رحيل المُعلم.. كيف أعاد البابا فرنسيس تشكيل صورة القداسة؟

شاب أرجنتيني من جذور إيطالية، راقص تانجو بشغف، وقع في الحب يومًا ولم يتردد في البوح بمشاعره بكل سذاجتها الجميلة، تسكع مع أصدقائه، أكل البيتزا، واحتسى الجعة، عاش بينهم كواحد منهم، لم تفصله الألقاب عنهم. ظل منحازًا للفقراء، لأنه ببساطة منهم. لم تفارقه روحه الطفولية، حتى وهو يجوب شوارع بوينس آيرس أو يتقدم في المناصب الكهنوتية، وحين جلس على كرسي الفاتيكان، لم يجمّد الكرسي ملامحه، بل بقي الإنسان الذي كان دائمًا يجري ويلهو ويضحك ويساعد دون أي حسابات، لا يهتم بملابس ممزقة أو حذاء بالي يتصدر الصحافة والإعلام في الأيام التالية.

شكل البابا فرنسيس خليفة القديس بطرس، والذي جلس على كرسي الفاتيكان بعد استقالة البابا بندكت السادس عشر الذي قرر التقاعد طوعًا، نقطة تحوّل في مسار الكنيسة الكاثوليكية، ظهر كمنقذ فجأة محاولًا استعادة ثقة المؤمنين في كنيستهم وباسطًا محبته ومرونته للجميع سواسية، رغم الاتهامات الكثيرة حول كونه شيوعيًا أو مهرطقًا ويحتاج الصلاة.

ما ميز حبرية البابا الذي انحاز للسلام ودعم المهمشين بأفكار ثورية، أن خطابه لم يكن وجداني فقط، بل كانت له مواقف جريئة في ملفات لطالما تعاملت معها الكنيسة بحذر أو تحفظ، وبين محاولاته للانفتاح والحداثة، والمحافظة على التوازنات داخل الفاتيكان، تبدو سنواته كرحلة معقدة ومليئة بالقضايا الجدلية الهامة.

البدء في بوينس آيرس

وُلد باسم خورخي ماريو بيرجوليو في بوينس آيرس بالأرجنتين في 17 ديسمبر 1936، لعائلة من أصول إيطالية، وكان والده يعمل محاسبًا في السكة الحديد، بينما كرّست والدته ريجينا سيفوري حياتها لرعايته وأخوته الأربعة، حيث نشأ خورخي في بيئة تجمع بين القيم العائلية الصارمة والبساطة اليومية، وهو ما انعكس لاحقًا في فلسفته البابوية، فحملت سنوات شبابه مزيجًا من الحياة العملية والروحية.

حصل على شهادة فنية في الكيمياء قبل أن يشعر بنداء الكهنوت الذي قاده إلى اليسوعيين في عام 1958، ليبدأ مسيرة خدمية انطلقت من قاعات التدريس إلى قيادة الرهبنة اليسوعية في الأرجنتين وأوروجواي عام 1972، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، جاءت قيادته خلال فترة سياسية عصيبة تخللتها انتهاكات حقوقية واسعة، شملت اختفاءات قسرية واغتيالات حتى داخل صفوف الكنيسة. خلال هذه الحقبة، حاول خورخي أن يحافظ على توازن دقيق؛ إذ حرص على إبقاء الرهبنة بعيدة عن الاستقطابات السياسية، لكن في الوقت نفسه قدم عدد من المساعدات للمتضررين.

أما في منتصف الثمانينيات سافر إلى  ألمانيا لاستكمال الدكتوراه، غير أن ارتباطه بالأرجنتين أعاده مبكرًا، ففي عام 1992، عُين أسقفًا مساعدًا في بوينس آيرس، ولم يمض الكثير من الوقت حتى أصبح شخصية محورية في الكنيسة الأرجنتينية.

تمحورت أولوياته حول الفقراء، تحسين التعليم، وتفعيل الحوار بين الأديان والطوائف، ورغم ترقيه لمنصب رئيس أساقفة العاصمة عام 1998 ثم كاردينال عام 2001، إلا إنه استغل هذه المناسبة ليطلب من المؤمنين عدم الحضور إلى روما للاحتفال، بل التبرع بالأموال للفقراء، في بادرة تلخص فلسفته “الإيمان الذي لا يثمر خدمة للآخرين يظل ناقصًا”، كما حافظ على نهج حياة بسيط تمامًا؛ حيث أشارت عدد من المراجع والكتابات أنه كان ينتقل بوسائل النقل العامة ويزور الأحياء الفقيرة بانتظام.

