عليها، حتى وصلت حالتها إلى مشارف الموت، فنقلها سرًا إلى إحدى الحظائر للعلاج جنب البهائم، خوفًا من افتضاح أمره لو لجأ إلى مستشفى، في إشارة خفية إلى قيمة المرأة في سلطة حمادة، حيث تُعامل كالبهائم، بلا إرادة ولا قيمة.

بدت ارتعاشة هند داخل “الزريبة” تتأرجح بين احتمالات عدة كلها تثير الرعب مما هو قادم من حمادة، في واحد من أبرع المشاهد التي أدتها ريهام عبد الغفور بعفوية وصدق يمسان القلب. شاركتها هذا التألق جميع الممثلات في المسلسل، فقد ظهرت جميع الشخصيات النسائية متدينات، يُؤدين الفروض، ويلجأن إلى الله في إحباطاتهن العاطفية والزوجية، مما نسف الفكرة السطحية التي تربط خراب البيوت بالبعد عن الله، وعكس تطبيع العنف المنزلي والقبول به.

هذا الاعتناء بالتفاصيل، جعل المشاهدة ترى نفسها في واحدة من تفاصيل هذه الشخصيات، فتتآلف معها وتتعاطف دون عناء. أضف إلى ذلك المشاهد المتنقلة بين مقامات أولياء الله والموالد، التي جابها حسن وهند وطفلتها، هائمين في ملكوت الله، بحثًا عن خلاص آمن من ربوع المحروسة، خلاص لم يُكتب لهم للأسف.

مأساة في بيت العائلة

دارت مأساة أخرى في الطابق السفلي من بيت العائلة، الذي أسسه “حمادة”، حيث سكنت أخته “بسمة-سحر”، التي عاشت علاقة زوجية فاترة مع زوج تقليدي ضعيف الشخصية أمام سطوة “الأخ الأكبر”. عانت صراعًا مريرًا صامتًا بين نارين؛ الأولى فشل محاولاتها في أن تحب زوجها، والثانية نار الصديق الذي لجأت إليه للفضفضة، وهو زميل قديم كانت تأمل أن يتزوجها ذات يوم، فخاطرت بزيارته في منزله ووقعت في المحظور.

تآمر الأخوان “حمادة وعلاء” في مشهد بديع وهما غارقان في صمتهما، على قتل الأخت “سحر” والشاب “سامح”، إذ لم يرَ الشيخ “علاء” أي جدوى من قوانين الدولة التي وصفها بأنها “قوانين وضعية” لا يؤتمن جانبها، معتبرًا أن الأولى تطبيق شرع الله باليد بعيدًا عن أعين الدولة وقوانينها.

تلاقى ذلك مع سلطة “حمادة”، لتتشكل سلطة وعدالة موازية تجمع بين الشريعة والعُرف، رغم رفض علاء لتقليد “البشعة” الذي أصر عليه حمادة لإثبات براءة زوجته هند من الزنا مع حسن، في إشارة إلى هيمنة العُرف البدوي المنتشر من مدن الساحل المصري حتى قبائل سيناء.

استمد “حمادة” قوته وسطوته من هذه المساحة العُرفية الذكورية، حتى حين رفض بشدة انتقال الأخت “سحر” إلى الإسكندرية، مجسدًا سلطة ذكورية عتيقة سابقة على أديان الوحي، تقوم على قتل الإناث والعبيد والخدم بالسُم عند موت الحاكم أو الأخ أو صاحب السلطة، كما فسر Georg Baudler في كتابه “الرب والمرأة: تاريخ العنف والجنس والدين”.

بقيت كراهية المرأة واحتقارها متسربين إلى أديان الوحي فيما بعد. فكان أن اتخذ “علاء” قرار قتل “سامح”، على أن يتولى “حمادة” قتل “سحر”، غير أن الأخير تردد بدافع التريث. أما الشيخ “علاء” نفسه، فقد عقد العزم على الزواج من الأخت الصغرى “لهند-فاتن سعيد-رحاب”، وهو يتوقع قبول زوجته المنتقبة “يارا جبران-رانيا” للأمر، فالتعدد من صميم الشريعة.

دراما بطعم السمنة البلدي

مثّل كل من هند وحسن نقاء السريرة والضمير الديني الحي، دون صخب أو تلاعب بالنصوص. لجأت هند في هروبها مع حسن إلى مقامات الأولياء والموالد، إذ ظل التصوف مساحة آمنة للمرأة المصرية؛ لا تهديد فيها ولا وعيد، بل قبول ومحبة وأمل في الله، بعدما استولى الشيخ علاء وحمادة كشري على الفضاء الديني العام للنساء، فلم تجد هند ملجأ إلا عند “أهل الله”.

بدا جليًا تباين توازنات القوى في المسلسل، إذ لعب الموقع الجغرافي والفضاء الديني دورًا عميق التأثير في وجدان المصريين رجالًا ونساءً؛ فلجأ حمادة إلى أعراف البدو كـ”البشعة”، فيما احتمت هند بالتصوف سعيًا لقوة وتمسكًا باستكمال الطريق. ورغم وقوع الزواج العرفي فجأة خلال الأحداث، رفضت هند إقامة علاقة زوجية مع حسن ليلة المولد، إذ اعتبرت أن الزواج نية قبل أن يكون تحرير أوراق.

لم يتخلَّ حسن عن نقاء سريرته، حين أخبرها ببقاء زوجها حمادة حيًا، رغم أن بإمكانه إخفاء الأمر ومباشرتها. فاختارت هند العودة إلى حمادة، مجازفة ومتحملة العواقب، آملة في حلول سلمية. لكنها وجدت ما لم تتوقعه. حزم حمادة أمره حين طالبته بالطلاق، مدركًا أن طلبها يهدد سلطته ومملكته.

أخذ حمادة سلاحه الذي رافقه طوال المسلسل، في مشهد مشحون بالتوتر، مترددًا بين قتل هند أو حسن. لكنه لم يتردد كما فعل مع شقيقته سحر، حين ترك لها “حبوب الغلة” لتنهي حياتها بنفسها. أطلق النار على زوجته هند، أم ابنته، ليس بدافع الحب، الذي لم يشعر به يومًا تجاهها، بل بدافع حب التملك واستعادة سلطته، مدركًا تمامًا عمق حب حسن لها.

مصائر النساء بين الهروب والانتقام

هربت سحر مع طفلها إلى جهة مجهولة. وستترمل زوجتا علاء، رانيا ورحاب، بعد أن أسرعت رانيا في الانتقام من علاء، عبر تسليم دليل إدانته بقتل سامح. لم تكن أي امرأة بمنأى عن الظلم، فقد طال المصير الجميع.

اضطرت “إلهام”، الأخت الكبرى لـ هند، إلى مصارعة كراهيتها الشديدة لشقيقتها وعدم تجاوزها قصة حب حسن، لتتجرع مرارة ما فعلته من تشهير وقتل معنوي بفضحها على الإنترنت.

أما عبير، شقيقة حسن، التي خشيت غضب زوجها بسبب بيع الورشة، فهي “معيوبة” لم ترزق بأطفال، مما دفعها إلى دعم زوجها ضد شقيقها حتى نفد صبرها وطلبت الطلاق.

انتهت هند صريعة أمام المصطبة، التي تواطأت عليها قوى دينية وعرفية ونفسية، بعيدًا عن سلطة الدولة.

حملت دراما “ظلم المصطبة” طابعًا فريدًا لا يُنسى، فكانت دراما مشبعة برائحة السمنة البلدي، ودرسًا مؤلمًا عن تغول السلطة الذكورية والعرفية في حياة النساء.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة