بينما تواصل التحولات الجيوسياسية أجيجها أسفل منطقة الشرق الأوسط، بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته "ريفييرا الشرق" التي تعد بتحويل معالم الدول العربية بشكل جذري، تُثار تساؤلات جوهرية حول مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، ومصير عملية السلام المتعثرة أساسًا، والاستقرار الإقليمي الذي يتهدد بالانهيار. وهو ما يستعرضه أحمد أبو دوح، الزميل مشارك في برنامج "تشاتام هاوس" للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في تحليل شامل لتفاصيل الخطة الأمريكية وآثارها المحتملة، محذرًا من أن هذه الخطة، بغض النظر عن مآلاتها النهائية على أرض الواقع، قد أحدثت بالفعل أضرارًا بالغة، تفتح الباب واسعًا أمام حقبة جديدة من الفوضى في الشرق الأوسط، قد يصعب احتواؤها والسيطرة عليها.
"ريفيرا الشرق".. النكبة الجديدة في خطاب الاستعلاء
يرى أبو دوح أن خطة ترامب، التي تضمنت تصريحات صادمة وغير مسبوقة حول تولي الولايات المتحدة السيطرة الفعلية على قطاع غزة وتحويله إلى "ريفيرا الشرق الأوسط" - وهو مصطلح يعكس رؤية سطحية ومادية للصراع - قد أحدثت صدمة حقيقية في الأوساط السياسية والإقليمية والدولية.
ويشير إلى أن هذه التصريحات، التي تلتها محاولات غير مقنعة من البيت الأبيض للتخفيف من حدتها والتقليل من شأنها، ثم تأكيدات لاحقة من ترامب نفسه على تسليم إسرائيل القطاع للولايات المتحدة، في إشارة إلى موافقة إسرائيلية ضمنية على الخطة، تكشف عن نهج غير مسبوق في التعامل مع القضية الفلسطينية، يتسم بالاستعلاء وتجاهل الحقوق الفلسطينية التاريخية والمشروعة.
اقرأ أيضًا: ترامب ملكًا.. غزة تنتظر احتلالًا أمريكيًا

ويوضح أبو دوح أن هذه الخطة، بغض النظر عن مدى جديتها أو قابليتها للتطبيق على أرض الواقع، تحمل في طياتها تجاهلًا تامًا ومقصودًا للهوية والكرامة الفلسطينية، وتُعيد إلى الأذهان مواقف تاريخية مؤلمة ومأساوية في الذاكرة الفلسطينية والعربية، مثل "وعد بلفور" الذي منح أرض فلسطين لليهود دون اعتبار للسكان الأصليين، أو "النكبة" التي شهدت تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم.
يرى أبو دوح أن وصف الخطة بأنها "نكبة ثانية" أو "بلفور ثانٍ" ليس مبالغة أو تهويلًا، بل يعكس بدقة حجم الدلالات الخطيرة التي تحملها على مستقبل الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية والإنسانية، وعلى فرص تحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة.
طوق نجاة نتنياهو وفرصة ذهبية لنسف السلام
يُشير أبو دوح إلى أن خطة ترامب جاءت في سياق سياسي داخلي إسرائيلي مُعقد ومتأزم، حيث يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضغوطًا متزايدة وانتقادات حادة من اليمين المتطرف في حكومته الائتلافية، الذي يتهمه بالتراخي والتساهل في التعامل مع المقاومة الفلسطينية في غزة، وبالاستعداد لتقديم تنازلات في ملف الرهائن المحتجزين.
ويرى أبو دوح أن تصريحات ترامب المفاجئة، التي شككت بشكل علني في بقاء اتفاق وقف إطلاق النار الهش في غزة، قدمت "طوق نجاة" سياسيًا لنتنياهو، ومنحته فرصة ذهبية لإرضاء قاعدته اليمينية المتطرفة، وتعزيز موقعه السياسي المهتز، وإبقاء حكومته الائتلافية المتصدعة متماسكة في مواجهة التحديات الداخلية المتزايدة.
ويوضح زميل "تشاتام هاوس" أن نتنياهو، الذي لطالما وصف وقف إطلاق النار الحالي بأنه "مؤقت" و"تكتيكي"، وجد في خطة ترامب فرصة سانحة لنسف الاتفاق الهش بشكل كامل، والمضي قدمًا في أجندته اليمينية المتطرفة التي تهدف بشكل أساسي إلى تقويض حل الدولتين وتكريس الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وربما ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة.
وبات بإمكان نتنياهو الآن، وبفضل خطة ترامب، أن يقدم نفسه لأنصاره من اليمين المتطرف على أنه الزعيم الإسرائيلي الوحيد القادر على تحقيق رؤيتهم المتطرفة للشرق الأوسط، والتي تقوم على القضاء على أي أمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وذلك بدعم أمريكي كامل وغير مشروط من إدارة ترامب.

أحمد أبو دوح هو زميل مشارك في برنامج تشاتام هاوس للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومقره لندن. وهو متخصص في الشؤون الخارجية والأمن والجغرافيا السياسية. كما أنه زميل غير مقيم في المجلس الأطلسي في واشنطن العاصمة، ويرأس حاليًا وحدة أبحاث الدراسات الصينية في مركز الإمارات للسياسات. وقد شغل سابقًا منصب مستشار تحرير في صحيفة الإندبندنت.
ريفييرا الشرق.. المنطقة على حافة الهاوية
يُوضح أبو دوح كيف أن خطة ترامب أثارت موجة غضب عربي عارم واستنكار واسع النطاق في مختلف العواصم العربية، وخاصة في الدول المجاورة لقطاع غزة، وفي مقدمتها مصر والأردن، اللتين تعتبران الأكثر تضررًا وتهديدًا من تداعيات هذه الخطة.
ويرى أن هذه الدول تواجه "تهديدات وجودية" حقيقية ومباشرة نتيجة للخطة الأمريكية، حيث أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى أراضيها، وهو سيناريو يخشى منه الكثيرون، سيؤدي حتمًا إلى زعزعة استقرار أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتغذية التطرف والإرهاب في المنطقة، وتحويل أراضيها إلى ساحة صراع إقليمي واسع النطاق.
ويوضح أن مصر والأردن، اللتين ترتبطان بمعاهدات سلام مع إسرائيل منذ عقود، تعتبران خطة ترامب تهديدًا مباشرًا وجسيمًا لأمنهما القومي ومصالحهما الاستراتيجية العليا، وقد تؤدي إلى انهيار هذه المعاهدات التي طالما شكلت حجر الزاوية في الاستقرار الإقليمي.
ويشير إلى أن التحذيرات المصرية كانت واضحة وصريحة وغير مسبوقة في لهجتها، حيث أكدت القاهرة بشكل قاطع وحازم أن أي محاولة إسرائيلية أو أمريكية لدفع الفلسطينيين خارج قطاع غزة أو تهجيرهم قسرًا ستعتبر بمثابة نهاية لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وستقابل برد فعل مصري حاسم وقوي.
اقرأ أيضًا: لماذا ترامب أخطر من بايدن على غزة والشرق الأوسط؟

التحذيرات المصرية كانت واضحة وصريحة وغير مسبوقة في لهجتها، حيث أكدت القاهرة أن أي محاولة إسرائيلية أو أمريكية لدفع الفلسطينيين خارج قطاع غزة أو تهجيرهم قسرًا ستعتبر بمثابة نهاية لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وستقابل برد فعل مصري حاسم وقوي.
أما بالنسبة لدول الخليج العربي، فيرى أبو دوح أنها تشعر بالقلق والارتباك العميق إزاء خطة ترامب، وهي تُدرك جيدًا التهديدات الخطيرة التي تمثلها لأمنها الإقليمي واستقرارها الداخلي.
ويوضح أن دول الخليج، على الرغم من تحفظها العلني المعهود في التعامل مع الإدارة الأمريكية، ترفض بشكل قاطع وحاسم أي محاولة لتغيير الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو تهجير الفلسطينيين من ديارهم، أو المساس بحقوقهم المشروعة.
ويشير أبو دوح إلى أن دول الخليج تدرك أن خطة ترامب، إذا تم تنفيذها، ستؤدي إلى تقوية شوكة إيران ووكلائها في المنطقة، وتجديد شرعية خطاب "المقاومة" الذي تتبناه طهران، وربما إشعال فتيل حرب إقليمية واسعة النطاق يصعب التنبؤ بنتائجها.

لا أولويات.. لا رؤية.. لا سلام
يُحذر أبو دوح بشدة من أن خطة ترامب، بدلًا من تحقيق أهداف الولايات المتحدة المعلنة في المنطقة، فإنها تُقوض هذه الأهداف بشكل مباشر وخطير، وتفتح الباب أمام نتائج عكسية تمامًا. وهو يرى أن هذه الخطة ستؤدي حتمًا إلى:
- تأجيج العنف والصراع في قطاع غزة والمنطقة بأسرها؛ فبدلًا من تهدئة الأوضاع المتوترة أصلًا، ستزيد الخطة من حدة التوتر والاحتقان والغضب الشعبي في المنطقة، وتدفع المنطقة إلى جولة جديدة من العنف والصراع الدموي، قد تكون أكثر اتساعًا ودموية من الجولات السابقة.
- تقويض السلام مع مصر والأردن وتهديد الاستقرار الإقليمي، لأن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة سيؤدي حتمًا إلى تدهور العلاقات المتوترة بالفعل مع الدولتين العربيتين اللتين تعتبران حليفتين استراتيجيتين للولايات المتحدة في المنطقة، وربما إلى انهيار معاهدات السلام التي تربطهما بإسرائيل، مما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي بشكل خطير.
- إحياء دور إيران كلاعب أمني مهيمن في المنطقة وتعزيز نفوذها؛ فالخطة ستمنح إيران ووكلائها في المنطقة فرصة ذهبية لتعزيز نفوذهم وتوسيع نطاق سيطرتهم، وتقديم أنفسهم كقوة إقليمية بديلة للولايات المتحدة، وكحماة للقضية الفلسطينية والمدافعين عن حقوق الفلسطينيين.
- منح الصين وروسيا فرصة سانحة لتعزيز نفوذهما في المنطقة على حساب الولايات المتحدة؛ إذ ستستغل الصين وروسيا الموقف الأمريكي المتخبط والمثير للجدل لتقديم أنفسهما كبديل للولايات المتحدة في المنطقة، وكقوتين عالميتين تدعمان حقوق الفلسطينيين وتعارضان السياسات الأمريكية "الاستعمارية الجديدة".
يقول أبو دوح إنه بغض النظر عن فشل خطة ترامب؛ فإن المنطقة تقف الآن على مفترق طرق حاسم، وتواجه خيارات صعبة ومصيرية، قد تحدد مستقبلها لعقود قادمة.
تكتيك تفاوضي فاشل أم رؤية لتغيير الواقع؟
ويتساءل أبو دوح بجدية عما إذا كانت خطة ترامب مجرد "تكتيك تفاوضي" فاشل يهدف إلى الضغط على الفلسطينيين أو حركة حماس لتقديم تنازلات في ملف الرهائن، أم أنها تعكس رؤية حقيقية وجادة لتغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة، وفرض حلول أحادية الجانب تخدم المصالح الإسرائيلية على حساب الحقوق الفلسطينية والاستقرار الإقليمي.
ويرى أنه حتى لو كانت خطة ترامب مجرد تكتيك تفاوضي، فإنها قد فشلت بالفعل فشلًا ذريعًا، وألحقت أضرارًا جسيمة بعملية السلام الهشة أساسًا، وبمكانة الولايات المتحدة ومصداقيتها في المنطقة والعالم.
ويوضح أن خطة ترامب، بغض النظر عن مآلاتها النهائية وتطبيقها على أرض الواقع، قد غيرت بالفعل الوضع الراهن المتأزم في المنطقة، وأعطت نتنياهو واليمين المتطرف الإسرائيلي دفعة قوية للامعان في تحقيق أجندتهم الاستيطانية والتوسعية، وتقويض أي أمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ومن هذه الوجهة، فإن المنطقة تقف الآن على مفترق طرق حاسم، وتواجه خيارات صعبة ومصيرية، قد تحدد مستقبلها لعقود قادمة.
وينتهي أبو دوح إلى أن إدارة ترامب، من خلال هذه الخطوة الخطيرة والمتهورة، قد تكون ارتكبت خطأ استراتيجيًا فادحًا وغير مسبوق في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، يُهدد بتقويض المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة، وتقوية أعدائها وخصومها، وزعزعة الاستقرار الإقليمي الذي طالما سعت الولايات المتحدة للحفاظ عليه.