في نفس الفترة شهدت الأرجنتين أزمة اقتصادية شديدة، فظهر صوته كأحد أبرز القادة الدينيين القلائل الذين لم يترددوا في انتقاد السياسات الاقتصادية المجحفة، ودعا إلى حلول تراعي كرامة الإنسان، محذرًا من النزعة الاستهلاكية التي تسحق الفقراء.

هذه المواقف، وإن أزعجت بعض الأوساط السياسية، أكسبته احترامًا شعبيًا واسعًا في أمريكا اللاتينية.

مرت السنوات وفي 13 مارس 2013، اختاره مجمع الكرادلة ليصبح الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية، ليُسجل التاريخ انتخاب أول بابا من العالم الجديد، وأول يسوعي يتولى هذا المنصب.

بابا التوازنات الكبرى

عندما جلس البابا فرنسيس على سدة الكرسي الفاتيكاني عام 2013، كانت له رؤية إصلاحية قدمت المنظور الإنساني على التعقيدات الصارمة.

فمنذ اليوم الأول، أرسل بعض الإشارات الواضحة التي نقلتها الشاشات الصغيرة منها رفض ارتداء ملابس بابوية فاخرة، واختار الإقامة في دار الضيافة بدلاً من القصر الرسولي، مفضلاً بساطة الحياة على مظاهر السلطة.

وتجذّرت فلسفة البابا بالانحياز المطلق للعدالة الاجتماعية والفقراء، الأمر الذي جعله في عام 2015 يعلن رئيس أساقفة السلفادوري “أوسكار روميرو” شهيدًا وقديسًا، بعدما اغتيل عام 1980 بعد تاريخ قوي من الثورة على النظام والدعوة الانحياز للفقراء ورفض أشكال العنف السياسي، جاءت هذه الخطوة بعد عرقلة تمتد لأربعة عقود من الكنيسة الكاثوليكية لأسباب سياسية واجتماعية.

حاول البابا فرنسيس أن يضبط إيقاع الحركة بين ملفات وقوى ليست بالسهلة، بحيث يتوسطها أحيانًا كثيرة، لايتجه إلى أقصى اليمين أو اليسار، يعامل الجميع بمبدأ المحبة والرحمة ويبتعد عن الصخب الشديد في الحديث عن القضايا التي أرقت الكنيسة الكاثوليكية وشعبها على مدار قرون طويلة.

اتخذ النهج ذاته في إعادة الهيكلة، فحسب ورقة بعنوان ” Pope Francis and Selected Global Issues: Background for Papal Address to Congress” خلال أول عامين من بابويته، عيّن البابا فرنسيس 39 كاردينالًا، 24 منهم من خارج أوروبا، في محاولة لإعادة توازن السلطة داخل الكنيسة واتساقًا مع رؤيته التي تشير أن مستقبل الكنيسة الكاثوليكية يكمن في أمريكيا اللاتينية وأفريقيا وآسيا حيث يعيش 70% من الكاثوليك تحت سن 25 عامًا.

الودعاء يرثون الأرض

لا يتوانى التيار المحافظ داخل الكنيسة الكاثوليكية عن انتقاد البابا فرنسيس انتقادات لاذعة وتحديدًا فيما يخص تصرفاته العفوية وكلماته التي يعتبرونها خارجة عن النص الإنجيلي، كما يعتبرون أن رؤيته اللامركزية ربما تشكك بعض الكاثوليكيين في إيمانهم الذي هو قائم بالأساس على أن الخلاص وحدة في المسيح فقط، لا كما يتبنى البابا أنه الله ذا وجه أكثر رحمة مما نعرف.

 تتخذ الانتقادات الموجهة للبابا فرنسيس بُعدين أساسيين: أحدهما لاهوتي والآخر اجتماعي-سياسي، ورغم ذلك، فهناك حالات يتداخل فيها هذان البُعدان وما يثير حفيظة منتقدي البابا فرنسيس حقًا هو أن لاهوته ينبع من الواقع، من معاناة الفقراء، ومن الظلم الاجتماعي، ومن الدمار البيئي، فضلًا عن استشراء السلطة الكهنوتية في الكنيسة.

يفسر فيكتور كودينا في تقريره التحليلي أن النقد اللاهوتي يرتكز على فكرة أن البابا فرنسيس ليس لاهوتيًا أكاديميًا بالمعنى التقليدي، بل ينحدر من “العالم الجديد” أو “أطراف العالم”، على عكس البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر، الذين امتلكا خلفية أكاديمية قوية.

وهذا، بحسب منتقديه، يفسر ما يعتبرونه أخطاءً عقائدية وعدم دقة لاهوتية، فبحسب هذا التقييم، فإن نقص خبرة البابا فرنسيس اللاهوتية يظهر في مواقفه التي يصفونها بالخطرة، ومنها تركيزه المفرط على رحمة الله في رسالته البابوية، وميوله الاشتراكية في دعمه للفقراء والحركات الشعبية، ورؤيته للتقوى الشعبية كمصدر لاهوتي، كما يتجلى في تساهله الأخلاقي بالسماح، في ظروف معينة وبعد تمييز شخصي وكنسي، للمطلقين الذين تزوجوا مجددًا بالحصول على سرّي التوبة والإفخارستيا، بينما يُنظر إلى تركيزه على رحمة الله كأمر مفرط قد يُضعف مفهوم النعمة والصليب.

الحوار والوحدة.. قضيته الكبرى

على مدار عقد من الزمن، كرس البابا جهوده لبناء جسور تواصل حقيقية مع مختلف الطوائف والأديان، وقام بالعديد من الزيارات إلى مجتمعات إسلامية ودول ذات أغلبية مسلمة، سعيًا لإرساء قيم التفاهم والاحترام المتبادل.

لم تقتصر لقاءاته على القيادات الدينية والسياسية، بل امتدت إلى التواصل مع عامة الناس، ما أضفى على زيارته طابعًا إنسانيًا يتجاوز الشكليات البروتوكولية، في كل مناسبة، كان يؤكد على أن جوهر الأديان جميعها يكمن في الرحمة والمحبة، مشددًا على ضرورة البحث عما يوحد لا ما يفرق.

في أيامه الأولى على رأس الكنيسة الكاثوليكية، صرح البابا فرنسيس قائلاً: “لا يمكن للإنسان أن يقيم علاقة حقيقية مع الله وهو يتجاهل الآخرين. ولهذا، من الضروري تعزيز الحوار بين الأديان، وأفكر بشكل خاص في الحوار مع الإسلام“.

و نجح البابا في تحقيق هذا الهدف المبكر الذي وضعه نصب عينيه، إذ أصبح التواصل مع المسلمين علامة بارزة في حبريته.

على مدار العقد الماضي، أجرى العشرات من الزيارات إلى مجتمعات إسلامية ودول ذات أغلبية مسلمة، حيث عمل على بناء جسور مع القادة الدينيين والمؤمنين العاديين على حد سواء، ولم يقتصر دوره على الزيارات البروتوكولية، بل حرص مرارًا على تسليط الضوء على حضور الله في تجارب المسلمين وعلى غنى تقاليدهم الدينية.

وبعيدًا عن خطاباته الرسمية المكتوبة، كان حريصًا أن يلقي برسائله العفوية إلى قلوب الحاضرين، هذا مافعله بالتحديد في  سنغافورة حيث انتهى من خطابه الرسمي ثم ألقاه جانبًا وقال “إذا بدأنا في الصراع بقول: “ديني أهم من دينك، وديني هو الحق بينما دينك ليس كذلك”، فأين سيأخذنا هذا الطريق؟ هناك إله واحد فقط، ولكل منا لغته الخاصة في السعي إليه. فمنا من هو شيخ، أو مسلم، أو هندوسي، أو مسيحي، وكل واحد يسلك دربًا مختلفًا نحو الله”.

هذا السعي نحو الحوار الكاثوليكي/الإسلامي/ديانات أخرى من قبل البابا فرنسيس كبده معاناة وصلت إلى حد اتهامه بالحرب على المسيحية ومخالفة صريحة للعقيدة التي تنص على أن المسيح هو الطريق الوحيد إلى الخلاص، لكنه وبعد حملة هجوم عنيفة لم يتراجع وظل يردد في كافة اللقاءات على أن التعددية الدينية ماهي إلا صور مختلفة لعبادة الله الواحد.

أما على صعيد الوحدة بين الكنائس المختلفة وتحديدًا بين الأرثوذوكس في مصر، لا يزال يسبب لغطًا عميقًا فعلى الرغم من الانفتاح الكبير  الذي أظهره البابا فرنسيس وزياراته المثمرة في مصر، إلا أن التيار المحافظ في الكنيسة المصرية يتهم البابا تواضروس الثاني باتهامات الهرطقة في كل زيارة إلى الفاتيكان، وتحديدًا بعد توقيع اتفاقية ثنائية تنص على سعي الكنيسة بنية مشتركة إلى عدم إعادة معمودية الكاثوليك “وهي من الأزمات القديمة بين الكنيستين”، وبالرغم من حالة القبول والمحبة التي يحاول البابا فرنسيس أن تشمل العالم، إلا أن صورته النمطية عند  التيار المحافظ المصري ليست جيدة ويتعاملون معه أنه البطريرك الخاطئ داعم المثلية والداعي إلى دين عالمي موحد، ولم تخل منشورات فيسبوكية من الصلاة لأجل صحته مقرونة بالتذكير أنه من الخطاة لإنه ليس أرثوذوكسيًا!

من أنا لأحكم!

منذ جاء البابا فرنسيس على رأس الكنيسة الكاثوليكية، تبنى لغة أكثر تصالحًا مع قضية المثليين، والتي تبرز كأكبر القضايا التي اتخذت منها الكنائس موقفًا صارمًا بالرفض، محاولة البابا للحفاظ على روح الأبوة والتوازن تسببت في ارتباك مواقفه وتصريحاته على مدار 12 عامًا.

حيث تفاجأ المجتمع الكاثوليكي في السنة الأولى للبابا تبنيه رؤية مهادنة، عند سؤاله عن الكهنة المثليين، أجاب “إذا قبلوا الرب وكان لديهم حسن النية، فمن أنا لأحكم عليهم؟ لا ينبغي تهميشهم، فهم إخوتنا”. كان هذا التصريح لافتًا، خاصة لاستخدامه كلمة “مثلي” بالإنجليزية، مما ساهم في تعزيز النقاش حول حقوق مجتمع LGBTQ+ داخل الكنيسة، كما شكّل تعليقه تحولًا في نهج الحوار حول هذه القضية متجاوزًا الانقسامات الأيديولوجية التقليدية. حسب تقرير لـHuman Rights Campaign.

وبحلول عام 2023، كان البابا فرنسيس قدم دعمًا رسميًا في كتاباته لخدمة أحد الكهنة لمجتمع الميم الكاثوليكي، ووجّه رسائل دعم لأشخاص يعملون مع مجتمعات المثليين والمتحولين جنسيًا، وشجّع الآباء على محبة أبنائهم بغض النظر عن ميولهم الجنسية وعدم نبذهم، كما ندد بالقوانين التي تجرم مجتمع الميم، وعين شخصيات ذات سجل داعم لحقوقهم في مناصب قيادية داخل الكنيسة.

و بعد شهر واحد من اجتماعه مع منظمة New Ways Ministry، أعلن الفاتيكان أن المتحولين جنسيًا يمكنهم نيل سر المعمودية والعمل كعرّابين. ومع ذلك، أوضح المسؤولون أن ذلك لا يمثل تغييرًا رسميًا في سياسات الكنيسة.

وفي ديسمبر 2023، أصدر الفاتيكان وثيقة Fidus Supplicans، التي هزّت الأوساط الكاثوليكية، إذ سمحت بمباركة الأفراد من مجتمع الميم، في خطوة تُعتبر من أكثر تحركات البابا جرأة حتى الآن، هذه البركة تمنح من قبل الكهنة كنوع من الدعم الروحي، وغالبًا ما يُلجأ إليها في أوقات المحن أو المرض.

عند صدور الوثيقة، انتشر التفسير الخاطئ بأن الكنيسة ستسمح بزواج المثليين على يد الكهنة، لكن الفاتيكان سرعان ما أوضح أن هذه البركات تُمنح فقط في سياقات غير رسمية، وليس ضمن احتفالات دينية رسمية، ومع ذلك، فإن أجيالًا من الكاثوليك المثليين كانوا ينتظرون هذه اللحظة لسنوات، معتبرين أنها خطوة مهمة نحو الاعتراف بهم داخل الكنيسة أو على الأقل عدم نبذهم.

بنى البابا فرنسيس خطابه حول المثليين على أساس أن يسوع كان يسعى دائمًا للقاء أولئك الذين يعيشون على الهامش، وهذا ما يجب أن تفعله الكنيسة اليوم تجاه أفراد مجتمع LGBTQ+، الذين غالبًا ما يشعرون بالتهميش داخلها، لذا ينبغي على الكنيسة أن تحتضنهم وتمنحهم الشعور بالانتماء، خصوصًا أولئك الذين نالوا سر المعمودية وأصبحوا جزءًا من شعب الله، وصرح البابا أنه طبقًا لعقيدة الكنيسة فإن الزواج بين أفراد الجنس نفسه غير ممكن، ولكن يمكن الاعتراف بالاتحادات المدنية، فمن العدل أن يتمتع هؤلاء الأشخاص، الذين يعيشون في إطار المحبة، بحماية قانونية مثل غيرهم.

لم يكن موقف البابا فرنسيس صارمًا نحو التمسك بالتقاليد الراسخة أو الرفض القاطع، لكنه توسط الموقفين بنهج أكثر رحمة في الحديث عن هذه الفئة من المجتمع بل شاركهم الطعام في أحد السجون الإيطالية عام 2015، معلنًا أن الرحمة أو المحبة لا تتعارض والتعليم المسيحي، على الجانب الأخر تبنى البابا دفاعًا واضحًا في أكثر من خطاب حول الأسرة بشكلها المألوف ودعا للصلاة من أجل أي مظاهر أخرى. وعلى هذا لايمكن اعتبار موقف البابا فرنسيس من المثلية إلا أنه موقف شديد التعقيد يحاول الحفاظ فيه على أدائه كرجل دين من ناحية وروح الأبوة والبساطة الشخصية من ناحية أخرى.

الإساءة الجنسية.. إرث ثقيل

تعد أزمة الإساءة الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية من أكبر الفضائح التي هزت المؤسسة الدينية عالميًا، حيث كشفت عدد من التحقيقات، منذ عقود، عن تعرض آلاف القُصّر لانتهاكات جنسية من قبل رجال دين، آخرهم تقرير لجنة التحقيق المستقلة في فرنسا والتي ذكر رئيسها جان مارك سوفيه أن  216 ألف طفل تعرضوا لاعتداءات جنسية من قبل القساوسة ورجال الدين الكاثوليك ويقدر عددهم بـ3200 منذ عام 1950، وذلك في ظل تستر منهجي من الكنيسة.

 

تفجرت الأزمة بشكل واسع في أوائل القرن الحادي والعشرين، خاصة بعد تحقيقات في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا، مما أدى إلى دعاوى قضائية وإدانات ضد كهنة وأساقفة، إبان هذا، واجه البابا فرانسيس المثقل بهذا الإرث القضية على نحو شجاع.

حيث قدّم اعترافًا واضحًا في كثير من المناسبات بتقاعس الكنيسة مشيرًا لها بـ”أخطاء جسيمة” وأن طلب المغفرة ضروري لكنه ليس كافيًا، في التعامل مع فضائح الاعتداء والتستر على الإساءة للقصر، كما التقى بعدد أكبر من الضحايا وقدم اعتذارات أكثر تواضعًا مقارنة ببندكتوس السادس عشر أو يوحنا بولس الثاني.

كما أجرى تعديلات على سياسات وإجراءات الكنيسة الداخلية بشأن الاعتداءات، حيث وسع تعريف الاعتداء ليشمل البالغين المستضعفين، وامتدت ممارسات التحقيق والمساءلة من محاكمة الأساقفة للكهنة المتهمين إلى محاكمة الأساقفة المتهمين أيضًا. كما منح الأساقفة سلطة محاسبة نظرائهم المتورطين في التستر على الانتهاكات.

رغم كل المحاولات والاعترافات التي قدمها البابا فرنسيس، إلا أنه واجه انتقادات واسعة بشأن عدم صرامة الإجراءات المتبعة تجاه المتورطين، فيذكر أحد الناجين في مقالة أن عدد من القساوسة المتورطين في الإساءة الجنسية لايزالوا يمارسون أعمالهم دون توقف، وأن البابا كان بوسعه أن يكون أكثر حزمًا من ذلك مع هؤلاء المجرمين، كأن ينشر أسمائهم أو يحرمهم كنسيًا وأن يعاقب المتسترين بتخفيض رتبهم الكهنوتية، إلا أنه اختار الطريق الأكثر بيروقراطية رغم تحرره من ذلك منذ جلس على كرسي الفاتيكان.

هناك الكثير

لم تكن هذه القضايا هي وحدها التي اهتم بها البابا فرنسيس بل أبرزها، حيث شغل عقله دائمًا قضايا المهاجرين في ظل تعسف المجتمعات ضدهم، وظل يردد أننا نحتاج إلى بناء جسور حوار معهم لا حوائط شديدة المناعة ضد قبولهم، كما له مساهمات في قضايا البيئة، و آراء ذات صبغة رحيمة بخصوص الحروب وتبعاتها على البشرية.

“هذا الصباح عند الساعة 07.35، أعلن الفاتيكان رحيل البابا فرنسيس عن عمر ناهز 88 عاماً بعد معاناة من أمراض مختلفة خلال فترة بابويته التي استمرت 12 عاماً”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة