جودة عبد الخالق: الحكومة "عكت" الوضع الاقتصادي.. والشعب "غير موجود" في معادلة حكم مصر (حوار)

في مارس من العام 2024، بمقال ينتقد التفاوت الكبير بين الطبقات العليا والدنيا من المصريين، كتب المفكر الاقتصادي الدكتور جودة عبد الخالق: "لقد أتى على المواطن المصرى المسكين حِينٌ من الدهر أصبح فيه كعب داير، رايح جاي بحثا عن كيلو سكر. يحدث هذا في بلد تتباهى حكومته بأنها تبنى مدن الجيل الرابع وتشيد أعلى برج في أفريقيا! كما أتى على المواطن المصرى المسكين حِينٌ من الدهر ليشهد ويكاد ينفجر غيظا وهو يتابع أخبار ذلك الاجتماع المهيب في ذلك المقر الفخيم لحكومة الديار المصرية في العاصمة الجديدة. يا له من تناقض صارخ بين أحوال "الناس اللى فوق" و"الناس اللى تحت" من سكان المحروسة.

واليوم وفي مارس أيضًا من العام 2025 تلتقي "فكر تاني" بالدكتور جودة عبد الخالق عضو مجلس أمناء الحوار الوطني، الوزير الأسبق والأستاذ المتفرغ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ليحدثنا عما تغير في رؤيته للوضع الاقتصادي المصري وما آل إليه حال المصريين، مدليًا بشهادته حول الحوار الوطني ورأيه في مسار الإصلاح الاقتصادي.

جودة عبد الخالق في حواره مع منصة فكر تاني - تصوير إسلام يحيي
جودة عبد الخالق في حواره مع منصة فكر تاني - تصوير إسلام يحيي

فإلى نص الحوار:

الحكومة عكّت الوضع الاقتصادي

في البداية، كيف ترى المشهد العام بمصر في ظل التوترات الجيوسياسية الراهنة؟

تحدث الجغرافي والمفكر والباحث الكبير جمال حمدان عن جدلية العلاقة بين الموقع والموضع بالنسبة لمصر، فمصر بحكم موقعها باستمرار في قلب العاصفة. هي في طريق "الرايح والجاي"، وأي إنسان يخطط لهذا البلد غير مدرك لتلك الحقيقة، فهو يرتكب أحيانًا أخطاءً، وأحيانًا حماقات، وأحيانًا أخرى كوارث.

لذلك، أرفض قاموس الحكومة وما يطلقون عليه "التحديات".

المفكر والوزير الأسبق جودة عبد الخالق -فكر تاني
المفكر والوزير الأسبق جودة عبد الخالق -فكر تاني

مع كل صباح، يقولون لنا إنهم يواجهون التحديات. هذه كلمة مبهمة، وفي الوقت نفسه غير بريئة، وتعني أن هناك من يريد أن يغسل يديه من فعل ما.

الحكومة "عكّت" الوضع الاقتصادي إلى آخر مدى، ثم تعود لتتحدث عن التحديات التي نواجهها. لقد ألقت عرق الناس وثروة المصريين في "شوية طوب وزلط وأسمنت"، ثم تعود لتصرخ من التحديات. هذا غير مقبول.

بالتأكيد، نواجه ظرفًا ضاغطًا بحكم التوترات الحادثة شمال شرق مصر، غزة تحديدًا، وهذا خط تماس مهم جدًا، وأيضًا في باب المندب ومنطقة البحر الأحمر، وفي الصحراء الليبية، وعبر الحدود مع أوروبا.

الفكرة أن مصر بها مرتكزات كبلد "بمعيار البلاد"، تلك المرتكزات تأتي من تاريخ ممتد لآلاف السنين، بالإضافة إلى وجود طبيعة حانية جدًا، وغنية ومعطاءة، بالإضافة إلى تعداد سكاني نصفه في عمر الشباب، وهذا يعتبر طاقة يدوية وعقلية ونفسية جبارة جدًا. كما أن لدينا مياه النيل، على الرغم من تفريطنا في الدفاع عنها، وهو أمر ندفع ثمنه وسنستمر في دفع الثمن.

في رأيي، المشهد العام مشاكله منبعها الداخل، وهذا أخطر. لذلك تحدثت في لقاء مع رئيس الوزراء عن الخطر القادم، وأن هناك قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

قلت لرئيس الوزراء: هناك قنبلة موقوتة بالداخل يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ومصر ليست بلد فقير.. إنها دولة منهوبة من الداخل والخارج

مصر دولة منهوبة

ماذا نفعل لتدارك الأخطاء التي اُرتكبت؟

هناك تصور عام أن مصر بلد فقير، وفي رأيي، هذا تصور خاطئ. مصر دولة منهوبة من الداخل والخارج، وهناك شدة بسبب الظروف الحالية، التي بعضها طارئ وبعضها غير طارئ.

لا بد من العودة إلى المرتكزات، هذا سوف يعطينا ذهنية وأدوات للتعامل مع الأزمات.

مثلًا، عندما نتحدث عن ترمب، نجد أنه يعاني من مرض جنون العظمة، وفي الوقت نفسه يستخدم أسلوب التهويش، فإذا وجد الطرف المقابل له خائفًا، فإن هذا يجعله يتمادى في أسلوبه، أما إذا وجد الطرف الآخر قويًا وصلبًا، يخاف هو ويتراجع.

جودة عبد الخالق
جودة عبد الخالق

يجب علينا إعادة ترتيب البيت من الداخل إذا كانت لدينا رغبة في التعامل مع الأزمات الراهنة، وبالتالي، تكون البداية من السياسة لا من الاقتصاد، "إعمالًا بمقولة لا يستقيم الظل والعود أعوج"، والعود هو السياسة، والظل هو الاقتصاد. الاقتصاد فرع من السياسة.

دائمًا أفعل ما يمليه عليّ ضميري، وبالتالي، أكون دائمًا في حالة شد وجذب مع الآخرين باعتباري "مش عاجبني حاجة". الشعب المصري لديه قدرات عالية جدًا، ومخطئ من يتصور عكس ذلك، والمشهد الحالي ناتج عن سياسات الحكومة التي أفقرت الناس وخوّفتهم.

بالمنطق، إذا أتينا بشخص وأخفناه وجوعناه وهددناه، ماذا سنحوّله؟ مسخ بالتأكيد. هذا ما يبدو على السطح، لكن في الداخل، نعرف أصل من قام بثورة 25 يناير. من أين أتى كل ذلك؟ بالتأكيد من طبيعة الشعب وإدراكه وقدراته العالية.

احتقار الشعب واحتكار السلطة

ما رأيك في تجاهل الاحتقان الداخلي وغض الطرف عن مطالب الشعب؟

هناك ارتباط بين احتقار الشعب واحتكار السلطة.

دائمًا ما نسمع المسؤولين يستخدمون مفردة "الدولة المصرية". لا يوجد دليل أوضح من ذلك على الجهل الحكومي بالقاموس السياسي.

لدينا ثلاثية، أهمها "شعب" يعيش على "أرض"، وهذا هو المحك في غزة الآن، ويختار "حكومة"، وهذه الثلاثة "شعب، وأرض، وحكومة" أضلاع مثلث الدولة.

بقدرة قادر، تختصر الحكومة الموضوع كله إلى ضلع واحد، فتتحدث عن الحكومة كأنها الدولة: "الحكومة قررت، الحكومة وافقت، الحكومة اعترضت"، وهذا كلام قد يبدو بريئًا، لكنه ليس كذلك، لأنه يعني أن الشعب ليس له وجود في معادلة الحكم في هذا البلد.

الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء (وكالات)
الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء (وكالات)

عندما أتحدث عن أن الشعب لا اعتبار له في اتخاذ القرار، فهذا يعني أنه من الممكن تطبيق سياسات مضادة لمصالح المواطنين المصريين، وعندما تحدث المشاكل، يتم تبرير ذلك بما يسمى التحديات.

ما حدث هو أنه تم دفن تريليونات الجنيهات والدولارات في الرمال بمسميات مختلفة، وأحيانًا بشكل "شيك"، أو هكذا يدّعون، ثم نعود ونشتكي من أن لدينا أزمة ديون نحن من خلقها. في الحقيقة، عندما سرنا في هذا الطريق، لم نضع أي اعتبار للمواطن العادي أو لاحتياجاته وطموحاته.

المواطن المصري إنسان كبير جدًا، ويجب أن يُنظر إليه بالتقدير المطلوب.

يصيبني الحزن من كيفية التعامل مع المصريين، خصوصًا في دول الخليج، وأيضًا في مصر، فعندما يدخل المواطن قسم الشرطة أو مكتبًا حكوميًا، يتعرض للبهدلة، وكأنه في مكانة أدنى، رغم أنه ليس كذلك.

المسألة تتلخص في كيفية إعادة الاعتبار للشعب في معادلة الحكم، وبالتالي، إعادته إلى ساحة الاقتصاد مستغنيًا وقادرًا.

السلطتان التشريعية والتنفيذية

كيف نبدأ على أرض الواقع في ظل هذه الظروف؟

في رأيي، البداية من الحكومة ومجلس النواب، أي "السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية".

حاليًا، السلطة التشريعية يحتكرها حزبا مستقبل وطن وحماة الوطن، وقد يضاف إليهما حزب ثالث.

مع الأسف، طريقة انتخاب السلطة التشريعية بها عيب خلقي يترتب عليه احتكار السلطة، مما يؤدي إلى سيطرة حزبي مستقبل وطن وحماة الوطن.

عندما تكون هناك مصلحة للشعب بقطاعاته الأوسع، فإن هذه السياسة سوف تتغير، ومعها القوانين، ويكفي متابعة الجدل الدائر حول قانون الإجراءات الجنائية وقانون التصالح على مخالفات البناء.

مجلس النواب المصري - مواقع الكترونية
مجلس النواب المصري - مواقع الكترونية

إذا تصورنا وجود معادلة مختلفة للحكم وهيكلية للسلطة التشريعية بها قدر أكبر من التوازن بين الأطراف أصحاب المصلحة، فإن الأمر سيختلف تمامًا في السياسات المطبقة والإجراءات المنفذة، وهذا في حد ذاته سيحقق نقلة إلى الأمام في حياة المصريين.

سنجد مثلًا أن أزمة نقص الموارد، التي تشتكي منها الحكومة، ستكون أزمة غير مطروحة، لأن الموارد مبددة ومنهوبة، وليست ناقصة.

لدينا أمل أن يحدث توافق على نظام الانتخابات وأن تتم انتخابات 2025 على أساس نظام مختلط (فردي، قائمة مطلقة، قائمة نسبية) 

"حاولوا استخدامي كورقة توت"

ما رأيك في الانتقادات الموجهة للحوار الوطني، خصوصًا في ملف الحبس الاحتياطي؟

أنا جودة عبد الخالق، رقم غريب في معادلة الحوار الوطني. من صنعوا الحوار كان لديهم رغبة في استخدامي كورقة توت، لذلك "أضغط بعض الوقت وأسيب بعض الوقت".

هناك الكثيرون مطمئنون للحوار بسبب وجود شخص مثلي مشاركًا فيه، ولكن في الوقت نفسه، لن أجمل ما هو قبيح، ويجب أن يكون لوجودي أهمية في هذا المجلس.

اجتماع مجلس امناء الحوار الوطني والحكومة - فيس بوك
اجتماع مجلس امناء الحوار الوطني والحكومة - فيس بوك

تشكيل مجلس أمناء الحوار الوطني تم بطريقة لا أعلمها، وهذا جزء من أزمة الحكم في بلدنا، حيث تتم كل الأمور الضرورية في ركن مظلم لا يعلم عنها أحد شيئًا.

هذه هي المرة الأولى التي تخوض فيها مصر تجربة حوار وطني. صحيح أن هذا المسمى تكرر أيام مبارك في التسعينيات، لكنه كان بطريقة مختلفة، حيث شاركت الأحزاب ككيانات، وكانت مساحة الحرية محدودة.

أما الآن، فـ"البرجل" مفتوح على الآخر في مرحلة المناقشات والوصول إلى توصيات، وبعد ذلك يتم إغلاق "البرجل" تمامًا.

حاليًا، يمثل الحوار مشكلة حقيقية ويمر بأزمة، لأنه خلق تصورًا عند الناس بأن هناك انفراجة في ملف الحبس الاحتياطي، وأن الجميع سيدلي برأيه وسنصل إلى توافق حول ما يحقق الصالح العام، لكن ما حدث على أرض الواقع مختلف.

مع الأسف، مرت فترات طويلة دون اجتماعات، ولم تحدث نتائج مهمة حتى الآن.

 طريقة انتخاب السلطة التشريعية بها عيب خلقي يترتب عليه احتكار تلك السلطة، لصالح حزبي مستقبل وطن وحماة الوطن وقد يضاف لهما حزبًا ثالثًا

تجاهل الحكومة ومراوغة مجلس النواب

لماذا لا تزال مشاركًا في الحوار الوطني؟

كان تقديري أنه لا بد أن نصبر ونعطي الحوار فرصة ليحقق نتيجة، وبعد فترة من الاختبار، وجدت أن هذا التقدير ليس له أساس، وأني مخطئ، وأصبحت في موضع اختيار بين الخروج من مجلس الأمناء أو الرضا بقليله.

وكان تقديري وما يزال أن الحوار آلية نحتاجها في مصر بشدة، لأنه يعطي صوتًا آخر للناس ليعبروا عن وجهة نظرهم.

الحوار بين شقي الرحى، وهذا ما صرحت به في المجلس وفي لقاءات رسمية، فالحوار بات بين مطرقة تجاهل الحكومة ومراوغة مجلس النواب، وقررت اتباع استراتيجية بها قدر من الصبر.

مجلس أمناء الحوار الوطني
مجلس أمناء الحوار الوطني

عندما اكتشفت أن الموضوع عبثي، وجاءنا طلب رسمي من الحكومة بمناقشة التحول من الدعم العيني إلى النقدي، أعلنت أمام المجلس، في اجتماعات مصورة صوتًا وصورة، أنني لن أشارك في اجتماعات لمناقشة موضوعات، سواء كان الدعم أو غيره، لأننا بذلنا مجهودًا وأصدرنا مئة توصية في المرحلة الأولى من الحوار، وهذه التوصيات إما تم تجاهلها، أو أن الحكومة فعلت عكسها وأعلنت أنها تصرفت بناءً على توصيات الحوار.

وبناءً عليه، أبلغت المسؤولين عن الحوار بتجميد نشاطي، لحين مناقشة الجزء الأهم، وهو أين توصيات الحوار التي صيغت ولم تُنفذ إلى الآن؟ وظل الوضع هكذا لحين الاجتماع الذي عُقد في 6 فبراير الجاري، وحضرت بالفعل على أساس مناقشة لُب الموضوع.

خرجت من الاجتماع وأنا أشعر بجزء من الأمل وجزء من القنوط، وحتى الآن أحاول بذل المجهود في جبهة تفعيل التوصيات، لأنه لا معنى لبذل المجهود في توصيات جديدة، بينما التوصيات القديمة، لو أُخذ بها في الواقع، لاختلف ما تسميه الحكومة بالتحديات الاقتصادية، لأننا قدمنا توصيات اقتصادية، ولو أُخذ بها، لارتفعت هذه البلد إلى مصافّ السماء.

هناك مسألة أخرى تتعلق بالإعلام المرتبط بالحوار، فقد تم إنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" خاصة بأخبار الحوار، لكن كم شخصًا مشترك فيها أو يدخل ليقرأ ما يُكتب؟ وحتى المكتوب "كلام مزفلط"، لا يمكن فهمه أو استخلاص شيء منه. لا بد من وجود قناة أو وسيلة إعلامية تنقل ما يدور في الحوار وتعرض الجلسات مباشرة.

معظم المشاركين في الحوار، وهذا ليس قدحًا في أحد، من عباءة الحكومة، ولا يملكون الخروج من عباءة الحكومة، وما صرحت به كثيرًا أننا نطالب بشفافية، لكن في الوقت نفسه، في الحوار الوطني، لسنا شفافين بالقدر الكافي.

كواليس لقاء رئيس الوزراء

ما كواليس ما دار في لقاء رئيس الوزراء مع مجلس أمناء الحوار الوطني في 6 فبراير الماضي؟

كثرت اجتماعات رئيس الحكومة مع أطراف متعددة في الآونة الأخيرة، وهذا كان أول لقاء بين رئيس الحكومة والحوار الوطني، وبالرغم من بدء الحوار في 2022، فإنه لم يُعقد لقاء مع رئيس الجمهورية، وهو أول من دعا للحوار، أو مع رئيس الوزراء وأعضاء الحوار.

كان الاجتماع بين أمناء مجلس الحوار الوطني ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وبعد كلمة لرئيس الوزراء استمرت نصف ساعة، لمحاولة وضع الحاضرين أمام المشهد العام أو ما يُسمى بالتحديات.

جودة عبد الخالق
جودة عبد الخالق

في حديثه أثناء الاجتماع، قال رئيس الوزراء إن الحكومة اقتحمت ملفات متروكة منذ مدة طويلة، وإنهم يبنون دولة قوية بتعمير الصحراء ومدّ طرق وكباري وغير ذلك، حتى يشعر الخطر الخارجي بأننا دولة قوية. وأكد أن الرئيس وجه بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وأضاف رئيس الوزراء أن الحكومة نفذت 70% من توصيات الحوار.

وفي رأيي، من يتصور أن قوة الدولة تُقاس بكمية الرمل والزلط فهو مخطئ، وأنا أعتبر تلك موارد مهدرة.

عندما أتيحت الفرصة للحضور لأخذ الكلمة، تحدث عدد معتبر من الأعضاء بأن ما قيل عن تنفيذ الحكومة أغلب توصيات الحوار غير صحيح، وبناءً على ذلك، طالبنا ببحث هذا الموضوع بجدية، لأنه "إما أننا لا نفهم بشكل صحيح، أو أن هذا هو الواقع، وكل أعضاء الحوار الوطني، باستثناء التابعين للحكومة، يفهمون الأمر على هذا النحو".

وتم الاتفاق بعد مناقشات حول الموضوع على أن المشكلة تكمن في التوصيات الخاصة بالشق الاقتصادي والسياسي.

فيما يخص الشق الاقتصادي، ستُشكَّل لجنة من ثلاثة أعضاء من داخل مجلس الأمناء، تتضمنني، بصفتي عضوًا في مجلس الأمناء، بالإضافة إلى مقرر المحور الاقتصادي الدكتور أحمد جلال، والمقرر المساعد للمحور الاقتصادي عبد الفتاح الجبالي. ومهمة هذه اللجنة بحث مدى تنفيذ توصيات الحوار في الشق الاقتصادي.

الحوار الوطني هو منصة كبيرة جدًا شارك فيها 7000 مصري، وأسفرت هذه العملية التفاعلية عن توصيات محل توافق الجميع. ومن ضمن القضايا التي طرحناها ولم يتم الأخذ بتوصياتنا فيها، قضية ارتفاع الأسعار والمعاش اليومي، لذلك اقترحنا تعديلات على بعض نصوص قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية لكسر شوكة الاحتكار الذي يعربد في البلد ويمتص دماء الناس. وشمل المقترح تعديل مادتين أو ثلاث، قُدمت مع حيثياتها، لكن لم يُلتفت إلى هذا الموضوع، وكان رد الحكومة أنهم يعقدون اجتماعات أسبوعية في لجان للمتابعة، ومع ذلك، لم يُؤخذ بالمقترحات.

لكن الأزمة ليست أزمة حكومة فقط، وهذا يعيدنا إلى مسألة احتكار السلطة التشريعية. فسنجد نواب حزب مستقبل وطن، ويليه حزب حماة الوطن، لا يسمحون بإجراء أي تعديلات على قانون حساس مثل قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية.

أنا رقم غريب في معادلة الحوار الوطني، وكانوا يرغبون في استخدامي كورقة توت، كان تقديري أنه لابد أن نصبر ونعطي الحوار فرصة أن يعطي نتيجة، وبعد فترة من الاختبار وجدت أن هذا التقدير ليس له أساس، وأني مخطئ، وأصبحت في موضع اختيار ما بين الخروج من مجلس الأمناء أو الرضا بقليله

موازنة واحدة

ما أبرز ما تسعون إليه في الشق الاقتصادي؟

نريد سياسة اقتصادية تستحق هذا الاسم، فلا بد من وجود موازنة واحدة للدولة المصرية، ونحن لا نمتلك موازنة حقيقية.

لدينا الموازنة اسمًا فقط، فهي لا تشمل 50% من النشاط المالي للدولة، بينما يبقى النصف الآخر خارج الحسابات. بمعنى أنه يتم تصميم السياسة المالية ومناقشتها، وفي النهاية لا تمتلك الدولة السيطرة على 50% من النشاط المالي. ولكن إذا عدلنا المعادلة وأدخلنا الصناديق الخاصة والهيئات وما إلى ذلك تحت عباءة الدولة، فسيختلف الأمر تمامًا.

مجلس أمناء الحوار الوطني
مجلس أمناء الحوار الوطني

لا بد من ضبط الإنفاق العام، وهو أحد المقترحات التي قدمناها.

كما يجب وضع ضوابط على حركة رؤوس الأموال الساخنة. ففي عام 2020، أربكنا خروج 20 مليار دولار من مصر دفعة واحدة. وقدمنا اقتراحًا من مجلس الأمناء، بحيث لا تكون هذه الأموال بابًا مفتوحًا بلا ضابط ولا رابط.

قدمنا الاقتراح واستشهدنا بتجارب دول أخرى، لكن تم وضعه في الأدراج.

والآن، تتباهى الحكومة بأنها تطرح أوراقًا مالية يستثمر فيها رأس المال الأجنبي، مما يثير قلقًا شديدًا، لا سيما في ظل وجود شخص مثل ترمب، فقد يحدث أي شيء يؤدي إلى خروج تلك الأموال، وفي حال خروجها، قد يفقد الجنيه المصري جزءًا معتبرًا من قيمته.

مثال آخر يتعلق بالصناعة، حيث تتحدث الحكومة عن توطين الصناعة، لكن هناك نماذج على فشل هذه السياسة، مثل شركات النصر للسيارات وشركة فيات، التي أغلقت أبوابها وسرحت عمالها بعد عشرات السنين من العمل. والحل هو وضع سياسة صناعية تحكمها مجموعة من الحوافز والروادع، لأنه عندما يتم تقديم الدعم والقروض، لا بد من وجود حساب ومردود.

أما فيما يخص الدعم، فلم نناقش القضية بتفصيل، لكننا قدمنا تحذيرًا من التحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي دون اتخاذ التدابير المناسبة. لذلك، أتمنى أن تعقد هذه اللجنة اجتماعات، وأن نحصل على البيانات التي توضح تنفيذ 70% من توصيات الحوار، كما يدّعون.

هناك انتهازية في التعامل مع الشعب

البعض يعتبر لقاء الحكومة مجلس أمناء الحوار الوطني تعبيرًا عن حاجة النظام إلى ظهير مجتمعي بعد تهديدات ترامب. كيف ترى الأمر؟

طبعًا، النظام يحتاج إلى الدعم، وأنا أعتبر هذه انتهازية، لأن الشعب طالب مرارًا وتكرارًا بمشاركته في القرارات، ولم يلتفت له أحد، أما الآن فهو يحتاج إلى الدعم في مواجهة الخطر الخارجي.

نحن كمصريين على استعداد أن نمنح مصر، بلدنا، أعيننا، لكن دون أن يستخف بنا أحد.

حاليًا، الموضوع متوقف في الحوار الوطني عند نقطة سماع وزراء المالية والاستثمار وجميع المسؤولين، كي نرى ماذا صنعوا حتى نصل إلى نتيجة في تقدير حقيقة تنفيذ التوصيات.

ملف سجناء الرأي

ماذا عن توصيات الحوار الوطني في ملف سجناء الرأي والمحبوسين احتياطيًا في قضايا الرأي والسياسة؟

نحن في أزمة كبرى تتعلق بحرية الرأي والتعبير في مصر. وأنا شخصيًا لا أستطيع نشر مقال حاليًا إلا في جريدة "الأهالي"، بعد أن رفضت "المصري اليوم" و"الأخبار" و"الأهرام" نشر مقالاتي.

لقد بذلنا مجهودًا مضنيًا في هذا الملف، الذي يتفاقم بسبب عدم القبول بحرية الرأي والتعبير. ولم ندّخر أي فرصة يمكن أن تسهم في تحسين الوضع إلا واستغللناها.

جودة عبد الخالق في حواره مع منصة فكر تاني - تصوير إسلام يحيي
جودة عبد الخالق في حواره مع منصة فكر تاني - تصوير إسلام يحيي

شارك عدد كبير من مختلف التوجهات السياسية، بمن فيهم المسجونون السابقون الذين خاضوا التجربة، في تقديم توصيات، وخرجنا بنصوص متوافق عليها، لكن لم يتم الأخذ بها.

هناك جزء من التوصيات متعلق بنصوص في قانون الإجراءات الجنائية، وهو محل جدل شديد ومراوغة - وهي كلمة سيئة أخلاقيًا - ومعارضة من أغلبية مجلس النواب.

لم أكن أتخيل أن يتقدم وزير العدل باقتراح لتعديل مادة في قانون الإجراءات الجنائية، ثم ترفضه الحكومة، والمفارقة أن وزير العدل نفسه جزء من هذه الحكومة.

يجب أن ندرك أن قضية الحبس الاحتياطي ليست مجرد تعديلات قانونية، فهناك ما هو ظاهر على السطح، لكن أيضًا هناك ما هو مستتر، حيث إن الدولة البوليسية في مصر متنفذة جدًا، ويبدو أنها أصبحت كيانًا قائمًا بذاته، في رؤيتي الشخصية.

هذا التأخير في الملف خلق حالة من الاحتقان داخل الحوار الوطني، إذ بدا الأمر وكأن أعضاء الحوار الوطني "عملوا البحر طحينة" وعشموا الناس، ثم تبيّن أن ذلك غير صحيح، وما زالت المسألة معلقة. على سبيل المثال، الحركة المدنية الديمقراطية عندما شاركت في الحوار الوطني، كان أولويتها قضية الحبس الاحتياطي، وعندما وجدت أن الأمر غير مجدٍ، انسحبت من الحوار منذ فترة.

عندما طرح البعض فكرة الانسحاب من الحوار، قوبل ذلك برفض شديد، مع تمسك بوجودي، ولذلك أبلغت أعضاء مجلس الأمناء بأن أخطر شق في هذه العملية هو الشق السياسي، يليه الشق الاقتصادي، الذي حاولنا ضبطه عبر اللجنة المشكلة، وأنا أتابعها بشكل يومي.

الأرض سبخ لا تنتج زرع، والآن الأرض السياسية سبخ وبالتالي مهما أضفنا إليها أحزاب كثيرة لكنها لا تؤتي بنتيجة ويكون مصيرها مصير باق الكيانات

ماذا عن الشق السياسي؟

الشق السياسي به أزمة، فإذا تحدثنا عن النظام الانتخابي، نجد أن به مشكلة كبيرة، بمعنى أن الطريقة التي تُنتخب بها السلطة التشريعية، سواء على المستوى الوطني في مجلسي النواب والشيوخ، أو على مستوى المحليات، تعاني من خلل، فنحن في بلد لا يوجد بها مجالس محلية منذ عام 2011.

استطعنا من خلال جلسات الحوار تقديم مقترح بمشروع قانون لانتخابات المجالس الشعبية المحلية، يستجيب لكل الاشتراطات، ويتضمن حصصًا للمرأة والأقباط وذوي الاحتياجات الخاصة، وشارك في الصياغة عدد كبير، جميعهم من أهل الخبرة والمعرفة. ومع ذلك، مر عام على هذا القانون، ولم تلتفت إليه الحكومة.

"تبقى للنمط الجغرافي لتقسيم الدوائر الانتخابية قيمته وتأثيراته على توجيه انحيازات وتفضيلات الناخبين"- الصورة من تصميم سلمى الطوبجي – فكر تاني
"تبقى للنمط الجغرافي لتقسيم الدوائر الانتخابية قيمته وتأثيراته على توجيه انحيازات وتفضيلات الناخبين"- الصورة من تصميم سلمى الطوبجي – فكر تاني

وفي انتخابات مجلس النواب، وطبقًا للممارسات الدولية، التي تعتمد إما على نظام المقعد الفردي أو نظام القائمة (النسبية أو المطلقة)، قررنا التصدي لإجراء الانتخابات بالقائمة المطلقة، لأنها تؤدي إلى تركيز السلطة وانعدام أي حافز للقوى السياسية على خوض الانتخابات. ولكسر هذا الوضع، طرحنا أن يكون هناك خليط بين نسبة للقائمة المطلقة ونسبة للقائمة النسبية ومقاعد فردية، مما قد يؤدي إلى حلحلة الوضع إلى حد ما.

حاولنا الوصول إلى توافق، لكننا واجهنا عقبتين كبيرتين، وهما أعضاء حزبي مستقبل وطن وحماة وطن، الذين تمسكوا بشدة بعدم التنازل عن القائمة المطلقة، وذلك لأنهم، إذا دخلوا دائرة انتخابية وحصلوا على 51% من الأصوات، يستحوذون على 100% من المقاعد.

وبخصوص هذا الشأن، تم الاتفاق، بناءً على اقتراحي، على توسيع قاعدة المشاركة في مجلس أمناء الحوار بضم عضو عن حزب مستقبل وطن وعضو عن حزب حماة وطن، بحيث يتم تضييق فجوة الخلاف ونتمكن من الوصول إلى اتفاق.

ولدينا أمل في أن يحدث توافق، وأن تُجرى انتخابات 2025 على أساس نظام مختلط (فردي، نسبة للقائمة المطلقة، نسبة للقائمة النسبية). وفي رأيي، إذا تحقق ذلك، فستكون هناك انفراجة كبيرة، حيث ستكون هذه أول مرة في تاريخ مصر يُطبق فيها نظام القائمة النسبية، بما يضمن توزيعًا أكثر تمثيلًا.

وفي حال عدم الوصول إلى نتائج ملموسة في الشقين السياسي والاقتصادي، وتجاهل التوصيات الاقتصادية، وعدم التوافق حول النظام الانتخابي، فمن المؤكد أنني سأخرج من الحوار.

بداية الإصلاح يجب أن تكون من السياسة لا الاقتصاد، إعمالًا بمقولة "لا يستقيم الظل والعود أعوج" فالعود هو السياسة والظل هو الاقتصاد

قانون الضمان الاجتماعي الجديد

نذهب إلى قانون الضمان الاجتماعي الجديد.. برأيك، هل سيوفر حماية للأسر الفقيرة؟ أم لا أمل في تحسن الوضع؟

لم أتمكن من الحصول على النسخة النهائية من القانون، ولقد كنت وزيرًا مسؤولًا عن هذا الملف من فبراير 2011 وحتى ديسمبر 2011. وعند قراءة دستور 2014، الذي يُعد مرجعية في هذا الجانب، نجد أنه يتحدث عن "العدالة الاجتماعية"، ويؤكد أن العدالة الاجتماعية أساس النظام الاقتصادي في مصر.

ما تتحدث عنه الحكومة ليس عدالة اجتماعية، بل حماية اجتماعية، والفرق بينهما كبير جدًا؛ فالعدالة الاجتماعية تقوم على تكافؤ الفرص.

فعند النظر إلى قضية التعليم، نجد أن المواطنين الفقراء والبؤساء لا يملكون سوى إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية المكتظة بالتلاميذ، والتي تفتقر إلى التجهيزات والمعلمين والإمكانات. وبالتالي، يتخرج أبناء الفقراء ولديهم قصور ذاتي منذ البداية يمنعهم من المنافسة في الحياة، إذ لا يمتلكون لغة ولا قدرات كافية. وإذا قارنا هذا الخريج بآخر أكثر حظًا من خريجي المدارس الدولية، سنجد أن هناك فريقين في السياق المجتمعي، أحدهما عاجز عن خوض المنافسة ليضمن لنفسه، بمجهوده، دخلًا كافيًا وعادلًا.

إذا كان هناك التزام بالنسب المقررة للإنفاق على التعليم والصحة في الدستور، فسيكون هناك فرق حقيقي.

بعد ذلك، وفي إطار الالتزام الواجب بالعدالة الاجتماعية، يمكن إطلاق مبادرات للحماية الاجتماعية لمن يعانون الجهل أو تدهور الصحة، مثل مبادرات "حياة كريمة" و"تكافل وكرامة" وغيرها.

مصر محكومة بطبعة جديدة من الحزب الوطني

ما رأيك في عدم وجود شفافية في إعلان نصوص القوانين التي تتم مناقشتها في مجلس النواب؟

وجهة نظري الشخصية، وهذا ليس تبريرًا للأوضاع القائمة، أن مصر عاشت لفترة طويلة جدًا، حيث كان يتم اتخاذ القرارات بشأن الشأن العام إما في غرف مغلقة أو في المصاعد أو الممرات، بعيدًا عن السياق الطبيعي الذي يُفترض أن يسمح للجميع بمتابعة ما يجري والمشاركة برأيهم، ولكن معًا، وليس كما يحدث الآن في جزر منعزلة.

في ثورة 25 يناير 2011، أطلقنا صيحة مدوية: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، لن أنساها ما حييت. وعلاقة هذا بما يحدث الآن تكمن في أن هناك إلحاحًا من الثوار حينها بأن تتنفس مصر نسيم الحرية. ولكن في كل ثورة، تتصارع قوتان: قوى الثورة وقوى الثورة المضادة. وقد كسبت الثورة الجولات الأولى بعد 25 يناير، لكن بعد ذلك، استعادت قوى الثورة المضادة زمام الأمور، وبدأت تدير المشهد لصالحها، بحيث يتم طرح القضايا في سياقات منفصلة، ما يجعل الرأي العام يرى جزءًا فقط من الصورة، فيما يُناقش الجزء الآخر في الخفاء، وبالتالي نجد أنفسنا نطارد هدفًا متحركًا يصعب الوصول إليه.

هذا لا يعني أنني يائس، بل على العكس، عند قراءتي للتاريخ، أجد أن هذه العملية، نظرًا لتعقيدها واصطدامها بالمصالح الأساسية للفئات المرتبطة بها، أصبحت صراعًا اجتماعيًا مريرًا. وعلى خلفية ذلك، هناك من يدخل السجن، وهناك من يُقتل، وهناك من يخرج من الحكم، بينما يدخل غيره.

نحن أمام عملية معقدة تتعلق بالتطور السياسي والثقافي في المجتمع، وما نستطيع فعله هو خوض بعض المعارك الفردية هنا وهناك، إلى أن تتهيأ الظروف العامة لحسم القضايا العالقة، مثل قضية الحبس الاحتياطي.

مع الأسف، من يحكم مصر حاليًا هو نسخة بطبعة جديدة من الحزب الوطني الديمقراطي.

الوضع الداخلي أخطر من الخارج وهو أساس منابع مشاكل المشهد العام في مصر وعلينا إعادة ترتيب البيت من الداخل إذا كان لدينا رغبة في التعامل مع الأزمات الراهنة

التحول إلى دعم نقدي جريمة

قضية الدعم مثار جدل واسع.. برأيك أيهما أفضل: الدعم العيني أم النقدي؟

هناك فارق بين الدعم كنظرية تُناقَش بين الاقتصاديين وبين الواقع.

ما نعلمه للطلبة في قاعات الدرس هو أن الدعم النقدي أكثر كفاءة من الدعم العيني، لأننا بذلك نُلغي الوسطاء الذين يعيشون كالطفيليات، فيأخذون الجزء الأكبر من الدعم، وتصبح العلاقة مباشرة بين المواطن والحكومة.

إحدى الروايات التي سمعتها أن الحكومة ستصرف 175 جنيهًا لكل مواطن، ليتسوق هو المنتجات. صحيح أن أحدًا لن يمد يده ليأخذ قيمة الدعم، لكن كيف نضمن ألا يحدث انفلات في الاحتكار ينتج عنه تناقص قيمة الدعم النقدي؟

جدل واسع حول الدعم العيني والنقدي في ظل ارتفاع ثمن الخبز (وكالات)
جدل واسع حول الدعم العيني والنقدي في ظل ارتفاع ثمن الخبز (وكالات)

معنى ذلك أنه، من حيث المبدأ، الدعم النقدي أكثر كفاءة، ولكن له شروط لا بد من استيفائها. أولًا، يجب أن يكون لدينا بيان محدد بقاعدة المستحقين للدعم النقدي، وهو موضوع كبير، لكنه ضروري حتى لا يُستبعد مستحق من شبكة الدعم أو يحصل عليه من لا يستحقه، وهذا يرتبط بالاتفاق على معايير الاستحقاق.

ثانيًا، لا بد من وجود قدرة على التحكم في الأسعار وضبط الأسواق.

من وجهة نظري، وطبقًا للأوضاع الحالية في مصر، فإن التحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي جريمة في حق المواطن، لأن هناك نصًا دستوريًا ينص على أن "تضمن الدولة للمواطن غذاءً صحيًا وآمنًا وكافيًا"، ويتفرع عن هذا النص إجراءات لا بد من اتخاذها، سواء لدعم أو تشغيل أو تعليم، لا يمكن إغفالها.

وواضح لكل ذي عينين أن الدولة، بمعنى الحكومة بكل أجهزتها، عاجزة عن تحقيق قدر مقبول من التحكم في الأسعار وضبط الأسواق.

هناك مواطنون مصريون لا يمتلكون بطاقة رقم قومي، وهؤلاء لا يمكن الوصول إليهم. لذا، فإن الحل يكمن في قاعدة بيانات دقيقة، ووضع ضوابط لتحديد المستحقين، إلى جانب وضع آليات لضبط الأسواق ومكافحة الاحتكار.

عندما حاولنا تعديل قانون حماية المنافسة لضبط الأسواق والأسعار، كان من أشد المعارضين أعضاء بحزبي مستقبل وطن وحماة وطن، لأنهم هم المسيطرون على شبكة التداول وشبكة البيع والاستيراد. قد لا يظهرون على خشبة المسرح بشكل واضح، لكنهم يمسكون بكل الخيوط.

الدعم ليس عبئًا على الميزانية

تقول الحكومة إن الدعم عبء على ميزانية الدولة.. ما تعليقك؟

هذه خرافة، لأن الموازنة العامة، التي تغطي 50% فقط من النفقات، تعتمد على مبدأ التوازن بين الإنفاق الكلي والإيرادات الكلية.

الإنفاق الكلي في الموازنة الجارية (2024-2025) يبلغ نحو 4 تريليونات جنيه، وتنتهي في يوليو، وتشمل الإنفاق على التعليم، الصحة، الدفاع، الأمن، استحقاقات خدمة الدين (أقساط وفوائد)، ودعم السلع التموينية.

جودة عبد الخالق
جودة عبد الخالق

إجمالي ما يُنفق على الدعم، بما في ذلك الخبز والسلع التموينية، يتراوح بين 230 و235 مليار جنيه، أي ما يعادل 2.5% إلى 3% فقط من إجمالي الميزانية، وهو مبلغ ضئيل مقارنة ببنود أخرى، أبرزها خدمة الدين العام التي تستحوذ على أكثر من 80% من الإنفاق.

إذا كنا نرغب في إصلاح الأوضاع المالية، فلا بد من التركيز على النسبة الأكبر من الإنفاق، وهي الديون، إذ أن الحكومة أنشأت وزارة "التعاون الدولي"، التي طالبتُ مرارًا بإلغائها، لأنها ليست سوى وزارة للاستدانة، لكن الحكومة لا تدفع ثمن هذه الاستدانة، بل يتحملها المواطن في النهاية.

أولوية الإصلاح المالي يجب أن تبدأ من ملف الدين العام، لا من الدعم.

ثانيًا، هناك هدر كبير في الإنفاق الجاري للحكومة، وأقول بضمير مستريح إنه يمكن تخفيض هذا الإنفاق بنسبة 20% دون أن يتأثر أي قطاع حيوي.

في حال تجاهل التوصيات الاقتصادية وعدم التوافق حول النظام الانتخابي المختلط من المؤكد أنني سأخرج من الحوار الوطني

الجبهة كيان مصطنع

كيف ترى المشهد السياسي في ظل وجود أحزاب الموالاة الراهنة؟

الحزب السياسي، بطبيعته، هو تعبير عن مصالح قطاع معين في المجتمع، سواء كانوا فلاحين، عمالًا، أو رجال أعمال، وقد يكون معبرًا عن الرأسمالية الوطنية أو غيرها من التوجهات. الأهم أنه يعكس توجهًا واضحًا وموقفًا من القضايا الوطنية والاجتماعية.

مؤسسو حزب الجبهة الوطنية الجديد - فيس بوك الحزب
مؤسسو حزب الجبهة الوطنية الجديد - فيس بوك الحزب

عندما يكون هناك حزب يدافع عن مصالح العمال والفلاحين، فمن الطبيعي أن يكون له موقف محدد تجاه السياسات الاقتصادية والرأسمالية.

لكن في المقابل، نجد أحزابًا مثل "حزب الجبهة الوطنية" تعلن أنها ليست معارضة ولا موالية، مما يجعلها كيانًا مصطنعًا، تتحكم فيه أطراف متعددة، دون أن يحمل هوية سياسية حقيقية.

الأرض السياسية سبخة لن تنتج

هل يؤثر وجود حزب الجبهة الوطنية على الانتخابات القادمة؟

هذا يتوقف على استمرار وجود النظام الانتخابي بالقائمة المطلقة، مع تقسيم الجمهورية إلى أربع دوائر، منها دائرة من الجيزة وحتى أسوان، فإذا تم تعديل النظام الانتخابي بالاعتماد على القائمة النسبية، فمن الممكن أن يحدث جديدًا.

لكن إذا ظل النظام بالقائمة المطلقة، ستحدث معركة بين هذا الحزب وحزبي مستقبل وطن وحماة الوطن، ويكون الوضع هو أن ما يكسبه طرف يخسره طرف آخر، وسيظل الشعب خارج المعادلة.

ولقد شاركت في إطلاق حزب الوعي، لأن تشكيلته مختلفة وأقرب إلى طبيعة الحزب، ومع ذلك هناك قاعدة أساسية يعرفها الفلاح جيدًا، وأنا فلاح ومارست الفلاحة: إذا كانت الأرض سبخة، فإنها لا تنتج زرعًا. والآن، الأرض السياسية سبخة، وبالتالي، مهما أضفنا إليها أحزابًا كثيرة، فإنها لا تؤتي بنتيجة، ويكون مصيرها مصير باقي الكيانات.

الأحزاب ضرورة سياسية

ما رأيك في وضع أحزاب المعارضة في المشهد السياسي الراهن؟

أحزاب المعارضة في وضع لا تُحسد عليه، وأنا أتحدث باعتباري أحد مؤسسي حزب معارض، وهو التجمع، لأنها محاصرة داخل مقراتها، ولا تملك من وسائل التعبير إلا جريدة أو موقع.

إن وجد لهذه الأحزاب تمثيل في البرلمان، فهو منزوع الدسم، لأنه لا يستطيع تقديم استجواب لوزير، وأقصى ما يستطيع هو تقديم اقتراح برغبة أو طلب إحاطة. وبالتالي، هذا ليس العصر الذهبي للأحزاب، ولكن الأحزاب ضرورة سياسية في كل الأحوال. وما أتمناه ليس إلغاء كل هذا، ولكن أن تُتاح لها بيئة حاضنة تمكنها من التعبير عن مصالح الناس ورؤاهم.

هناك ارتباط بين احتقار الشعب واحتكار السلطة، والحكومة تتحدث عن نفسها كأنها الدولة وحاليًا من يحكم مصر نسخة طبعة جديدة من الحزب الوطني الديمقراطي، ولابد من عودة الاعتبار للشعب في معادلة الحكم، وبالتالي نعيده إلى ساحة الاقتصاد مستغنيًا وقادرًا

وضع صعب

كيف ترى مستقبل الحركة المدنية الديمقراطية؟

وضع الحركة المدنية صعب جدًا، بها انقسامات داخلية للأسف، لا يوجد أفق لإصلاحات لأن الأرض السياسية بدأت تتغير وبالتالي الصيغة المبنية عليها بالجمع بين أقصى اليمين وأقصى اليسار تجافي فكرة الحزب أو الحركة.

لابد من كسر شوكة الاحتكار الذي يعربد في البلد ويمص دم الناس وهذا يحتاج إلى تعديل تشريعي تم تقديمه دون استجابة

تنتقد الحكومة كثيرًا.. ماذا عن تجربتك كوزير؟ أليست محل انتقاد كذلك من البعض؟

أنا توليت الوزارة لمدة 18 شهرًا فقط، شاركت خلالها في أربع حكومات مع ثلاثة رؤساء وزراء، بدايةً من أحمد شفيق، مرورًا بعصام شرف، وأخيرًا الجنزوري. ورفضت المشاركة في الوزارة مرتين؛ فقد رفضت العمل مع الإخوان بالرغم من الإلحاح الشديد، وكذلك رفضت المشاركة في وزارة حازم الببلاوي.

أخطر شيء يمكن أن تتعرض له هو "نداهة السلطة"، حيث تصبح ملكًا متوّجًا، لا يعترضك أحد على كلمة، ولا حتى يعطيك نصيحة، فتظل ترى الحياة وردية. هذه طبيعة النظام السياسي، لكنها في الوقت نفسه عيب، لأن الوزير لا يكون له ظهير سياسي، مثل حزب يوجهه، بل يُوضع في المنصب ويتصرف وفقًا للظروف.

المفكر والوزير الأسبق جودة عبد الخالق - تصوير إسلامي يحي فكر تاني
المفكر والوزير الأسبق جودة عبد الخالق - تصوير إسلامي يحي فكر تاني

الخطورة في مصر، من وجهة نظري، وقد رأيتها مع زملاء لي، تكمن في أن يكون الوزير بلا تأهيل سياسي، فحينها تكون نكبة كبيرة، لأنه يتخذ قرارات قد تلحق ضررًا بالغًا بالناس في مواقع مختلفة، وهو غير مدرك لذلك، لأن إدراكه السياسي معيب جدًا، فيبدأ في العمل لمصلحته الشخصية.

ولأن هذا الأمر ملك للناس، فقد سجلته في كتاب أصدرتُه بعنوان "من الميدان إلى الديوان"، وهذا ما حدث معي؛ إذ "اتحدفت" من ميدان التحرير وجامعة القاهرة إلى أتون الوزارة، وجعلت العنوان الفرعي للكتاب "تجربة وزير في زمن الثورة".

في الختام.. إلى أين تذهب مصر؟

أتمنى لمصر كل خير، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

3 تعليقات

  1. حديث رصين ، ووثيقة سياسية وطنية جديرة بالدراسة والاستفادة منها لتحقيق التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي المطلوب.
    الحديث قدم لنا تشهيصاً كامل المعالم لاوجه القصور التي نعاني منها ، في لغة سلسة ومباشرة ، منها المقولة الكاشفة:
    "إذا كانت الأرض سبخة، فإنها لا تنتج زرعًا. والآن، الأرض السياسية سبخة، وبالتالي، مهما أضفنا إليها أحزابًا كثيرة، فإنها لا تؤتي بنتيجة، ويكون مصيرها مصير باقي الكيانات."
    الدكتور جودة عبد الخالق أيقونة وطنية خالصة.

  2. حديث رصين ، ووثيقة سياسية وطنية جديرة بالدراسة والاستفادة منها لتحقيق التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي المطلوب.
    الحديث قدم لنا تشخيصاً كامل المعالم لاوجه القصور التي نعاني منها ، في لغة سلسة ومباشرة ، منها المقولة الكاشفة:
    "إذا كانت الأرض سبخة، فإنها لا تنتج زرعًا. والآن، الأرض السياسية سبخة، وبالتالي، مهما أضفنا إليها أحزابًا كثيرة، فإنها لا تؤتي بنتيجة، ويكون مصيرها مصير باقي الكيانات."
    الدكتور جودة عبد الخالق أيقونة وطنية خالصة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة