العمل هو مساحة لإثبات الذات، لكنه بالنسبة لبعض النساء قد يكون معركة يومية فلا يقتصر على الجهد البدني وضغوط المهنة بل يمتد إلى المقاومة في اتجاهات متعددة، فقط، لمحاربة الصور النمطية والتحامل المجتمعي، فتواجه معظم النساء نظرات الاستنكار والسخرية من وجودهن في بعض الوظائف التي يراها العقل الجمعي خارجة عن المألوف.
فتيات اضطُررن إلى ترك الدراسة والالتحاق بسوق العمل مبكرًا لإعالة أسرهن، وفي كل صباح، عندما يرن المنبه، يعدُن من أحلامهن الوردية إلى الواقع، يعملن لساعات طويلة بأجور زهيدة وتعب لا يتناسب مع أعمارهن، ورغم الإرهاق يتشبثن بالعمل لنجاة عائلاتهن. هل يصبح الحق في العمل مجرد حق؟ أم يظل اختبارًا يوميًا لقوة الاحتمال؟
اضطُررن إلى ترك الدراسة والالتحاق بسوق العمل مبكرًا لإعالة أسرهن
في المساء بعد يوم طويل وشاق تنسل داليا -اسم مستعار- إلى سريرها، تغمض عينيها وتستسلم للنوم سريعًا، تدخل عالمها الخاص الصغير، في أحلامها، هي الدكتورة داليا، في أحلامها استكلمت تعليمها الثانويّ والتحقت بكلية الطب وترتدي "البالطو"، لكن قبل أن تشعر تسمع من بعيد صوت منبه الساعة السادسة، تستيقظ لتعود إلى الحياة بواقعها القاسي لتستعد لارتداء "اليونيفورم" للذهاب إلى ورديتها في محطة الوقود بشارع شينزو آبي في مدينة نصر.
تستيقظ داليا، وتعد الفطار لأخواتها، وأبيها وترص أكياس "الساندوتشات" في حقائبهن المدرسية، ثم يوصلهم الأب إلى المدربة بسيارته "الميكروباص"، بالكاد تتناول ما يزيد من طاقتها حتى تبدأ مشوارها اليومي إلى العمل يحتاج منها بذل الجهد لتسع ساعات من الوقوف المتواصل.
تصل إلى المحطة الثامنة صباحًا، ترتدت الزي الرسمي، وتبدأ التحرك بين السيارات المتزاحمة، تملأ خزانات الوقود، تسمع الأصوات المتداخلة من حولها في الخلفية، لكنها لا تستمع فهي تحاول كل يوم أن تتجاهل نظرات الفضول والدهشة من بعض الزبائن الذين لم يعتادوا رؤية فتاة تعمل في مثل هذه المهنة.
حلم مؤجل..
لم تكن هذه الحياة التي أرادتها داليا التي تبلغ التاسعة عشرة من عمرها، حلمها كان أن تصبح طبيبة، لكنه تحطم على صخرة الواقع.. "أنا تركت التعليم في ثانية ثانوي، كان حلمي أدخل كلية الطب وأبقى دكتورة، لكن بابا سواق ميكروباص، ويوميته 150 جنيه، مش هيقدر على مصاريف الكلية، منين هيدفع للكتب والمعامل؟" تقول داليا وهي تحكي لـ فكّر تاني، عن معاناتها.
"بقالي ثلاث سنين مخطوبة، كنت هسيب خطيبي بسبب الفلوس، فاضطريت أشتغل علشان أجهز نفسي".
ولم يكن الفقر وحده ما أجبرها على ترك الدراسة، بل ظروفها الأسرية أيضًا، حيث فقدت والدتها منذ سنوات، وتزوج والدها من امرأة أخرى، حتى وجدت نفسها في معركة يومية بين متطلبات الحياة ومسؤولياتها كأخت كبرى عليها أن تساعد في إعالة الأسرة.
"مهنة أفضل من غيرها".. بأي ثمن؟
تتراوح يومية داليا بين 150 و 200 جنيه، تشمل الإكراميات التي تحصل عليها من بعض الزبائن. ورغم صعوبة العمل، إلا أنها تراه أفضل من تجربتها السابقة حين عملت بائعة في أحد محلات الملابس: "في محطة الوقود، في قدر أكبر من الأمان، فوجود العمال الرجال حولي يجعلني أقل عرضة للمضايقات" كما تقول، لكنها في الوقت ذاته تدرك أن هذه ليست الحياة التي تستحقها، وأنها تعمل في مهنة لم تكن يومًا ضمن طموحاتها.
تشير الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن نسبة الفقر في مصر ارتفعت من 32.5% في عام 2020 إلى 33.3% في 2023، ومن المتوقع أن تصل إلى 36% بحلول 2025. ووضحت البيانات انخفاض أعداد الفتيات الملتحقات بالتعليم الثانوي في الأسر الفقيرة، حيث تواجه صعوبات متزايدة بسبب التضخم وارتفاع الأسعار.
إيد على إيد
تستيقظ هاجر -اسم مستعار- ذات الخمسة والثلاثين عامًا، من نومها عند الساعة الخامسة والنصف صباحًا، لتبدأ يومًا طويلًا، تنطلق مباشرة إلى المطبخ لتحضير الإفطار لزوجها وأطفالها الثلاثة، ثم تعد لهم "السندويتشات" المدرسية، كما تحرص على تجهيز طعام الغداء قبل أن تغادر منزلها. تصطحب أطفالها إلى المدرسة، ثم تتوجه إلى محطة الوقود القريبة من منزلها سيرًا على قدميها، حيث تبدأ وردية عملها.
لم يكن خيار العمل متاحًا أمام هاجر، بل كان ضرورة فرضتها الظروف الاقتصادية، فزوجها، الذي يعمل سائق "توك توك"، ولا يملكه حتى، بل يعمل عليه مقابل أجر يومي لا يتجاوز الـ 200 جنيه، الذي بالكاد يكفي لتوفير الاحتياجات الأساسية للأسرة، تقول هاجر لـ فكّر تاني: "نزلت الشغل غصب عني بسبب ظروفنا المادية، وأهي شغلانة أحسن من غيرها، بساعد مع جوزي شوية".
تشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن محافظة سوهاج تتصدر قائمة المحافظات المصرية في نسبة النساء المعيلات بنسبة 22.3%، تليها الأقصر بـ 20.4%، ثم الدقهلية بـ 19.8%، في حين تأتي القاهرة بنسبة 19.2%. أما أدنى نسبة للمرأة المعيلة فسُجلت في جنوب سيناء بـ 1.7%، تليها الوادي الجديد بـ 4.9%، ثم البحر الأحمر بـ 6.6%، ومطروح بـ 7.3%. كما بلغت نسبة مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي 23.1%، وتصدرت محافظة الوادي الجديد النسبة الأعلى بمعدل 40%، بينما سجلت محافظة السادس من أكتوبر النسبة الأدنى بـ 9.7%.
عاملة في محطة وقود
تفاوت أجور وقيود اجتماعية
و"يومية" هاجر هي الأخرى لا تتعدى الـ 200 جنيه شاملة البقشيش، إلا أن زملاؤها في العمل من الرجال قد تتعدى يوميتهم الضعف، فهي لا تستطيع -مثلهم- العمل في الورديات الليلية، حيث تزيد المضايقات والتحرشات، بالإضافة إلى أن نظرة المجتمع السلبية تجاه النساء اللاتي يعدن إلى منازلهن في وقت متأخر.
هاجر هي الأخرى مثل داليا، تفضل العمل في محطة الوقود على العمل في محلات الملابس، حيث كانت تعاني من خصومات تعسفية في راتبها، إلى جانب تعرضها لسوء المعاملة من صاحب العمل وبعض الزبائن: "في المحطة هنا بحس بحرية، مفيش مدير بيخصم فلوس، أو يشتم، أو حتى زبون يبصلي بصة مش حلوة".
وبالرغم من أن هاجر تجد عملها في محطة الوقود أكثر أمانًا من بعض المهن الأخرى، إلا إنها تعاني من نظرة الزبائن المتفحصة والمستغربة لوجود امرأة في هذا المجال: "بيبصوا لنا أوي، مستغربين أن بنات وستات واقفين في محطة بنزين جنب رجالة".
وبينما حلمت هاجر بامتلاك مشروع صغير لبيع القهوة والمشروبات، إلا أنها لم تتكمن من تحقيقه: "كان نفسي أعمل مشروع عربية القهوة، لكن منين أجيب الفلوس، وكمان مش هحس بالأمان وأنا واقفة لوحدي".
تقول الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، لـ فكّر تاني، عن النظرة المجتمعية السلبية للمرأة العاملة، أن المرأة في المجتمعات الريفية لطالما عملت جنبًا إلى جنب مع الرجل في مهن مختلفة مثل الزراعة وبيع الخضار، والظروف الاقتصادية الأخيرة دفعت نساء الطبقة المتوسطة أيضًا إلى دخول مجالات جديدة مثل العمل في محطات الوقود وقيادة "الميكروباصات" وغيرها من المهن المتعارف عليها أنها للرجال فقط.
الدكتورة سامية قدري
"وهذه نظرة دونية للمرأة، وهي السبب الرئيسي في تعرضها للمضايقات، لكنها نظرةٍ سلبية للمرأة العاملة يجب أن تتغير، فحين يدرك المجتمع أنها فرد منتج ومكافح، سوف تقل أشكال العنف ضدها".
وتؤكد الدكتورة سامية أن المؤسسات المعنية بحقوق المرأة، إلى جانب وسائل الإعلام، يجب أن تعمل على تغيير هذه النظرة السلبية وتعزيز تقبل المجتمع لعمل المرأة في جميع المجالات: "نحتاج إلى قوانين صارمة تُجرّم جميع أشكال العنف ضد المرأة، فالمشكلة ليست في غياب القوانين، بل في عدم تفعيلها بالشكل الذي يحمي النساء من الانتهاكات اليومية".
في فيلم للرجال فقط، الذي لعبت بطولته سعاد حسني ونادية لطفي، جسدتا في صورة كوميدية صراع النساء لإثبات قدرتهن على العمل تمامًا كما يفعل الرجال، في المواقع التي كانت القوانين وقتذاك تمنعها على النساء مثل حقول البترول، ما دفعهن إلى التنكر حتى يتمكنا من السفر والعمل هناك.
فيلم للرجال فقط
وفي هذا السياق، تشير مي صالح الباحثة في قضايا الجندر والنوع الاجتماعي، إلى أن السبب الرئيسي للمضايقات التي تتعرض لها النساء العاملات في الشوارع، بما في ذلك العنف اللفظي، والتنمر، والسخرية، والاستهزاء، والتحرش، يأتي بسبب عدم تقبل البعض لفكرة عمل المرأة في هذه المهن.
"فالمجتمع يتواطأ مع هذه الانتهاكات، معتبرًا أنها عقوبة مستحقة للنساء اللاتي اخترن العمل خارج المنزل والانخراط في وظائف يراها البعض للرجال فقط..بحسب ما توضح مي صالح لـ فكّر تاني.
"هناك ضرورة مُلحة لإدراج مواد واضحة وصريحة ضمن قانون العمل الجديد لتعريف كافة أشكال العنف ضد المرأة في أماكن العمل، فحتى الآن، لم يتم إضافة إلى القانون سوى كلمة "التحرش" دون وضع تعريفات شاملة، وإجراءات حقيقية لحماية النساء عند تعرضهن لهذه الانتهاكات".
كما ترى مي صالح، أن العمل في محطات الوقود ليس أكثر أمانًا لمجرد وجود رجال بجانب النساء، بل على العكس، قد يعرّضهن ذلك لمزيد من العنف، نظرًا لنظرة المجتمع لهذه الوظائف على أنها حكر على الرجال.
"ومع ذلك، فهناك نساء يرغبن في خوض هذه المجالات لإثبات قدراتهن وتحقيق ذاتهن، رافضات أن تُحصر إمكانيات المرأة في أدوار تقليدية"
وتشير مي صالح أيضًا إلى أن مصر ومعظم الدول العربية لم تصدّق حتى الآن على اتفاقية 190، الصادرة عن منظمة العمل الدولية منذ عام 2019، والتي تُعدّ مرجعية دولية مهمة لحماية المرأة من العنف والتحرش في سوق العمل ووسائل المواصلات وغيرها من الأماكن العامة، وتضيف: "نطالب بسرعة التصديق على هذه الاتفاقية، حتى لا تظل قاعدة "البقاء للأقوى" هي السائدة في سوق العمل".