في بلاد تعاني من فقر حاد في الديمقراطية، قد يبدو الحديث عن التدريب السياسي رفاهية تنظيرية. لكن الحقيقة أن غياب هذا التدريب هو أحد أبرز أسباب تراجع الحياة الحزبية، وانفصال النخب السياسية عن الشارع، وتكلس العمل العام إجمالًا.
فكم من مرة صادفت عضوًا في حزب معارض يتبنى مواقف الحكومة أكثر مما يفعل مسؤولوها أنفسهم؟ وكم من حزب رفع شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، بينما بعض أعضائه لا يؤمنون بها أصلًا؟ هذا ليس استثناء، بل واقع يتكرر، ويكشف خللًا جوهريًا في بنية الأحزاب العضوية التنظيمية بلا أرضية فكرية.
عضوية بلا بوصلة
في الكثير من الأحزاب، هناك من ينتمي بدافع اجتماعي أو مصلحي أو بدافع الحماسة العابرة. لكن دون تأهيل سياسي حقيقي، تصبح العضوية مجرد رقم، والكوادر أقرب إلى موظفين منها إلى قادة رأي. والنتيجة؟ أحزاب غير متماسكة فكريًا، يسهل اختراقها أو تفريغها من مضمونها.
والمشكلة ليست فقط في الأعضاء، بل في غياب منظومة تدريب سياسي تجعل العضو يدرك: لماذا هو هنا؟ ما الفرق بين حزبه وبين غيره؟ ما الذي يدافع عنه؟ وكيف؟

من الولاء التنظيمي إلى القناعات السياسية
الانتماء الحزبي لا يُقاس بالالتزام الشكلي، بل بمدى تبني العضو لأفكار الحزب وبرنامجه. فمثلا لا معنى لحزب يقول إنه مع العدالة الاجتماعية بينما أعضاؤه يرفضون الضرائب التصاعدية أو يدافعون عن احتكار السلطة. الولاء للتنظيم، مهم جدا ولكن لا يمكن أن يحل محل القناعة الفكرية والسياسية.
وهنا يأتي دور التدريب السياسي كأداة لتوحيد الرؤية، وخلق لغة مشتركة بين الأعضاء، وتحويل الشعارات إلى أدوات تحليل وفهم ومواقف.
التدريب ليس فقط قاعة ومُحاضر
التدريب السياسي اليوم لم يعد قاصر فقط على قاعة مغلقة ومحاضر تقليدي. العالم مفتوح، والمنصات متاحة، والفرص أكثر من أي وقت مضى. زووم، جوجل ميت، بودكاست، دورات إلكترونية، أفلام وثائقية، مجموعات نقاش.
كل هذه أدوات يمكن استغلالها في بناء كوادر حقيقية، حتى في ظل ضعف الموارد. المهم هو وجود إرادة لدى إدارة الحزب، وبرنامج حقيقي، وشخصيات قادرة على الإقناع والنقاش لا التلقين والتوجيه.

مدرسة الكادر..تجربة قابلة للتكرار
في حزب المصري الديمقراطي الاجتماعي والذي أتشرف بالانتماء له، قُدمت تجربة “مدرسة الكادر” كنموذج جاد للتأهيل الحزبي الحقيقي. مدرسة نشأت من رحم الحاجة، ودربت على مدار سنوات عشرات الكوادر، كثير منهم اليوم في مواقع قيادية بجيل الشباب والوسط داخل الحزب.
مدرسة تجمع بين الفكر والممارسة، بين الاقتصاد السياسي والمهارات الخطابية، بين قراءة الواقع والقدرة على تغييره. وهي نموذج يُثبت أن التكوين السياسي ممكن، وضروري، ومؤثر، عندما يتوفر الحد الأدنى من الإرادة والحرية.
عندما تصنع الدولة الولاء بدل الوعي
لكن التحدي الأكبر لا يتعلق فقط بقدرة الأحزاب، بل بإرادة السلطة نفسها. في غياب المجال العام، يضيق هامش التدريب، ويُحاصر التثقيف، ويُعاد تعريف السياسة بوصفها مجرد وسيلة للترقي الوظيفي أو الانتفاع الشخصي.
الكثير من السياسيين الشباب اليوم، لا يبحثون عن أدوات للفهم والتغيير، بل عن طريق مختصر إلى مقعد نيابي أو منصب محلي، أو حتى “تسهيلات” في مجالات العمل.
ويصبح رضا السلطة هدفًا في حد ذاته، لا وسيلة لخدمة الناس. هنا تفقد السياسة معناها. ويتحول المجال العام إلى مسرح لتبادل الولاءات، لا لصراع الأفكار.

التثقيف وحده لا يكفي
التدريب والتثقيف السياسي أدوات ضرورية، لكنها ليست الحل السحري، ولا حتى جوهر المشكلة. بدون ساحة حقيقية للعمل السياسي، وأحزاب قادرة على الحركة، وهامش مقبول من الديمقراطية، سيظل أي تدريب مجرد نشاط داخلي محدود التأثير.
لكن رغم ذلك، هو شرط لا غنى عنه. لأنه حين تتوفر اللحظة، ويُفتح الباب، لا يصلح للمشهد إلا من تدرب، وفكر، واستعد.
نحتاج إلى وعي لا إلى تكرار
السياسة تُمارس، لكنها قبل ذلك تُفهم. وكل حزب لا يدرب أعضاءه، هو حزب ينتظر أن يُدار بالصدفة، أو أن يُستبدل بمن هو أقدر.
نحتاج إلى تدريب يخلق وعيًا، لا طاعة. وإلى كوادر تفهم الواقع، لا ان تستسلم له، وإلى أحزاب تكتب التاريخ لا أن تكرره.
لي صديق عزيز وزميل بالحزب يقول دائما “الوعي مفتاح الفرج”.