الفقر والإقصاء والتهميش.. أحمال زائدة على "كرسي إعاقة" نسائي في الريف

في الريف تعيش النساء تحديات يومية تزيد من معاناتهن، حيث يشكل نقص فرص التعليم، وضعف التدريب المهني، وغياب الخدمات الصحية المتخصصة عبئًا يصعب تحمله، في هذه البيئة التي لا توفر أبسط وسائل الدعم، تجد النساء أنفسهن محاصرات بين جدران الفقر والتمييز الاجتماعي، ما يحول كل يوم إلى معركة للبقاء وتحقيق الذات. 

تتداخل العقبات الاقتصادية والثقافية مع قضايا النوع الاجتماعي، لتُترك المرأة الريفية ذات الإعاقة في موقع يُبعدها تمامًا عن فرص المشاركة المجتمعية الحقيقية.

ففي كل زاوية من الريف، تزيد الحكايات عن صعوبات الحياة العادية والبسيطة، حيث تتعرض النساء للتهميش والإقصاء من أبسط حقوقهن، ويعشن في عزلة قهرية محاصرات داخل بيوت لا تتيح لهن الفرصة للتعبير عن أنفسهن.

وفي ظل هذه الظروف، يصبح تعزيز الوعي بحقوق المرأة الريفية وإعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي يحمي كرامة الفرد أحد السبل إلى لتحويل هذه المعاناة إلى فرصًا حقيقية، وهذا التحول لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة إنسانية لتأكيد أن لكل امرأة الحق في العيش بكرامة والمشاركة في صناعة مستقبل لا يُغفل فيه صوتها أو يُهمَّش وجودها.

الريفيات.. يعيقهن التهميش ويغيب عنهن العدل والرحمة -تصميم سلمى الطوبجي

وسط معاناة النساء الريفيات اللاتي يتحملن عبء الإعاقة، تأتي هاجر، الشابة العشرينية التي نشأت في الريف، حيث زادت إعاقتها من تعقيدات حياتها في مجتمع ما يزال يفرض قيودًا صارمة على ذوي الإعاقة، لا سيما الفتيات. 

فمنذ نعومة أظافرها واجهت هاجر تحديات كبيرة للحصول على حقها في التعليم والرعاية الصحية، ليس فقط بسبب إعاقتها الجسدية، بل لكونها فتاة تعيش في بيئة ريفية تفتقر إلى الخدمات الأساسية، ما جعل مسيرتها مليئة بالصعوبات والعزلة.

وفي حديث فكّر تاني مع والدتها، بدا صوتها خافتًا وكأن كل كلمة تنطق بها تحمل عبئًا، حيث قالت بصوت يملؤه الحزن: "ابنتي وُلدت بإعاقة في ظهرها، وتعاني من تقوس حاد يؤثر على حركتها، كما أن قفصها الصدري غير طبيعي الشكل. لم تكن إعاقتها جسدية فقط، بل رافقها أيضًا تأخر في النمو العقلي، ما جعل استكمال تعليمها أمرًا شاقًا للغاية؛ فـ بالكاد تمكنت من إنهاء الصف الثالث الإعدادي بعد سنوات من المعاناة".
توقفت الأم لحظات ثم تابعت بنبرة يكسوها الاستسلام: "بصراحة، لا أهتم كثيرًا بمواصلة تعليمها؛ فكل ما يهمني أن تحفظ القرآن، فهذا يكفيني. وبالطبع، لا أسمح لها بالخروج بمفردها، فكيف يمكنها أن تواصل دراستها؟ أخاف عليها من العالم الخارجي، من الناس، ومن كل شيء".

وعن نوع الدعم الذي تتلقاه لمساعدة هاجر في تلبية احتياجاتها الصحية والمعيشية، أجابت الأم بنبرة يائسة: "نحصل على دعم من برنامج تكافل وكرامة، لكنه لا يكفي أبداً؛ 650 جنيهًا فقط، كيف يغطي هذا المبلغ احتياجاتها الطبية والاجتماعية؟ هاجر بحاجة إلى عملية جراحية كبرى قد تحسن من حالتها، لكنني لا أملك تكاليفها، وحتى العثور على ملابس تناسب جسدها المختلف أصبح تحديًا كبيرًا بالنسبة لي".

وفق بيان صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد بلغت نسبة الأفراد ذوي الإعاقة -من الصعوبة الكبيرة إلى المطلقة- في مصر 4.86% عام 2022. وارتفعت النسبة في الحضر إلى 5.1% مقارنة بـ4.7% في الريف، وبلغت نسبة الإعاقة بين الإناث 4.90%، مقارنة بـ4.82% بين الذكور عام 2022.

جهود فردية

تقول هناء عبد الحكيم، رئيسة نقابة صغار الفلاحين بمركز سملوط، لــ فكّر تاني، عن الجهود المبذولة لدعم ذوي الإعاقة في المناطق الريفية: "إن هذه المبادرات رغم أهميتها تبقى فردية وتعاني من غياب الدعم المؤسسي الكافي". 

وتوضح هناء أنها تعاونت مع عدد من الجمعيات لإطلاق مدرسة حقلية تهدف إلى تعليم مهارات الزراعة لذوي الإعاقة، حيث تم استئجار قطعة أرض خاصة لهذا الغرض، وتقدم المدرسة تدريبات عملية للفئات العمرية من 12 إلى 35 عامًا، يتعلم فيها المشاركون/ات كيفية التعرف على أنواع المحاصيل المختلفة، وأساليب الزراعة الحديثة، وطرق الحفاظ على النباتات، ما يمكنهم/ن من إدارة مشروعات زراعية خاصة بهم/ن وتعزيز استقلاليتهم/ن الاقتصادية.

"هذه الخدمات لا تقتصر على التدريب الزراعي فحسب، بل تشمل برامج تأهيل مجتمعي تهدف إلى دمج ذوي الإعاقة داخل المجتمع وتعزيز ثقتهم بأنفسهم".. ومع ذلك، تؤكد هناء، أن التحدي الأكبر الذي يواجه هذه المبادرة هو التمويل، إذ تحتاج إلى دعم مالي مستدام لضمان استمرارها وتطويرها، حتى يمكن إتاحة فرصًا أوسع للتعلم والعمل والاستقلالية الاقتصادية.

بينما -بحسب رئيسة نقابة صغار الفلاحين- فإن النساء ذوات الإعاقة يواجهن ظروفًا أكثر تعقيدًا من نظرائهن الذكور، حيث يُنظر إليهن في الأسرة على أنهن عبء يجب إخفاؤه عن المجتمع. 

"هُن محرومات من الاحتياجات الأساسية مثل الملابس والرعاية الصحية، ويتم عزلهن في المنازل بدعوى الحماية من التحرش أو الاستغلال، مع نظرة سلبية تعتبر إعاقتهن مصدر عار". 

وتضيف، أن نجاح المدرسة الحقلية يعتمد على دعم حكومي ومجتمعي أكبر، سواء عبر توفير برامج تأهيل متخصصة أو منح مالية تسهم في تحسين أوضاعهن المعيشية.

وعن رأيها فيما تُقدمه وزارة التضامن، تؤكد هناء عبد الحكيم، إلى أن الوزارة قدمت مشروعًا لدعم بعض الأسر من خلال منح كل أسرة "ماعز" لمساعدتها اقتصاديًا، لكن واجه هذا المشروع فشلًا كبيرًا بسبب غياب التدريب اللازم على رعاية الماعز وعدم توفير متابعة بيطرية دورية، ما أدى إلى نفوق معظم الماعز وعدم استفادة الأسر من المبادرة، خاصة وأن كثير من المستفيدين لا يمتلكون أرضًا زراعية أو بنية تحتية تدعم استمرارية المشروع.

اقرأ أيضًا:معاشات ذوات الإعاقة.. حق مشروع منزوع الأهلية

وبينما لا توجد بيانات محددة من وزارة الصحة والسكان أو الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حول توافر الخدمات الصحية المتخصصة للنساء الريفيات ذوات الإعاقة، لكن يُلاحظ أن النساء الريفيات بشكل عام يواجهن تحديات في الوصول إلى الخدمات الصحية.


في يوم المرأة الريفية العام الماضي، قامت منظمة الصحة العالمية -المكتب الإقليمي لشرق المتوسط، الإعلان عن تكريم الريفيات اللاتي يمثلن 22% من سكان العالم، والاعتراف بإسهاماتهن الحيوية في صحة المجتمع ورفاهه، وشددت على أن "كثيرًا منهن لا يتقاضين أجورًا أو يتقاضين أجورًا زهيدة، ويواجهن الفقر، وعدم المساواة بين الجنسين في الحصول على التعليم وفرص العمل، ومحدودية فرص الحصول على الرعاية الصحية.

التصميم عن صفحة منظمة الصحة العالمية-مكتب شرق المتوسط

 

معاناة متعددة المستويات

"اختي سعاد بالكاد تستطيع التعريف عن نفسها، وعقلها أشبه بعقل طفلة في عمر الرابعة، فتكون تعاملاتها مع العالم الخارجي أمرًا صعبًا للغاية". 

تعيش الشقيقتان -سعاد وهناء- سويًا في إحدى قرى الريف المصري حيث تتحمل هناء الأخت الصغرى، مسؤولية العناية بسعاد التي بلغت الستين من عمرها وتعاني من متلازمة داون. 

في منزل صغير يفتقر إلى الكثير من الأساسيات، تبدأ هناء يومها مبكرًا، تحضر الفطور وتساعد سعاد في ارتداء ملابسها، إذ إنها لا تستطيع ان تتمالك نفسها وتتحرك بإحكام، وغالبًا ما تجلس سعاد أمام التليفزيون لساعات، تتابع البرامج وهي لا تدرك محتواها، بينما تنشغل هناء بأعمال المنزل والطهي.

تواجه الأختان تحديات يومية لا تنتهي، وتقول هناء لـ فكّر تاني، أنها وشقيقتها ليس لديهما مصدرًا للدخل، ولا تأمين صحيّ لذا فإن: "مصاريف علاجها ومتابعتها مع الأطباء عبئًا ماديًا كبيرًا، خاصةً أننا نعتمد بالكامل على معاش والدنا المتوفي، وبالكاد يكفي"، ومن ناحية أخرى فهي تعاني من الإرهاق النفسي والجسدي بسبب تحملها هذه المسؤولية وحدها.

خارج جدران المنزل، يختلف الوضع قليلًا، فنادرًا ما تغادر سعاد البيت، ليس فقط بسبب خوف هناء من تعرضها للأذى، ولكن أيضًا بسبب نظرات الناس والتعليقات القاسية التي ترافقها أينما ذهبت. 

"كلما فكرت في إخراجها من المنزل، أتراجع؛ الأطفال يسخرون منها، يحدقون بها ويطلقون تعليقات قاسية تؤلمها، لذا أفضل إبقاؤها داخل البيت"، ورغم أن بعض الجيران يلقون عليهما التحية بين الحين والآخر، فإن القليل فقط يعرض المساعدة، بينما يتعامل الآخرون مع سعاد وكأنها غير موجودة.

ورغم إطلاق مبادرة "نحو تشريعات عادلة تضمن حقوق ذوي الإعاقات الذهنية والتوحد" منذ عام 2016، ضمن برامج النهوض بالمرأة المصرية بكافة محاور استراتيجية المرأة 2030، والتي هدفت إلى رصد الآراء حول المشكلات اليومية التي يواجهها أولياء أمور ذوي الإعاقات الذهنية والتوحد تمهيدًا لصياغة تعديلات تشريعية أو تشريعات جديدة أو قرارات وزارية تُساهم في معالجة تلك المشكلات، لم تُحدث المبادرة أي جديد يُذكر حتى الآن

ورغم أن جهود هذه المبادرة كانت أملًا في إحداث تغيير ملموس على صعيد التشريعات والسياسات الداعمة لهذه الفئة الضعيفة، إلا أن النتائج لم تلبِ التوقعات، وظلت المبادرة دون أي تطورات جديدة منذ إطلاقها، ما يطرح تساؤل حول فاعلية الدعم المؤسسي والمالي اللازم لضمان استمرارية وتطوير مثل هذه البرامج الحيوية التي تُعنى بحقوق ذوي الإعاقات.

اقرأ أيضًا:أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة بين الاغتراب والدمج

معركة يومية

تعتمد هيام بائعة الخضار على ما تُحصله يوميًا من هذا العمل، ولا مصدرًا آخر للدخل لديها، وبينما تواجه يوميًا معاركها ضد المرض والفقر، لا تحصل على أي من الدعم المادي أو الطبي الذي توفره الدولة، تبلغ هيام 55 عامًا وتعاني من مشاكل حادة في عينيها، بالإضافة إلى الروماتيزم وأمراض القلب، ما يجعل أبسط المهام اليومية عبئًا ثقيلًا عليها. 

"كل ما أجنيه من بيع الخضار بالكاد يكفيني للطعام، فكيف لي أن أتحمل نفقات العلاج؟" تعيش هيام وسط حلقة لا تنتهي من التحديات، إذ يرهقها المرض بينما تضطر لمواصلة العمل يوميًا تحت أشعة الشمس وبين تقلبات الطقس لتأمين لقمة العيش، على الرغم من أن صحتها المتدهورة تستدعي الراحة والعناية الطبية المستمرة.

صدّقت مصر على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي ضمنت المادة "6" التي  تقر فيها الدول الأطراف بأن النساء والفتيات ذوات الإعاقة يتعرضن لأشكال متعددة من التمييز، وأنها ستتخذ في هذا الصدد التدابير اللازمة لضمان تمتعهن تمتعا كاملًا وعلى قدم المساواة بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير الملائمة لكفالة التطور الكامل والتقدم والتمكين للمرأة، بغرض ضمان ممارستها حقوق الإنسان والحريات الأساسية المبينة في هذه الاتفاقية والتمتع بها.

نسبة الأفراد ذوي الإعاقة -نقلًا عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء 2022

"المشكلة الأكبر التي تواجه النساء ذوات الإعاقة هي الجهل بحقوقهن الأساسية، فلا يدرك الكثير منهن أن لهن الحق في المعاشات والتأمينات الطبية التي تؤمن لهن حياة أكثر استقرارًا".. تقول شيماء جادو، مديرة البرامج في جمعية الميدان للتنمية وحقوق الإنسان، في حديثها مع فكّر تاني، عن التحديات التي تواجه هذه الفئة في قرية سندبيس بالقناطر الخيرية.

تؤكد شيماء أن قلة مراكز التأهيل والدعم في القرى تفاقم معاناتهن، حيث تتواجد هذه المراكز في المدن والمحافظات الكبرى، ما يصعّب على الأسر التي لا تستطيع تحمل تكاليف التنقل الوصول إليها، وما يزال الأهالي يفضلون نقل أبنائهم الذكور ذوي الإعاقة إلى تلك المراكز، معتبرين أن الاستثمار في رعاية وتعليم الذكور أهم، بينما تُعتبر الفتيات عبئًا يُخفى عن أعين المجتمع.

 

وجاء في تقرير أعده المجلس القومي لشؤون الإعاقة عن مدى تطبيق المادة 6 من الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في مصر، أنه نتيجة لأن القانون المصري منبثق من الشريعة الإسلامية والتي يعول المرأة فيها الأب أو الأخ أو الزوج، تُحرم المرأة ذات الإعاقة من معاش التضامن لافتراض أنه هناك من يعولها وهو ما لا ينطبق على بعض الحالات، وذلك رغم أن الدولة قد قامت باتخاذ حزمة من القرارات والقوانين لحماية الأشخاص ذوي الإعاقة ومنها الحق في التأمين الاجتماعي والصحي، والحق في الضمان الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية، بالإضافة إلى خدمات التأهيل والحصول على الأجهزة التعويضية.

 


تقول شيماء جادو أن إحدى أكثر المشكلات إيلامًا، هي إهمال الأسر لبناتها ذوات الإعاقة، حيث تفقد العديد منهن إلى البطاقة الشخصية رغم بلوغهن السن القانونية، وتتقاعس الأسر عن توفير الدعم اللازم لتحسين جودة حياتهن؛ سواء من حيث تلقي العلاج المناسب أو الحصول على حقهن في التعليم. 

وبدلاً من ذلك، تُحبس الفتيات في المنزل تحت ذريعة حماية شرفهن، في حين يُسمح للفتيان بالخروج والعمل والتفاعل مع الآخرين دون معارضة، ما يزيد من شعور الفتيات بالتهميش والعزلة.

 

أجرى المجلس القومي للمرأة بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وصندوق الأمم المتحدة للسكان دراسة وطنية حول العنف ضد المرأة ذات الإعاقة في مصر، نُشرت نتائجها في فبراير 2022، هدفت إلى قياس مدى انتشار العنف ضد النساء ذوات الإعاقة، وتحديد أشكاله المختلفة، وفهم العوامل المؤثرة في تعرضهن للعنف. شملت عينة مكونة ما يقرب إلى 6000 امرأة ذات إعاقة من مختلف المحافظات المصرية، وتم جمع البيانات بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي. 

أظهرت النتائج أن 61% تعرضن لشكل من أشكال العنف من قبل أزواجهن في مرحلة ما من حياتهن. كما تعرضت 54% منهن لعنف نفسي، و43% لعنف جسدي، و20% لعنف جنسي من قبل الزوج، بالإضافة إلى ذلك، تعرضت 35% من النساء ذوات الإعاقة لعنف نفسي من قبل أفراد العائلة أو البيئة المحيطة منذ سن 15 عامًا، و25% لعنف جسدي، وحوالي 10% لأي شكل من أشكال العنف الجنسي. 

اقرأ أيضًا:مريم.. نموذج صارخ للتمييز بسبب الإعاقة

الوعي.. للتغيير

ترى شيماء أن رفع مستوى الوعي هو السبيل لتغيير هذا الواقع المؤلم، مؤكدةً أن العمل على توعية النساء بحقوقهن يُثمر تجاوبًا ملحوظًا مع الجهود التي تبذلها الجمعية في تمكينهن. 

ومع ذلك، ما يزال عمل الجمعية محفوفًا بالتحديات، إذ يواجه فريق العمل نفسه تنمرًا مستمرًا من سكان القرية الذين يعتبرون قضايا تمكين المرأة تجاوزًا للمألوف، ما يضيف عبئًا إضافيًا على عاتقهم ويجعل مهمتهم أكثر صعوبة في مجتمع ما زال ينظر إلى قضايا النساء على أنها ترف أو أمرًا غير ضروريًا. 

وفي خضم هذه المعاناة، يمتد الظلم ليشمل التهميش من أقرب الناس، حيث تُحكم النساء بالعزلة داخل منازلهن، ويحُرمَّن من أبسط حقوقهن في التعليم والرعاية الصحية والاعتراف بوجودهن.

مفاهيم مغلوطة

ويسلط المحامي الحقوقي غريب سليمان، في حديثه لـ فكّر تاني، الضوء على إشكالية النظرة المجتمعية إلى الإعاقة، معتبرًا أن المفهوم السائد عنها مغلوط من الأساس، فيشير سليمان إلى أن المصطلحات المستخدمة في الإعلام، مثل "ذوي الهمم" و"ذوي الاحتياجات الخاصة"، يتم تداولها دون إدراك أن هناك مصطلحًا قانونيًا ينبغي أن يكون هو المعتمد.

"كل مصطلح يعكس رؤية معينة لمستخدميه، فبينما يرى البعض أن الإعاقة شكل من أشكال العجز، يراها آخرون قدرًا إلهيًا، إلا أن هذه التصورات لا تساهم في بناء سياسات حقيقية".

وفقًا لسليمان، فإن الإعاقة ليست في الشخص نفسه، وإنما في الحواجز البيئية المحيطة به، والتي تعيق مشاركته الكاملة في المجتمع، وهذه الحواجز تشمل جميع الفئات، سواء كانوا أفرادًا يستخدمون كراسي متحركة، أو أشخاصًا من ذوي الإعاقات السمعية، أو حتى ذوي المشكلات الصحية المزمنة.

ويرى أن الحل لا يكمن فقط في تقديم الخدمات، بل في إزالة هذه العوائق بشكل جذري، فحتى حين يتم توفير فرص عمل، فإنها غالبًا ما تكون شكلية ولا تُحدث تغييرًا جوهريًا في حياة الأشخاص ذوي الإعاقة.

"إن تغيير الثقافة المجتمعية قد يتطلب في بعض الأحيان فرض تشريعات وقوانين تلزم المؤسسات بتهيئة بيئة دامجة للجميع، على سبيل المثال، ينبغي أن يجد الشخص ذو الإعاقة عند ذهابه إلى المحكمة موظفين مدربين على التعامل معه، وأن تتوفر لغة الإشارة في جميع المؤسسات الحكومية". هذه التغييرات -بحسب غريب سليمان- هي ما يُعرف بإزالة الحواجز، وهي المفتاح لجعل البيئة أكثر احتواءً بحيث يحتاج الأشخاص ذوو الإعاقة إلى أقل قدر من المساعدة للاندماج.

وفيما يتعلق ببرامج التأهيل، يشير سليمان إلى أن غياب مراكز التأهيل في المحافظات والقرى يمثل مشكلة كبرى، إذ تتركز أغلب هذه المراكز في القاهرة الكبرى، ما يفاقم معاناة ذوي الإعاقة في المناطق الريفية، ويرى أن جزءًا من الإنفاق الاجتماعي يجب أن يُخصص لإنشاء مراكز تأهيل حقيقية ومجهزة بشكل جيد، تكون قريبة من الأشخاص ذوي الإعاقة، مع توفير الدعم الكامل لهم/ن.

"لكن العبء الأكبر في هذا المجال يقع حاليًا على عاتق المبادرات الشخصية، والجمعيات الصغيرة، وبعض رواد الأعمال والمجتمع المدني، في ظل غياب دعم الدولة الكافي".

أما بالنسبة للنساء الريفيات ذوات الإعاقة، فيؤكد المحامي الحقوقي أن المرأة تتحمل العبء الأكبر في هذا المجال، كما هو الحال في معظم القضايا التي تشمل الفئات الأكثر ضعفًا. ويوضح أن الثقافة السائدة في الريف تزيد من معاناة النساء ذوات الإعاقة، حيث يُنظر إليهن من منظورين متناقضين؛ فإما أن تعتبر الأسرة الإعاقة بركة يجب تقبلها كما هي، وبالتالي لا تسعى إلى تأهيل الفتاة أو مساعدتها على الاندماج، أو تُعتبر الإعاقة عارًا يجب إخفاؤه، ما يدفع بعض الأسر إلى إبقاء بناتهن حبيسات المنزل لعقود، بل يصل الأمر في بعض الحالات إلى تقييدهن جسديًا لمنعهن من الحركة والخروج.

ويؤكد سليمان أن الإعاقة ليست مجرد حالة جسدية، بل هي نتيجة تفاعل هذه الحالة مع الحواجز البيئية المحيطة، وعندما تجتمع هاتان الحقيقتان معًا، تتشكل الإعاقة كما نعرفها. ومن هنا، فإن الحل ليس فقط في تقديم خدمات محدودة، وإنما في تغيير جذري يشمل الثقافة المجتمعية، والقوانين، والبيئة المحيطة، لضمان حياة كريمة ودامجة للأشخاص ذوي الإعاقة، لا سيما النساء في المناطق الريفية، اللواتي يعانين من تهميش مضاعف.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة