“كنت أظن أن المرحلة الابتدائية خاصة الصف الأول، لها خصوصية في التعامل، لكن ما حدث كان العكس تمامًا. تأخر ابني مرتين فقط عن طابور الصباح. فوجئت باتصال من المدرسة يطلب مني الحضور للتوقيع على إنذار!! لكنه طفل وما يزال يتأقلم. لا أحد يراعي!”.. تقول منى س.م ولية أمر طفل في الصف الأول الابتدائي بإحدى المدارس الحكومية في محافظة القاهرة.
أعلنت وزارة التربية والتعليم سبتمبر الماضي عن لائحة انضباط مدرسية، صدرت بقرار وزاري رقم 150 لسنة 2020، وُصفت بأنها “جديدة”، في حين لم تكن إلا تعديلًا على اللائحة السابقة لها، مع الحفاظ على البنية الأساسية ذاتها من حيث تصنيف المخالفات والعقوبات، دون تطوير جذري في فلسفة التعامل مع السلوك الطلابي، أو ضمان حماية فعلية للأطفال داخل المؤسسة التعليمية.
وبعد مرور عام دراسي على تنفيذها، بات من الضروري تقييم أثر تطبيق هذه اللائحة المعدّلة، ومدى اختلافها فعليًا عن نظيرتها القديمة، سواء على مستوى تعامل المدارس مع الطلاب/ات، أو في ردود فعل أولياء الأمور والمعلمين/ات، خاصةً فيما يتعلق بالطلاب/ات ذوي/ات الإعاقة، الذين ظلوا خارج أي حماية فعلية رغم ذكرهم نظريًا في النصوص.
في هذا التقرير، نرصد أوجه التشابه والاختلاف بين اللائحتين، وتأثير التعديلات خلال العام الدراسي الحالي، بالإضافة إلى الآثار النفسية والتربوية والقانونية التي ترتبت على تطبيقها من خلال تحليل النصوص قانونيًا، والاستماع إلى شهادات من داخل المدارس الحكومية والخاصة.
تجربة موحدة بتفاصيل متباينة
تستكمل منى س.م حديثها مع فكّر تاني: “في بداية العام الدراسي، طلبوا منا التوقيع على لائحة الانضباط المدرسي، وكأنها إجراء روتيني لا يستحق النقاش. قيل لنا إنها لائحة جديدة، لكنها لم تتغير بقدر ما ازدادت حدة في التنفيذ”.
داخل الميدان التعليمي، لا يختلف القلق كثيرًا. يؤكد أحمد ش. مدرس لغة عربية بإحدى المدارس الحكومية في القاهرة أن “وجود لائحة سلوك ليس أمرًا سلبيًا في حد ذاته، بل ضروري لتنظيم الحياة المدرسية”، لكنه يعبّر عن تحفظه لـ فكّر تاني، فيقول: “تطبيق نفس العقوبات على طلاب الابتدائي والثانوي دون تفرقة في العمر أو النضج أو حتى الخلفية النفسية للطالب، يضعنا كمعلمين في مأزق تربوي”.
وإذا كان هذا هو الحال في المدارس الحكومية، فإن المفاجأة كانت في شهادات أولياء الأمور من المدارس الخاصة، حيث يقول عامر سليمان ولي أمر طالبة في الصف الثاني الإعدادي بإحدى المدارس الخاصة المرموقة في محافظة الجيزة: “بصراحة، لم أكن أعلم أصلًا أن هناك لائحة انضباط موحدة على مستوى الجمهورية، لم يبلغني أحد بها من قبل، وفوجئت هذا العام بإرسالها للتوقيع دون نقاش. أنا لا أعارض فكرة الانضباط، بالعكس، لكن لدي تحفظ واضح؛ فابنتي تعاني من تشتت الانتباه، وهناك سلوكيات لا تعني بالضرورة أنها متمردة أو مستهترة، بل تحتاج أسلوبًا خاصًا في التعامل”.
تدعم هذا التوجه معلّمة بالمدرسة هبه -اسم مستعار- إذ تقول لـ فكّر تاني: “نعم، الانضباط مهم جدًا في بيئة تعليمية منظمة، لكن من الصعب تطبيق اللائحة بالحرف، لأن الأطفال ليسوا سواء. شخصيًا أحاول مراعاة الفروق الفردية، خاصةً مع من يعانون من مشكلات بفرط الحركة أو ظروف أسرية أو نفسية، أتعامل مع كل حالة بحسب ما تقتضيه تربويًا”.
ثغرات في النص وغياب الضمانات
يقدم المحامي الحقوقي عمرو محمد قراءة متعمقة في لائحة الانضباط المدرسي الصادرة بقرار وزاي رقم 150 لسنة 2020، مؤكدًا أنها تفتقر إلى الضمانات القانونية الكافية، وتترك ثغرات كبيرة في حماية حقوق الطالب/ة، خاصةً الأطفال ذوي/ات الإعاقة والحالات الخاصة.
ويتساءل المحامي الحقوقي أثناء حديثه مع فكّر تاني، عن حالة الغموض المحيطة بلجنة الحماية المدرسية المنوط بها تنفيذ اللائحة، قائلًا: “ما هو الأساس القانوني لتشكيل اللجنة؟ ومن يحدد أعضاءها؟ ولماذا لم توضح اللائحة بوضوح من هم هؤلاء الأشخاص؟”.
ويؤكد أن غياب توصيف واضح للجنة، وعدم وجود جهة رقابية تشرف على أعمالها أو تحاسبها، يفتح الباب أما تفاوت كبير في التطبيق بين المدارس، وهو ما يتعارض مع مبدأ العدالة والمساوة المنصوص عليه في المادة (53) من الدستور المصري.
ويوضح عمرو، أن المادة (4) من اللائحة، رغم إشارتها إلى ضرورة مراعاة سن الطالب/ة وحالته/ا التعليمية أو الصحية لا تُلزم اللجنة بأية إجراءات وقائية فعلية، بل تترك القرار النهائي لتقدير اللجنة فقط، دون الرجوع إلى متخصصين/ات أو ضوابط مكتوبة، وهو ما يُعد تقصيرًا في حماية الأطفال طبقًا للمادة (3) من قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته.
ويشير أن التظلم غير مكفول فعليًا في اللائحة، حيث تعطي صلاحية الفصل أو الحرمان من الدوام لوكيل الوزارة أو الجهة المختصة وفق المادة (14)، دون نص واضح على حق الطالب في الاستئناف أمام جهة مستقلة، أو حتى إلزام المدارس بآلية لتقديم الشكاوى. ما يخالف اتفاقية حقوق الطفل الدولية التي تلزم الدولة بضمان حق الأطفال في التعبير عن رأيهم/ن في أية إجراءات ضده/ا.
“تطبّق اللائحة على كل الطلاب/ات من الصف الأول الابتدائي وحتى نهاية المرحلة الثانوية، دون تمييز أو مراعاة للفروق العمرية أو النفسية، ما يجعل العقوبة أحيانًا أقسى من استيعاب الطفل/ة لها، ويخالف روح القانون المصري، وخاصة المادة (96) التي تجرّم الإضرار النفسي أو العزل الاجتماعي للطفل، كما يتعارض مع المادة (2) من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي تحظر التمييز لأي سبب”.
وفي سياق آخر، يُبدى عمرو تحفظه على عبارة “جسامة المخالفة” الواردة في أكثر من موضع، ومنها المادة (5-د-ه) التي يتم على أساسها توقيع عقوبات كبيرة مثل العزل أو التحويل المنزلي: “لم توضح اللائحة معيار الجسامة، ومن يحددها؟!”.. متسائلًا: “هل تفهم لجنة في مدرسة دولية بمنطقة راقية معنى “الجسامة” كما تفهمها لجنة في مدرسة حكومية بمنطقة شعبية؟ يفتح هذا التفاوت بابًا للتمييز وفقدانًا للعدالة. كما أنه يصطدم مع مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في الدستور”.
أما بشأن “الأعمال الإضافية ذات الطابع التربوي” المذكورة في المادة (5) فيوضح المحامي الحقوقي، أن النص لم يضع أمثلة كافية أو ضوابط تنفيذية، ما يجعل الباب مفتوحًا لاجتهادات قد تنقلب إلى ممارسات مُهينة في بعض المدارس، خاصةً في البيئات التي تعاني من نقص الكوادر التربوية، وهو ما يخالف المادة (19) من اتفاقية حقوق الطفل التي تلزم الدولة بحمايته من أي معاملة مهينة أو مسيئة.
كما ينتقد غياب المحامي عمرو محمد تعريف مفهوم “التحرش الجنسي”، ويشير إلى أنه بالرغم من إدراجه ضمن المخالفات الكبرى في المادة (5) إلا أن التعامل مع مثل هذه القضايا الحساسة لا يمكن أن يُترك للتقدير العام، بل يجب أن يُقرن بآلية إبلاغ واضحة وآمنة تحفظ حق الطالب/ة الضحية، وهو ما تؤكده مبادئ الحماية في قانون الطفل والاتفاقيات الدولي.
“اللائحة لا تنص على أي حق للطالب/ة في أن يتم الاستماع إليه/ا، أو حتى الدفاع عن أنفسهم/ن قبل توقيع العقوبة، كما تغيب أي إشارة صريحة إلى إجراءات الدعم النفسي أو التأهيلي، سواء قبل العقوبة أو بعدها. وفي غياب حماية واضحة للأطفال ذوي/ات الإعاقة أو الاضطرابات النمائية مثل فرط الحركة أو طيف التوحد، في مخالفة صريحة للمادة (7) من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي تلزم الدولة باتخاذ تدابير خاصة لحماية الأطفال ذوي/ات الإعاقة في البيئات التعليمية”.
ويختتم المحامي حديثه مع فكّر تاني، مؤكدًا على أن اللائحة الحالية في صورتها الإدارية، تفتقر إلى الروح التربوية، ولا تضمن بيئة تعليمية عادلة وآمنة للطفل/ة.
آثار نفسية تغفلها اللائحة
ترى استشارية التربية الخاصة يسرى سليم، أن العقوبة التأديبية المتكررة داخل المدارس تترك آثارًا نفسية سلبية عميقة على الأطفال، خاصة في المراحل العمرية المبكرة: “العقوبة المتكررة تضعف ثقة الطفل/ة بنفسه/ا، ما يؤدي إلى رفضهم/ن للبيئة التعليمية برمتها، فيتولد لديه/ا نفور من المدرسة، ومن ثم، فقدان الرغبة في التعلم”.
وتؤكد استشارية التربية لـ فكّر تاني، أن التهديد بالعقوبة حتى دون تنفيذ، كفيل بتحويل الطفل/ة إلي شخصية عدوانية أو منغلقة، بالإضافة إلى الشعور بانعدام الأمان وفقدان القدرة على التعبير عن الذات أو التفاعل الطبيعي مع أقرانه/ا وأسرته/ا.
“التعليم يبدأ بالتربية أولًا. نحن في مجال اسمه التربية والتعليم، بالتالي لا يصح أن يكون العقاب هو أول أداة، بل بالتوجيه والتصحيح والتحفيز، تلك هي البداية الطبيعية لأي سلوك خاطىء”.
وتؤكد يسرى أن منظومة التعليم ما تزال تفتقر إلى أدوات دعم حقيقية لذوي/ات الإعاقة، والحل متروك بالكامل لأولياء الأمور الذي يلجأون إلى توفير معلم/ة مساعد/ة لمرافقة الطالب/ة ودعمه/ا داخل الفصل على نفقة الأهل الخاصة، بينما تتنصل المدرسة من أي مسؤولية.
“للأسف، لا يوجد وعي كافٍ لدى كثير من المدارس بكيفية التعامل مع الأطفال المصابين بالاضطرابات النمائية، كفرط الحركة وتشتت الانتباه أو طيف التوحد، وغالبا ما يتم رفض الطفل/ة من المدرسة، ويُطلب من الأسرة أن تبحث له/ا عن مكان آخر، وهو ما يخلق مأساة نفسية واجتماعية حقيقية”.
أما عن العقوبة المتعلقة بالتحويل للتعليم المنزلي؛ فتقول: “العزل عن البيئة المدرسية يعني عزل الطفل/ة اجتماعيًا، وهذا خطر حقيقي. فإن ذهاب الطفل/ة إلى المدرسة يمنحه/ا خبرة حياتية في التواصل، وفي حالة التعليم المنزلي، يفقدون هذه القدرة تدريجيًا”.
تختم استشارية التربية يسرى سليم حديثها مع فكّر تاني، بتوصيات واضحة: “الضابط النفسي الأساسي هو النقاش مع الطفل/ة وبناء علاقة إيجابية معه/ا، وشرح القواعد المدرسية بطريقة تشاركية. نحن لسنا في صراع مع الطفل/ة، بل شركاء في رحلة نموه/ا. أغلب ساعات اليوم تكون في المدرسة فمن حق الأطفال أن يأتي ذلك بنمو نفسي، واجتماعي، وأكاديمي، لا بخوف أو عزلة أو كره للتعليم”.
في النهاية فكّر تاني، تُبقي السؤال مطروحًا: هل نريد مدرسة تعلم أطفالنا كيف ينجحون وبسلام نفسي، أم كيف يخشون العقوبة؟