لستُ أعلم حين تُنشَّر هذه السطور، ما إذا كانت العالمة المصرية الجليلة، والمناضلة الصادقة، والأم المحزونة، الدكتورة ليلى سويف، ستقرؤها أم لن يتسنى لها ذلك؟
إذا استطاعت في صراعها النبيل أن تؤجل المشهد الأخير، ولو لبعضَ الوقت، وإذا لم تخذلها قواها الصحية، بعد إضراب أسطوري عن الطعام، فقدت فيه أكثر من 30% من وزنها، ستقرأ وستتواصل مع الفقير إلى الله، لتعرب كعادتها بأرق الكلمات وأكثرها تهذيبًا عن امتنانها له، فيتلعثَّمُ خجلًا إذ هو يحظى بالشكر، من امرأة ذات مقام رفيع، وقامة عالية سيذكرها التاريخ، شاء من شاء، وأبى من أبى، في فصول البطولة والعزيمة، والرحمة والإيثار.
لا يبدو أن أحدًا من الفاعلين الآمرين الناهين، مستعدٌ أن يرق قلبه لأم مصرية، لك أن تحبها ولك أن تكرهها، غير أن ذلك لا ينفي واقع أنها أم مصرية، وهن العظم منها، واشتعل رأسها شيبًا، وقد شارفت على السبعين، ولا تطلب شيئًا إلا أن تنظر ملامح وجه ابنها، من دون أسلاك شائكة، في زيارات للسجون تحت الحصار الفظ، من ذوي الشوارب الكثة والوجوه الشمعية والسواعد المفتولة.
ما توصيف هذا التشنج إزاء قضية إنسانية بالدرجة الأولى؟

ثورة 25 يناير
الإجابات تفتح باب التساؤلات، ومنها بالطبع تساؤلات حول النزعة الثأرية، لا إزاء علاء عبدالفتاح وحده، وإنما إزاء ما كل ما يمثل أو ينتمي إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة والمغدورة معًا.
أي تفكير عقلاني، يُنحي الانحيازات جانبًا، سيقود إلى هذه الحقيقة سافرةً وجهها، في منتهى الدمامة والوحشية.
ليست هكذا تُدار شؤون العباد والبلاد، وليست كذلك تُساس الأمور في وقت تتعرض فيه البلاد لتهديد أمني داهم، من قبل عدوها الحقيقي، عدوها أمس واليوم وغدًا؛ دولة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين العربية؛ العربية أمس واليوم وغدًا.
في وقت يُلتمس فيه الاصطفاف بين المصري والمصري، ليس من الحصافة في شيء أن ترفض السلطة الحاكمة، بهذا العناد الصلب، اغتنام فرصة تاريخية، لرأب الكثير من الصدوع الداخلية، ذات العلاقة بملف حرية الرأي والتعبير.
بعيدًا عن الرحمة المنشودة، وبمنأى عن التسامي إلى مرتبة العفو عند المقدرة، وما إلى ذلك من فضائل إنسانية يُفترض أن تتحلى بها السلطات الحاكمة دائمًا، وبغض النظر عن أن فقهاء قانون كثيرين أفتوا بأن علاء أنهى بالفعل مدة عقوبته، كان قرار إطلاق سراحه سيغلق أبواب ريح، كان سدها أولى حتى نستريح.
إذا حدث مكروه، فإن منظمات حقوقية دولية لن تكف عن الطنين.

صحيحٌ أن هذه المنظمات، لا تفعل إلا الطنين، ولا تقدر على سواه، في نظام عالمي هندست قواعده الولايات المتحدة الأمريكية، بعضلاتها النووية، لكن الأقرب إلى السلامة بالنسبة لأي نظام سياسي، هو إسكات الطنين، بخاصة متى يكون ذلك غير مكلف، و"يا نحلة لا تقرصيني ولا عاوز منك عسل".
رأي عام داخلي سيفور، ربما ليوم أو أسبوع، وسيفرغ شحنة الغضب في "بوستات" و"تغريدات"، وسيجد بعض المدونين أنفسهم معصوبي العيون، في أقبية مظلمة بتهمة الانتماء إلى جماعة محظورة، فما فوق وصولًا إلى تهمة الإرهاب.
وسيهدأ الأمر بعد فترة، فالأيام تدول والجديد يمحق القديم، و"التريند" لا يشبع، و"الهاشتاجات" لن تنضب، والشبكة العنكبوتية تسحب الناس إلى أعماق أمواجها الزرقاء، نحو الأعمق، والناس إزاءها ما عندهم مركبة ولا زورق.
السيناريوهات المستنسخة برتابة تؤكد أن التاريخ يكرر حلقاته، بمنتهى السخافة والرتابة، وهذه على الأغلب عادة مصرية معهودة.
لكن التصاعد الدرامي قد يمضي بنا إلى ما هو أشد تأزيمًا، فللتاريخ قفزات واسعة، لا يبالي حين يتخذها بمن يسقطون من فوق ظهره.
من ذلك مثلًا أن أمهات مجهولات ربما يجدن في مثابرة الدكتورة ليلى وصمودها القدوة، فيقتفين خطواتها، فإذا بالموجة تغدو موجات، وإذا بنذر العواصف تتجمع في السماء.
هذا الاحتمال وارد بقدر ما هو غير وارد.
أما إذا أسدل الستار على الملحمة بسيناريو آخر، فإن ليلى سويف ستكون قد دخلت التاريخ، عنوانًا أسطوريًا على مرحلة قاسية من عمر مصر
"بالطبلِ والمزمارْ.. لا يحدثُ انتصارْ"
ما من مصري يحب هذا الوطن، يريد للأمور أن تسير على هذا النحو، بالذات في هذا المنعطف التاريخي الخطير؟
أي حالة سيولة داخلية ستشتت الانتباه عن الخطر المتربص بحدودنا الشرقية، تربص الذئاب بالفرائس.
وأي خدش مهما كان سطحيًا طفيفًا، يعتري الجبهة الداخلية في الوقت الراهن، سيخصم من قوة مصر، في وقت تحتاج فيه إلى اصطفاف يسد الثغرات جميعها، أمام عدو الأمس واليوم وغدًا.
إعلام الوطنية الزاعقة لن يقول هذا الكلام، فالهتافات تستعمر الفضاء والأثير وأحبار الطباعة والشبكة العنكبوتية.
بعد هزيمة يونيو كتب نزار قباني بأسلوبه السهل الممتنع، في ديوانه المتفجر غضبًا؛ "هوامش على دفتر النكسة": "بالطبلِ والمزمارْ.. لا يحدثُ انتصارْ".
الحقيقة بازغة كالشمس في كبد السماء، لكن البهلوانات يتقافزون على حبال برامج "التوك شو"، يستنكفون عن كلمة الحق، ذلك أن التعليمات لم تأتٍ عبر رسائل "السامسونج" بالتزام هذا الخط أو ذاك، فلا هامش حرية، إلا في إطار التوجه الرسمي، الممهور بخاتم النسر، والتجويد المسموح به يعتمد على مستوى ذكاء مقدمي البرامج، الذين يتصدرهم أحمد موسى بتحليلاته العبقرية العميقة.
السؤال.. ألم يكن أقرب إلى العقلانية رد الشاب المحبوس منذ عشر سنوات إلى الأم المكلومة منذ عشر سنوات؟
إدارة شؤون وطن لا تتأتى بالإجهاز على الخصوم السياسيين بالضربة القاضية، فهذا يضرَّم نيران الحقد تحت رماد الصدور، والحقد طاقة مدمرة هائجة، ليس هينًا أبدًا أن تنفجر في مصر، في هذه الظروف الخطيرة.
مهما كان مبلغ كراهية علاء، بل مهما كانت جريمته، على افتراض أن هنالك جريمة، فإن الأجدى للسلطة ذاتها، وباعتبارات البرجماتية المجردة، كان أن تتخذ قرارها بتحريره، وحبذا لو ترافق ذلك مع بيان يؤكد الترحيب بأصحاب الرأي الآخر، في مرحلة نتصالح فيها وننبذ خصوماتنا، أو حتى نؤجلها إعلاءً لمصلحة الوطن العليا، الذي نختلف حول كيونتنها وطبيعتها إزاء جميع الملفات، باستثناء صراعنا مع العدو الذي أظهر البغضاء، وجهر بالعداء، إذ أعلن خطته الإجرامية بترحيل الغزيّين من أرضهم إلى مصر والأردن.. عدو اليوم وأمس وغدًا.

بكل المقاييس، ومع اعترافي بخلافي السياسي مع النظام الحالي، فإنني أشعر بالأسى على فرصة ضائعة، ولازمة ومهمة من أجل الوطن.
"الفتونة لها أصول"، وحتى إذا كان العوام يقدسون القوة، فليس بوسعهم تحمل "الإتاوات الجائرة" إلى الأبد.
بعض الإتاوات نفسية معنوية وليست بالضرورة مادية.
سرديات التاريخ جميعها تؤكد ذلك، والاستشهاد بها ليس فذلكة فارغة، لكنه كعملية قرع الأجراس يلجأ إليها الكاتب لأنه لا يستطيع القفز من على سطح السفينة.
إن نُشرت هذه السطور، والدكتورة ليلى بخير، فكم أتمنى أن تمس قلب وعقل صانع قرار ما، فيبادر إلى فعل شيء ما.
ليس إكرامًا لأم تمزق قلبها جزعًا، ولا رحمةً بشابٍ التهمت برودة الزنانين عظامه، والتهمت الأسوار الحديدية من عمره ما يزيد عن عقد، وإنما من أجل مصر، التي لن تقوى على مواجهة العدو، إلا بأبنائها جميعهم بلا استثناء.
أما إذا أسدل الستار على الملحمة بسيناريو آخر، فإن ليلى سويف ستكون قد دخلت التاريخ، عنوانًا أسطوريًا على مرحلة قاسية من عمر مصر.
مع الفرضية الأولى تربح مصر ويربح النظام الحاكم، ومع الثانية يخسران.