في مصر، يكتسب رمضان والأعياد طابعًا مختلفًا، فالمناسبات هنا ليست مجرد أيام تمر، بل هي لقاءات مقدسة، ودفء وعودة للأحضان التي تفرقها الأيام.
إنها لحظات تلتئم فيها العائلات، حيث يعود المسافرون، وتتصافح القلوب قبل الأيدي. لكن حين يجد أحدهم نفسه مضطرًا لقضاء العيد بعيدًا عن أهله، لأي سبب كان، يصبح الغياب جرحًا لا تخففه التهاني.
كنت من هؤلاء الذين اختاروا تشجيع حالة الحوار أملًا في كسر الجمود ورغبة في المساهمة في خروج أكبر عدد من الزملاء من خلف أسوار السجن
العيد والسجن
أما في السجن، فالعيد قصة أخرى، فصل من الحزن الصافي، لا يشوبه أي مظهر من مظاهر الفرح. إنه أثقل الأيام وأشدها قسوة، على السجين كما على أهله.
وإذا كان السجين معتقلًا بسبب رأيه، أو في حبس انفرادي، فإن العيد يتحول إلى كابوس ممتد، حيث لا يختلف اليوم عن سابقه، سوى بأن الصمت يصبح أعمق، والجدران تبدو أشد صلابة.
عشت هذه التجربة منذ 2013 حتى 2017، العيد في الحبس الانفرادي، حيث تذوب الأيام في بعضها، ولا يتغير شيء سوى أن صمت العيد يبدو أكثر ثقلًا من المعتاد.
لا أصوات، لا حركة خلف الأبواب، لا فترة تريض. السبب الرسمي: نقص أفراد الأمن بسبب الإجازات لذلك فإغلاق السجن لضرورة أمنية، أما النتيجة فهي عزلة مطلقة تتضخم فيها الذكريات، وتعود صور الأعياد الماضية بكل تفاصيلها: العائلة مجتمعة، موائد الطعام، الضحكات التي تملأ المكان، والأيدي التي تمتد لتصافح بعضها البعض. والآن، في هذا الفراغ الصامت، لا شيء سوى جدران أربعة، وساعات ثقيلة تزحف بلا وجهة.
أما الزيارات الاستثنائية في العيد، فهي رغم قِصَرها تصبح الحدث الأهم.
لحظات معدودة تحمل فيها العائلات الطعام والملابس النظيفة، وتقدمها عبر حاجز زجاجي، بالكاد يتمكن السجين من رؤية ملامح أحبته. سلام سريع، كلمات مقتضبة، ثم انتهاء اللقاء قبل أن يبدأ. ورغم أن الزيارة يُنتظرها السجين طويلاً، إلا أنها تترك خلفها حزنًا ممتدًا، لا يزول بسهولة.
لكن في العيد، يكون الألم مضاعفًا، ليس فقط للسجين، بل لعائلته أيضًا. الزوجة التي قضت أيامًا تُعد احتياجات الزيارة، الأسرة التي تكبدت عناء السفر من محافظة بعيدة، وكل هذا من أجل لحظات خاطفة تنتهي بسرعة لا تليق بالشوق والانتظار.
وبعد الزيارة، يعود الجميع إلى بيوتهم محملين بحزن لا يجد له مخرجًا، وغضب مكبوت يتجدد مع كل مناسبة تمر دون أن يكتمل الجمع.
الإفراجات ليست مجرد مكسب فردي، بل ضرورة وطنية، تخدم الجميع: الدولة التي تحتاج إلى استقرار داخلي وسط توترات إقليمية متزايدة، والمجتمع الذي يحتاج إلى مساحة للحوار السياسي تمنع الاحتقان، والمعارضون الذين يبحثون عن إشارات تؤكد أن الحلول التفاوضية والإصلاحية لا تزال ممكنة.
إفطار الأسرة المصرية
في عام 2022، بدا أن هناك بصيص من الأمل. عندما كان “إفطار الأسرة المصرية” بمشاركة السيدان حمدين صباحي وفريد زهران، وممثلي الحركة المدنية الديمقراطية، وكان هناك اللقطة المثيرة للجدل عندما تصافح رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي مع السيد حمدين صباحي، ليعيد الحديث عن السياسة في مصر، وتحرّك ملف العفو الرئاسي، وبدأت بعض الإفراجات عن عدد من المحبوسين على خلفية قضايا سياسية وقضايا رأي.
ومع بدء الحوار الوطني بين السلطة والمعارضة، أو بين أحزاب الموالاة وبعض أحزاب المعارضة إن صح التعبير، كان هناك من يرى أنه مجرد محاولة من السلطة لتجميل المشهد السياسي، فيما تفاءل آخرون بأنه قد يكون خطوة نحو حل كبير لملف سجناء الرأى، بالإضافة لأنه (ربما) تكون بداية جديدة لحياة سياسية في مصر.
كنت من هؤلاء الذين اختاروا تشجيع حالة الحوار أملًا في كسر الجمود ورغبة في المساهمة في خروج أكبر عدد من الزملاء من خلف أسوار السجن، لكن للأسف، لم يمضِ وقت طويل حتى عاد كل شيء إلى نقطة الصفر، وأُغلقت أبواب التفاوض، وينتصر المتشائمون وكل من قللوا من جدوى حالة الحوار.
وبعد عدة شهور رأت السلطة أن ما تحقق كافٍ، لكن الحقوقيين وأهالي المعتقلين وجدوه نقطة في بحر من آلاف الأسماء المنسية خلف الأسوار.
ليظل كثيرون في السجون لسنوات طويلة، فقط بسبب منشور على “فيسبوك”، مثل محمد عادل ومحمد أكسجين، وغيرهم وغيرهم ممن لا تزال أسماؤهم عالقة في قوائم النسيان. ومع تصاعد الأحداث في غزة، انضم معتقلون جدد، جريمتهم الوحيدة كانت التضامن مع الحق الفلسطيني.
فرصة لفتح باب الإفراجات
في رمضان هذا العام، اعتقد البعض بأن الأمل قد يعود مرة أخرى، ولو بشكل خافت، بأن يكون العيد فرصة لفتح باب الإفراجات، لكن الأيام مضت دون أن يحدث شيء. وكما في كل مرة، انتصر صوت المتشائمون، ليؤكد أن “لا فائدة”.
رأت السلطة أن ما تحقق كافٍ، لكن الحقوقيين وأهالي المعتقلين وجدوه نقطة في بحر من آلاف الأسماء المنسية خلف الأسوار
ومع ذلك، يبقى الأمل معلقًا، حتى وإن بدا هشًّا. فالإفراجات ليست مجرد مكسب فردي، بل ضرورة وطنية، تخدم الجميع: الدولة التي تحتاج إلى استقرار داخلي وسط توترات إقليمية متزايدة، والمجتمع الذي يحتاج إلى مساحة للحوار السياسي تمنع الاحتقان، والمعارضون الذين يبحثون عن إشارات تؤكد أن الحلول التفاوضية والإصلاحية لا تزال ممكنة.
أما الإغلاق المستمر، فلا يخدم أحدًا. بل يترك فراغًا يمتلئ بالغضب، ويفتح الأبواب أمام أصوات أكثر حدة، وحلول أكثر تطرفًا. وبين هذين الخيارين، يظل هناك دائمًا متسع للأمل.. حتى لو كان مؤجلًا.