وسط بركة من الدماء، جلست نجوى في زاوية منزلها، يلفها الخوف واليأس. لم تكن تتخيل أن حياتها ستنتهي بهذه الطريقة، أن تُترك وحيدة، غارقة في ألم لا يحتمله جسدها النحيل، سقطت على الأرض وانسالت الدماء من بين أرجلها، تمددت حولها، ولطخت ملابسها حتى سدت رائحته أنفها فتوقفت أنفاسها وللحظات لم تشعر بشيء، فقط، مدت يدها تلّم ما فقدته على الأرض إليها لكنه لا يعود، شعرت بأنفاسها تتلاشى، ثم أظلم كل شيء.
نجوى -اسم مستعار- شابة لم تتجاوز السابعة والعشرين، لكنها تحملت أعباء حياة لم تخترها، تزوجت في سن مبكرة، فلم تكن تتعدى الخامسة عشرة، الآن، هي أم لثلاثة أطفال في منزل صغير بمحافظة البحيرة، حيث تسكن مع زوجها، سائق "توك توك"، وحماتها وشقيق زوجها الأصغر.
كانت تعلم أن الحمل الرابع سيكون كارثة، لكنها لم تستطع منعه رغم استخدامها وسائل منع الحمل، حين أخبرت زوجها، انفجر غضبًا: "أنا مش حمل عيل رابع!"، بينما كانت حماتها تحاول تهدئة الأمور قبل أن تتراجع وتخبرها: "اعملي اللي جوزك عايزه".
كانت نجوى قد قالت لزوجها أن ما سيفعلانه قد يعرضها للموت ولكنه طلب منها أن تتحمل مسؤولية خطأها مؤكدًا أن الطفل الجديد "مش معمول حسابه".
بعد أيام، عاد الزوج بأقراص الإجهاض، وأمرها بتناولها. قاومته نجوى، أخبرته أنها قد تموت، لكنه لم يبالِ: "أنتِ اللي غلطانة، لازم تتحملي مسؤولية خطأك". في تلك الليلة، ابتلعت قرصين، ووضعت قرصين آخرين داخل رحمها، كما أشار عليها زوجها. بعد ساعات، بدأ جسدها يرتجف من الألم، داهمتها التقلصات العنيفة، وبدأ النزيف الغزير. قضت الليل تصرخ، بينما زوجها يطمئنها بأن الدم سيتوقف. لكنه لم يتوقف. في اليوم التالي، ازدادت حالتها سوءًا، حتى انتبهت ابنتها ذات العشر سنوات إلى أن والدتها تحتضر، فصرخت مستغيثة بجدتها.
ما مرت به نجوى يُعرف طبيًا بالإجهاض الدوائي أو المنزلي وهو إجراء غير آمن حين يُنفذ دون متابعة طبية، فقد تتعرض الأم للنزيف الحاد، والتقلصات المؤلمة، وخطر العدوى، أو حمى أو إغماء وأحيانًا قد تصل إلى الإصابة بالعقم أو الوفاة، كلها عواقب محتملة لهذا النوع من الإجهاض الذي تلجأ إليه نساء كثيرات في ظل غياب البدائل القانونية والاقتصادية.
اقرأ أيضًا:على سُفرة التمييز.. كيف يعمق الغذاء فجوة العنف ضد النساء؟
الأزمة السبب
ارتفعت معدلات التضخم خلال العام الماضي، ليصل إلى ذروته في سبتمبر 2023، مع تجاوزه مستوى 40% قبل أن ينخفض بشكل طفيف خلال الأشهر التالية، وبحسب آخر البيانات التي نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2020 يمثل من يقعون تحت خطر الفقر نحو ثلث السكان، وهي النسبة المرشحة للزيادة مع تفاقم معدلات التضخم خلال السنوات التالية لصدور هذه البيانات.
وأشار تقرير للبنك الدولي، الذي نُشر في 19 ديسمبر 2022، إلى أن معدل نسبة الفقر في مصر سجلت 29.7٪ خلال الفترة من أكتوبر 2019 إلى مارس 2020، وتوقع البنك أن يزداد معدل الفقر نتيجة لتأثير التضخم.
أظهر المسح الصحي تراجعًا في متوسط الإنجاب لدى المصريات. إذ كان في عام 2014، 3.5 مولود لكل سيدة، وتراجع إلى 2.85 مولود.
تتفق هذه الأرقام مع ما أشار إليه صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن 59% من النساء المتزوجات بمصر يستخدمن وسائل تنظيم الأسرة وفق أرقام عام 2014، وزادت تلك النسبة إلى 66% عام 2021، ما يعني تزايد انتشار تلك الوسائل بين المصريات، مشيرة إلى الرغبة في تقليل أعداد أفراد الأسرة.
"الأزمة الاقتصادية الحالية وغلاء الأسعار قد يكونان الدافع وراء الإجهاض، فالإنجاب وتحمل مسؤولية طفل بدءً من الولادة والرعاية الطبية والتعليم وغيرها تكلف آلاف من الجنيهات، فمتوسط تكلفة الطفل في السنة منذ الولادة تتخطى 30 ألف جنيه، ومتوسط دخل الأسرة في مصر يبلغ 40 ألف جنيه وتحتاج الأسرة إلى ضعفه لتغطية احتياجاتها سنويًا".. يقول الدكتور سيد خضر الخبير الاقتصادي لـ فكّر تاني.
وعن سوء الأوضاع الاقتصادية يقول سيد خضر: " تؤدي تلك الأزمات إلى حالة من عدم الاستقرار الوظيفي، ويعاني منها كثير من الشباب فأصبحوا متخوفين من كثرة المسؤوليات، كما أن معدلات البطالة زادت بنسب كبيرة في السنوات الأخيرة، ولم يعد هناك وظائف بمرتبات مناسبة تغطي تكاليف المعيشة الحالية".
اقرأ أيضًا:تزويجهن جريمة.. قاصرات ينجبن أطفالًا وجميعهم بلا حقوق
مأساة تتكرر في صمت
الأزمة التي نعيشها، حيث تتحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية في مصائر الناس، للأسف تتكرر القصة، فتشير بيانات المسح الصحي الأسرة المصرية 2021 إلى أن حوالي 20% من المواليد خلال الخمس سنوات السابقة على المسح لم يكن مرغوبا فيهم وقت الحمل. ومن بين المواليد غير المرغوب فيهم وقت الحمل حوالي 12% لم يكن مرغوب فيهم على الإطلاق، وهي نسبة أعلى مما تم ملاحظته في المسح السكاني الصحي، 2014 حيث كان 8% من المواليد غير مرغوب فيهم على الإطلاق.
وفي كل بيت تقريبًا، أم تعيش صراعًا بين الواقع القاسي وخوفها على حياتها ومستقبل أسرتها.
تشكّل حالات الحمل غير المقصودة وغير المرغوب فيها مؤشرين رئيسيين على تعذر الحصول على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية، وقد تكون لحالات الحمل هذه آثار سلبية لا يستهان بها على حياة النساء والأطفال والعائلات على المدى القصير والطويل على حدٍّ سواء، ويشمل ذلك تفاقم العواقب الاقتصادية والاجتماعية وتدهور الصحة والمضاعفات الناتجة عن حالات الإجهاض غير الآمنة، إضافةً إلى الكثير من المخاوف الأخرى. -المصدر وكالة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية 2022.
الإجهاض بين الواقع والقانون
سمية -اسم مستعار- 28 عامًا، أم لثلاثة أطفال، عاشت شعور الموت مرتين. منذ أربع سنوات، كادت تفقد حياتها أثناء محاولتها الإجهاض، لكنها وجدت نفسها مضطرة لإعادة التجربة قبل أشهر، عندما علم زوجها بحملها "بالخطأ"، ولم يكن الخبر مفرحًا، بل كان أشبه بالحكم عليها بالمزيد من المعاناة، طلب منها زوجها التصرف، فبحثت عن حل ولجأت إلى "داية" من قريتها ببني سويف، وصفَت لها أعشابًا، فحاولت.
تقول سمية، التي يعمل زوجها حارسًا لإحدى العمارات بالقاهرة: "ولد يعني مصاريف وهدوم وأكل ومدارس.. بالكاد نستطيع توفير احتياجات أطفالنا الثلاثة، كنت أستخدم وسائل منع الحمل لكنها لم تنجح. ماذا أفعل؟!".
تنص المادة 260 إلى 264 من قانون العقوبات على معاقبة النساء والأطباء والصيادلة، الذين يجرون عمليات إجهاض غير قانونية أو يساعدون في إجراءها أو يبيعون عقاقير تساعد على الإجهاض، وتصل العقوبة لعشر سنوات سجن، إلا أن ذلك لا يمنع الإجهاض ولكن يزيد من حالات الإجهاض غير القانوني وغير الآمن، وذلك حسب بيانات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. كما يجعل من المستحيل الحصول على بيانات دقيقة حول عمليات الإجهاض.
بين الحق والرفض المجتمعي
ترى المحامية الحقوقية عزة سليمان ومؤسسة مركز قضايا المرأة المصرية، أن النساء لهن حق التحكم الكامل في جسدهن، وعليه فقرار الإجهاض هو قرار "الست" وحدها ولا يحق للقانون أو المجتمع إجبارها على إكمال الحمل، وتقول لـ فكّر تاني: "هل يعرف الرافضون للإجهاض تبعات إنجاب طفل غير مرغوب فيه على الطفل والمرأة في آن واحد؟ ومن له الأولوية المرأة الموجودة أم طفل لم يولد بعد؟".

أما لمياء لطفي منسقة البرامج بمؤسسة المرأة الجديدة، فترى أن كل من يعيش في محيط المرأة سواء الزوج أو الأهل يظن أن له الحق في اتخاذ قرارات تخص جسدها ويحاول تقرير مصيرها بينما هي الوحيدة صاحبة القرار في ذلك وهي وحدها من تتحمل العواقب، وتتسائل قائلة: "كيف يُلقي الرجل وحده مسؤولية الحمل على المرأة، فإذا تأخر الحمل تكون الملامة عليها، وإذا حدث حمل غير مخطط له تصبح هي أيضًا المخطئة".
وتؤكد لمياء لطفي لـ فكّر تاني، على أهمية توفير وسيلة آمنة للإجهاض إذا رأت الأم أنها لا تريد استكمال حمل غير مرغوب فيه. فتجريم الإجهاض بشكل تام في مصر يعرض المرأة للخطر من خلال طرق الإجهاض غير الآمنة، كما حذرت من تناول النساء لحبوب الإجهاض التي قد تؤدي إلى الوفاة وقالت: "أصبح سعرها بالدولار في السوق السوداء وللأسف لا تعرف المرأة الطريقة المناسبة لتناولها وتعرض حياتها للخطر وتكون تجربة الإجهاض مروعة".
ويقول استشاري التوليد وأمراض النساء الدكتور شادي محمد، أن قيام المرأة بالإجهاض في المنزل بدون إشراف طبي يعرضها للكثير من المخاطر والتي قد تصل إلى الموت بسبب النزيف الشديد.
وشرح شادي لـ فكّر تاني: "الأمر ليس سهلًا، قد تتعرض الأم للإصابة بنزيف يصعب التحكم فيه بالأدوية العادية ويؤدي لهبوط حاد في الدورة الدموية، أو قد تصاب بالحمى أو العقم الدائم وحتى يمكن أن يتسبب لها الأمر فقدان حياتها وذلك لأنها تتواجد في مكان ليس من السهل أن تتوفر فيه المساعدة والتدخل العاجل في حال حدوث أيًا من هذه الأمور. ولذلك لا ننصح به أي امرأة وتم تجريمه من قبل القانون".
اقرأ أيضًا:الأزمة الاقتصادية.. قيد إضافي في معاصم المستقلات
"تحت بير السلم"..
كانت خطواتها متثاقلة، ترتعش مع كل درجة تصعدها برفقة صديقتها نحو العيادة غير المرخصة، حيث ستنهي حملًا لم تكن مستعدة له، وفي داخلها صراع لا يهدأ، بين تحذيرات من حولها والمخاوف التي تنهش قلبها، وبين واقعها الذي لا يسمح لها بطفل ثانٍ.
تقول ولاء -اسم مستعار- ذات الثلاثين عامًا، بصوت يختلط فيه الحزن بالحيرة: "عندي طفل واحد، أعمل أنا وزوجي، لكن مؤخرًا فقد وظيفته، وراتبي بالكاد يكفي الإيجار، وأبي يساعدنا من معاشه لنتمكن من تربية ابننا، عندما عرفت بالحمل، رغم التزامي بالأقراص، لم يكن أمامي خيار آخر سوى إنهاءه".
في البداية، رفض زوجها القرار، لكنه وافق مُرغمًا، ربما لأنه يدرك حجم الضيق الذي يعيشانه، ولم يكن لديها رفاهية البحث عن طبيب مختص أو عيادة آمنة، فاضطرت إلى اللجوء لمكان بسيط بإمكانات شحيحة في منطقة شعبية. تتذكر تلك اللحظات: "كنت مرعوبة، لا شيء هناك يوحي بالأمان، لكن المبلغ كان في متناول يدي، كما كنت محظوظة أن صديقتي كانت معي، دفعت حوالي 1500 جنيه، أو أقل قليلًا".
بدبلوم تجارة ودخل محدود، لم تكن الحبوب خيارًا متاحًا أمام ولاء، وتختم حديثها مع فكّر تاني: "سمعت أن الحبوب تحتاج إلى شريط كامل، وسعرها مرتفع جدًا، وحتى نتيجتها غير مضمونة.. ولم يكن أمامي سوى هذا الطريق".
من جهته يحذر الدكتور شادي محمد من تناول الأقراص المنتشرة في السوق، قائلًا: "في بعض الحالات تتناول النساء هذه الأقراص ولا يحدث الإجهاض وأكثر من حالة جاءتني على هذا الوضع وللأسف تبين إصابة الجنين المتمسك بالحياة بتشوهات نتيجة تناول هذه الأقراص".
أما الدكتورة هناء طبيبة النساء والتوليد، فقالت أن ما يحدث داخل العيادات وكيف تتم عمليات الإجهاض بشكل سري تتحكم فيه بنسبة كبيرة الحالة المادية، فكلما كانت المرأة لديها قدرة مادية تستطيع أن تختار عيادة طبية مناسبة ومجهزة وتخضع لإجهاض آمن.
"حينئذ، يتم تسجيل العملية -كحت أو تفريغ للرحم- ويكون الإجهاض بشكل قانوني، ولكن عدم القدرة المادية تدفعها للذهاب إلى عيادات "بير السلم" والتي تأخذ منها مئات من الجنيهات فقط نظير تخلصها من حمل غير مرغوب فيه، وهذا ما يحدث بشكل مستمر في العيادات والمستشفيات الخاصة أيضًا".
كما تضيف الدكتورة هناء أن المركز الذي تعمل فيه يقوم بهذه العمليات: "هو مجهز بشكل كبير يدفع بعض النساء الآلاف لإجراء هذه العملية بأمان.. ويرى الأطباء أنه إن لم نقم بهذه العمليات سيجد هؤلاء النساء طريقة أخرى ومكان آخر يساعدهن على الإجهاض.. أحيانًا تحدث عملية كل شهر وأوقات أخرى اثنين أو ثلاث".