عبر التاريخ الطويل للعمليات الانتخابية التي شهدتها الدولة المصرية خلال العصر الحديث، والتي شهدت خلاله تطبيقات جغرافية وفنية متنوعة الأشكال تستهدف بالأساس ضمان تمثيل الفئات الأولى مجتمعيًا حيث كانت الأزمة الحقيقية التي تواجه المشرع هي كيف يمكن له أن يضمن تمثيلًا مناسبًا أو معقولًا لصالح تلك الفئات سواء كنا نتحدث عن فئات اجتماعية أو كنا نتحدث عن قوى سياسية وحزبية وفي ذات الوقت لا نقع في مظان غياب العدالة ومطاعن عدم الدستورية.
لذلك لجأ المشرع في بعض تلك التجارب إلى تقييد النص التشريعي ببعض القيود التمييزية التي تضمن له الصوابية في تمثيل تلك الفئات، إلا أن الأحكام الدستورية المتوالية ظلت قيدًا أكثر شدة وصرامة في إبطال وإلغاء التشكيلات النيابية أو قرارات الدعوة لتلك العمليات الانتخابية بالنظر لمسببات العوار المصاحب لتلك الأشكال التمييزية والتي لم يكن النص فيها واضحًا أو قادرًا على التجاوب معها بشكل هندسي سليم وقانوني.
لتكون النتيجة الحتمية لكل تلك المعوقات والمثالب أنها شوهت فكرة القائمة الوطنية الموحدة وأشاعت مناخًا سلبيًا رافضًا لمكوناتها على المستوى المجتمعي العام وحملت تشكيكات متعددة حول الكفاءة والقدرة الفنية للعناصر المتواجدة داخلها بما يتعارض مع قيمة تلك القوائم
الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة
حتى أتى دستور 2014 والذي تضمن ثلاث مواد ذات طابع تمييزي (11 – 243 – 244) لتتحدث عن تمثيل خاص يجمع ما بين التأقيت والديمومة لصالح عدد من تلك الفئات التي يتوجب بعد ثورتين أن يكون لها تمثيلًا مقبولًا داخل المجالس التشريعية (المرأة – العمال والفلاحين – المسيحيين – الشباب – ذوي الإعاقة – المقيمين بالخارج) يتوافق مع حالة الحراك المجتمعي والديمقراطي, كان التحدي الأكبر بشأنها متعلقًا بتحديد النمط الهندسي المتبع في صياغة النظام الانتخابي بما يحقق التوازن بين مقتضيات التمثيل وبين ضمانات التحصين من العوار.
لكن وكما يقول المثل العربي القديم بأن (الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة) فقد كان الطريق إلى البرلمان بالنسبة لتلك الفئات مفروشًا بالتحديات الدستورية والقانونية التي يتوجب القفز عليها لضمان كفاءة التمثيل كما نص عليها الدستور وكما تحدث عنها قانون الانتخابات وبما يمكن أن ينهي سيلًا طويلًا من المحاولات والتجارب التي لم يكتب لأي منها النجاح أو الاستمرارية.

بدأ التفكير في شكل النظام الانتخابي الذي يمكن له أن يضمن تمثيل تلك الفئات وفي ذات الوقت لا يتجاوز حدود الدستورية ليقع في مطاعن العوار وهو ما ذهب بالمشرع لاختيار نظام (القوائم المغلقة المطلقة) باعتباره المخرج الآمن والقابل للتطبيق في مواجهة كل تلك التحديات.
وعلي الرغم من كافة المبررات والحيثيات التي جري استخدامها لإقناع القوي المجتمعية بحتمية الاعتماد عليه إلا أن سهام الرفض وأصوات الاعتراض تعالت وتزايدت ضده وسط اتهامات تتعلق بكونه لا يتيح كفاءة في التمثيل ويضعف روابط العلاقة بين المرشح والناخب وصولًا لقدرته علي خلق احتكاريات برلمانية لا تتسق وطبائع التنوع والتعددية في التركيبة البرلمانية ليتجدد الحديث والبحث عن نمط تطبيقي لتلك القوائم المغلقة لا تستجلب تلك المثالب أو تسمح بطغيانها علي المشهد العام وهو ما وجد ضالته في الذهاب لما تعارف علي تسميته بالقائمة (الوطنية الموحدة) والتي تضم الفئات المنشود تمثيلها ولكن عبر تنوع وتعدد في التركيبات الحزبية والسياسية الموجودة بنسب متفاوتة داخل تلك القائمة.
القفز إلى سفينة البرلمان
إلا أن التطبيق الفعلي والتجارب التي توالت لاستخدام تلك القائمة وفي ظل النظام الانتخابي المختلط حملت الكثير من المشاكل الكارثية والاختيارات النوعية التي شوهت المشهد وزادت من حالات السخط والغضب المجتمعي بصورة جعلت من الصعب القبول باستمرارها أو الدفاع عنها.

فالقائمة الوطنية التي استخدمت كأداة للوفاء بالنسب المنصوص عليها دستوريا والوصول إلى توافق سياسي يسمح بأكبر تمثيل ممكن للأحزاب السياسية التي شاركت بالأساس ضمن تحالف 30 يونيو أعيد استخدامها أو تدويرها بحيث أصبحت قاطرة أو معبر يستخدمه البعض في القفز إلى سفينة البرلمان، حتى لو كانت الاشتراطات الفنية والنوعية لديهم لا تتناسب مع مستهدفات المجلس التشريعي، بل وتتصادم أحيانا مع الفلسفة التي يقوم عليها بالأساس.
فعلى المستوى النوعي أو الفئوي للجماعات الأولى بالرعاية جرى الالتفاف والتلاعب بتلك الصفات لضمان وصول أشخاص بعينهم دون النظر لاحتياجات تلك الفئات أو تأثير وجود تلك العناصر على كفاءة الخدمات أو تضافر الجهود بما يعزز الاندماج المجتمعي لتلك الفئات فضلًا عن سيادة أنماط للمزايدة المالية والاستنفار القبلي والعشائري لضمان التواجد داخل تلك القائمة باعتبارها تضمن لهم الوصول للمقاعد بمجرد صياغتها وتواجد أسماؤهم داخلها.
أما على المستوى الجغرافي والجهوي، فقد شهدت تطبيقات القائمة سيولة مرعبة في عمليات تسكين المرشحين على محافظات لا يوجد لهم أدنى رابط أو علاقة بمكوناتها الجغرافية بما خلق فجوات وفراغات واسعة في حجم الخدمات أو الرقابة الفنية على جهات تقديمها وبما يتعارض مع النص الدستوري الذي جعل من الوزن النسبي للسكان والمحافظات أساسًا للتقسيم وتوزيع المقاعد البرلمانية.
أخطاء التركيبة السياسية
وبالذهاب للتركيبة السياسية للقائمة نجد أنها سقطت في العديد من الأخطاء التي كان من نتائجها تقليص التمثيل العددي للقوى السياسية المتواجدة داخل البرلمان والتي انحسرت من عملية انتخابية لأخرى لنصل إلي (13) حزبًا فقط في مجلس 2020 رغم عدد الأحزاب الرسمية الذي يكاد يصل إلى (10) أضعاف هذا الرقم فضلا عن التأثيرات الفنية السلبية للتواجد داخل تلك القائمة وبخاصة فيما يتعلق بالأحزاب والقوى السياسية ذات الطابع المعارض، والتي تماهى نوابها مع التيار العام بالمجلس وغاب عنها الخطاب الجذري أو النقدي في الكثير من القضايا والملفات الخلافية حتي صار من الصعب التفرقة بين نواب الأغلبية وما عداهم من ممثلي القوى السياسية والحزبية في المجلس .
رجال الأعمال وأبناء النواب السابقين
انتهى الأمر بما يفترض أنه قائمة وطنية موحدة لأن تضم داخلها قطاعين أساسيين:
(الأول) هم: رجال الأعمال والأثرياء وكبار العشائر والعرقيات الموجودة في المحافظات المختلفة وهؤلاء بالأساس حولوا مقاعدهم لمنصات للدفاع عن مصالحهم الخاصة واستخدموا المجلس كوسيلة لزيادة أرباحهم وثرواتهم وصل لاستغلال عمليات صياغة وتعديل التشريعات الوطنية لخدمة أنشطتهم الاقتصادية في نمط تعرفه الوثائق الأممية لمكافحة الفساد علي أنه (فساد بالقانون) فخرجت الكثير من التشريعات التي ليس من ورائها هدف سوى حماية مصالح هؤلاء النواب انعكست في عدد غير مسبوق من طلبات رفع الحصانة وطلبات من النائب العام لمساءلة نواب عن أداءات هي بذاتها فساد لكنه فساد يحتمي بحصانته البرلمانية.

أما (الثاني) فهم: أبناء النواب السابقين والأشخاص الذين يمتلكون علاقات وثيقة بدوائر النفوذ والتأثير والتي جعلتهم يحصدون مقاعد للوجاهة والتباهي بالقرب من منصات الحكم دونما امتلاك لأية مهارات أو قدرات حقيقية للعمل النيابي والبرلماني حتى أن بعضهم تعامل مع المجلس وجلساته باعتبارها وسيلة لاستعراض العلاقات وحفلات التصوير (الفوتوسيشن) التي تتم في أجواء ولحظات معظمها لا يليق بصورة النائب البرلماني أو تقاليد القاعة فضلا عن سقوط العديد منهم في أخطاء لها علاقة بالسلوك الشخصي ما كان من الممكن تجاوزها داخل البرلمان .
لتكون النتيجة الحتمية لكل تلك المعوقات والمثالب أنها شوهت فكرة القائمة الوطنية الموحدة وأشاعت مناخًا سلبيًا رافضًا لمكوناتها على المستوى المجتمعي العام وحملت تشكيكات متعددة حول الكفاءة والقدرة الفنية للعناصر المتواجدة داخلها بما يتعارض مع قيمة تلك القوائم في ضمان اتساع دائرة التمثيل وتنوع الخبرات والمعارف والمهارات ومع قيمتها في تعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات النيابية والتشريعية خاصة وأن معظم تلك المثالب وصور العوار ليست ناتجة عن غياب الكفاءة بقدر ما هي لصيقة بسلوكيات وممارسات النواب أنفسهم.
مراكب للهجرة غير الشرعية
لتبقي في النهاية ضرورة التأكيد على أن (القائمة الوطنية الموحدة) ليست ترفًا وإنما هي أداة بالغة القيمة تلجأ إليها المجتمعات في لحظات تاريخية معينة بغرض تحقيق الاندماج القومي وضمان تمثيل كافه القوى المجتمعية رغم أن واقع التطبيق في الحالة المصرية يكشف عن كونها لم تستفد من سفن النجاة التي تتيحها القائمة الموحدة وإنما حولتها الأطراف المهيمنة إلى مراكب للهجرة غير الشرعية يحتمي بها أولئك الذين كان يجب أن يغيبوا عن المشهد العام لأنهم بفسادهم وبسوء ممارساتهم كانوا سببًا حقيقيًا في تشويه الصورة وفي إفساد ما كان من غير المقبول مطلقًا السماح بفساده.