ترامب ملكًا.. غزة تنتظر احتلالًا أمريكيًا

في أول زيارة دولة لرئيس وزراء أجنبي منذ توليه ولايته الجديدة، استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أمس الثلاثاء، بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، حيث كشف خلال مؤتمر صحفي مشترك عقب اللقاء عن خطة مفاجئة بشأن قطاع غزة، تقترح "سيطرة الولايات المتحدة على القطاع"، ونقل سكانه إلى "أراض جديدة" في دول مجاورة مثل الأردن أو مصر، اللتين رفضتا في مواقف عدة رسمية وبشكل قاطع كل محاولات تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، لكنهما كما باقي دول المنطقة تواجهان تحديات جمة وتراجعًا في أوراق الضغط المتاحة لمواجهة مثل هذه الخطط.

ترامب كـ"إمبراطور"

يعلق بيتر بيكر، كبير مراسلي البيت الأبيض في صحيفة "نيويورك تايمز"، على خطة ترامب بشأن غزة، قائلًا إنها تعكس تفكيرًا غير تقليدي يتجاوز الحدود المألوفة، إلى درجة تثير الشكوك حول مدى إدراك الرئيس الأمريكي للواقع.

ويضيف بيكر أن ترامب، في ولايته الرئاسية الثانية، يبدو عازمًا على المضي قدمًا في طرح أفكار أكثر جرأة تهدف إلى إعادة رسم خريطة العالم، على غرار ما كانت تفعله الإمبراطوريات في القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال، بعد اقتراحه شراء جزيرة جرينلاند، ثم ضم كندا، واستعادة السيطرة على قناة بنما، وإعادة تسمية خليج المكسيك، يتخيل ترامب الآن السيطرة على منطقة حرب مدمرة في الشرق الأوسط، في خطوة يصفها كبير مراسلي التايمز بـ "التي لم يجرؤ عليها أي رئيس أمريكي آخر من قبل".

علاوة على ذلك، يلفت بيكر الانتباه إلى أن ترامب لم يقدم أي أساس قانوني يبرر للولايات المتحدة السيطرة بشكل أحادي على أراضي الغير، أو تجاهل أن التهجير القسري لسكان بأكملهم يشكل انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي. كما يتجاهل التحديات اللوجستية والمالية الهائلة المترتبة على إعادة توطين مليوني فلسطيني، بالإضافة إلى التداعيات السياسية الخطيرة لمثل هذه الخطوة، واحتمال الحاجة إلى نشر آلاف الجنود الأمريكيين وتصاعد وتيرة العنف في المنطقة.

ناشط يرتدي زي تمثال الحرية يسحب الأغلال بالقرب من دمية كبيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء احتشدهم بالقرب من البيت الأبيض لدعم الفلسطينيين. | ماندل نجان / وكالة الصحافة الفرنسية عبر Getty Images
ناشط يرتدي زي تمثال الحرية يسحب الأغلال بالقرب من دمية كبيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء احتشدهم بالقرب من البيت الأبيض لدعم الفلسطينيين. | ماندل نجان / وكالة الصحافة الفرنسية عبر Getty Images

جاد.. مجنون أم يشتت انتباهنا؟

يقول بيكر إن فكرة ترامب الأخيرة بشأن غزة تمثل أكبر انخراط للقوة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط منذ غزو العراق وإعادة إعماره قبل عقدين، وهو ما يعتبر تناقضًا صارخًا مع وعوده الانتخابية في عام 2016 بإنهاء سياسة "بناء الدول" وسحب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط.

في المقابل، عبر سياسيون أمريكيون عن استنكارهم لما طرحه رئيسهم، إذ اعتبروا أن ما وصفه ليس مجرد أمر غير مقبول أو غير حكيم، بل يرقى إلى مستوى "التطهير العرقي تحت ستار آخر"، كما وصفه السيناتور كريس فان هولن، الديمقراطي عن ولاية ماريلاند. وقد أيدت هالي سويفر، الرئيسة التنفيذية للمجلس الديمقراطي اليهودي الأمريكي، هذا الرأي، حيث صرحت قائلة: "إن فكرة أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة على غزة، بما في ذلك نشر قوات أمريكية، ليست مجرد فكرة متطرفة، بل هي منفصلة تمامًا عن الواقع"، متسائلةً باستنكار: "في أي عالم يُمكن أن يحدث هذا؟".

اقرأ أيضًا: لماذا ترامب أخطر من بايدن على غزة والشرق الأوسط؟

ويرى خالد الجندي، الباحث الزائر في مركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورجتاون، أن تصريحات ترامب بشأن غزة، على الرغم من أنها تبدو "غريبة وغير منطقية"، فإنها تثير تساؤلات أكثر مما تقدم إجابات.

ويتساءل الجندي: "هل يتحدث ترامب من منظور جيوسياسي، أم أنه ينظر إلى غزة ببساطة كمشروع تطوير عقاري ضخم على شاطئ البحر؟ ولمن ستكون الفائدة؟ بالتأكيد ليس للفلسطينيين، الذين سيتم 'نقلهم' بشكل جماعي. هل ستصبح الولايات المتحدة هي القوة المحتلة الجديدة في غزة، لتحل محل إسرائيل؟ وما هي المصلحة الأمريكية التي يمكن أن تحققها هذه الخطوة؟".

قبل توليه السلطة، هدد بـ"الجحيم في الشرق الأوسط" إذا لم يتم تحرير الأسرى الإسرائيليين. وبعد الاتفاق على صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار الأخير، اعترف ترامب بأن غزة أصبحت "جحيمًا" بالفعل. وأشار إلى أنه لم يتقدم أحد بأفكار عملية ومدروسة جيدًا حول كيفية إعادة إعمار غزة أو تقديم التزامات مالية ملموسة للقيام بذلك، سواء من الدول العربية أو الغربية.

ومع ذلك، يستبعد آرون ديفيد ميلر، المفاوض السابق في محادثات السلام في الشرق الأوسط والباحث الحالي في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، إمكانية تطبيق اقتراح ترامب بشأن غزة.

الدمار الواسع الذي خلفه الاحتلال في غزة (وكالات)
الدمار الواسع الذي خلفه الاحتلال في غزة (وكالات)

يرى ميلر أن هذا الاقتراح يتعارض بشكل أساسي مع توجه ترامب المعروف بالنفور من فكرة "بناء الدول"، كما أنه قد يقوض جهوده للتوسط في اتفاق بين السعودية وإسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية. بينما "يوفر لروسيا والصين ذريعة للسيطرة على الأراضي كما يرون ذلك مناسبًا".

ويبدو أن ميلر يميل إلى الاعتقاد بأن ترامب حاول من خلال هذا الطرح تشتيت الانتباه عن جوهر اجتماعه مع نتنياهو، الذي لم يتعرض لأي ضغط علني حقيقي لتمديد اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ الشهر الماضي، مما منحه حرية أكبر في تحديد الخطوات اللاحقة.

ويختتم ميلر تحليله بأن "كل هذه الضجة المثارة حول استيلاء الولايات المتحدة على غزة جعلتنا نغفل عن القصة الحقيقية للاجتماع. لقد غادر نتنياهو البيت الأبيض وهو في قمة السعادة. وإذا كان هناك دليل على عدم وجود خلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة، فهذا هو الدليل القاطع".

ترامب كداع للتطهير العرقي

في تقرير يتناول كيف انتهك ترامب القانون الدولي، وصفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تصريحات ترامب عن غزة بأنها "أكثر تحول جذري في الموقف الأمريكي الثابت تجاه القضية الفلسطينية الإسرائيلية في التاريخ الحديث للصراع؛ وسيُنظر إليها على أنها انتهاك صريح للقانون الدولي".

فعلى الرغم من أن ترامب ومسؤوليه يروجون لفكرة "إعادة توطين" جميع الفلسطينيين خارج غزة بشكل دائم – على حد تعبيره – باعتبارها "مبادرة إنسانية"، زاعمين أنه "لا يوجد بديل لهم لأن غزة أصبحت 'مكانًا مدمرًا بالكامل'"، فإن "محاولات النقل القسري للسكان محظورة تمامًا بموجب القانون الدولي"، كما أن توافق هذه التصريحات مع أحلام اليمين الإسرائيلي المتطرف الساعية لطرد الفلسطينيين من الأراضي المحتلة وتوسيع المستوطنات اليهودية مكانهم، يجعل الولايات المتحدة شريكًا ضالعًا في جريمة تطهير عرقي يُخطط لها بشكل واسع وتستهدف أكثر من مليوني إنسان. وهي هنا لا تختلف عما ارتكبته ألمانيا الهلترية.

عندما سُئل عما إذا كان سيُسمح للفلسطينيين بالعودة إلى غزة، أجاب ترامب بأن "أهل العالم" سيعيشون هناك، واصفًا غزة بأنها ستكون "مكانًا دوليًا لا يصدق"، قبل أن يضيف "وأيضًا الفلسطينيين". وردًا على سؤال حول ما إذا كانت القوات الأمريكية ستشارك في عملية الاستيلاء على غزة، أجاب ترامب "سنفعل ما هو ضروري".

وقد علق بول أوبراين، المدير التنفيذي لمنظمة العفو الدولية في الولايات المتحدة، قائلًا: "إن إبعاد جميع الفلسطينيين عن غزة يعادل تدميرهم كشعب. غزة هي موطنهم. والموت والدمار الذي حل بغزة هو نتيجة قيام حكومة إسرائيل بقتل المدنيين بالآلاف، وغالبا بالقنابل الأمريكية".

ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض (وكالات)
ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض (وكالات)

وفي الولايات المتحدة نفسها، عبر السناتور الأمريكي الديمقراطي كريس ميرفي عن استنكاره عبر حسابه على منصة "إكس" قائلًا: "لقد فقد عقله تمامًا. سيؤدي غزو الولايات المتحدة لغزة إلى مذبحة لآلاف الجنود الأمريكيين وحرب في الشرق الأوسط لعقود. إنها أشبه بنكتة سيئة".

وبدوره، وصف عضو مجلس النواب الديمقراطي جيك أوشينكلوس الاقتراح بأنه "متهور وغير معقول"، مضيفًا أنه قد يعرقل المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. وأشار أوشينكلوس إلى "دوافع ترامب" قائلاً: "كما هو الحال دائمًا، عندما يقترح ترامب بندًا سياسيًا، هناك دائمًا صلة بالمحسوبية وخدمة الذات". وفي إشارة إلى ترامب وصهره جاريد كوشنر، قال "إنهما يريدان تحويل هذا إلى منتجعات".

هنا ولدنا.. وهنا سنبقى

من ناحية أخرى، أشار جون ألترمان، رئيس برنامج الشرق الأوسط في مركز واشنطن للدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن "العديد من سكان غزة ينحدرون من فلسطينيين فروا من أجزاء من إسرائيل الحالية ولم يتمكنوا قط من العودة إلى ديارهم السابقة. وأنا أشك في أن الكثيرين منهم قد يكونون على استعداد لمغادرة غزة المحطمة".

ووصفت حركة حماس تصريحات ترامب بأنها "موقف عنصري" يتماشى مع موقف "اليمين الإسرائيلي المتطرف"، واعتبرت هذه التصريحات "محاولة يائسة لتصفية" القضية الفلسطينية.

وفي المقابل، أكد أمين عام منظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ، الأربعاء، أن المنظمة ترفض بشكل قاطع كل دعوات تهجير الشعب الفلسطيني من وطنه. وأضاف الشيخ في منشور على منصة "إكس": "القيادة الفلسطينية تؤكد على موقفها الثابت بأن حل الدولتين وفق الشرعية الدولية والقانون الدولي هو الضمان للأمن والاستقرار والسلام". وشدد على أن "القيادة الفلسطينية تؤكد رفضها لكل دعوات التهجير للشعب الفلسطيني من أرض وطنه. هنا ولدنا، وهنا عشنا، وهنا سنبقى. ونثمن الموقف العربي الملتزم بهذه الثوابت".

رفض عربي وردود فعل دولية

وفي مصر، أعلن وزير الخارجية بدر عبد العاطي، خلال لقاء مع رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى اليوم الأربعاء، أنه يجب أن يظل الفلسطينيون في قطاع غزة خلال عمليات إعادة بنائه. كما أوضحت وزارة الخارجية المصرية في بيان نُشر على صفحتها على "فيسبوك" أهمية المضي قدمًا في تنفيذ مشروعات وبرامج التعافي المبكر، وإزالة الركام، وتسريع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. كما أكّد البيان على ضرورة بقاء الفلسطينيين في القطاع، خاصة مع تشبثهم بأرضهم ورفضهم مغادرتها.

وعربيًا، أكدت وزارة الخارجية السعودية على "أن موقف المملكة العربية السعودية من قيام الدولة الفلسطينية هو موقف راسخ وثابت لا يتزعزع، وقد أكد الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، هذا الموقف بشكل واضح وصريح لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال".

ودوليًا، عبرت تركيا وفرنسا والصين وروسيا وأستراليا عن رفضها لمقترح ترامب. وفي تركيا، وصف وزير الخارجية هاكان فيدان تصريحات ترامب بأنها "غير مقبولة"، بينما رفضت فرنسا تصريحات ترامب، معتبرةً أنها "انتهاك للقانون الدولي" و"تؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة". كما أعلنت وزارة الخارجية الصينية عن معارضة بكين "للتهجير القسري لسكان القطاع"، في حين أكد الكرملين أن روسيا ترى أن "التسوية في الشرق الأوسط ممكنة فقط على أساس حل الدولتين". بدورها، أكدت أستراليا على دعمها "حل الدولتين".

وفي الولايات المتحدة، تصاعدت وتيرة الاستنكار الداخلي لمقترح ترامب، إذ وصفت عضوة مجلس النواب الديمقراطية رشيدة طليب تصريحات ترامب بأنها "هراء متعصب"، مؤكدةً أن "الفلسطينيون لن يذهبوا إلى أي مكان". كما اعتبر السناتور الديمقراطي كريس فان هولن مقترح ترامب "تطهيرًا عرقيًا تحت مسمى آخر"، محذرًا من أنه "يُقوض شركاءنا العرب في المنطقة". وفي السياق ذاته، وصف مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية دعوة ترامب لطرد الفلسطينيين بأنها "غير مقبولة على الإطلاق"، محذرًا من "تداعيات خطيرة" لمثل هذه الخطوة.

ومع ذلك، تبقى تساؤلات جوهرية حول "الخيارات العربية" المتاحة لمواجهة ما يُمكن وصفه بـ "غطرسة ترامب"، وأهمها: هل يملك العرب في مواجهة استعمارية ترامب أي أوراق ضغط ممكنة، أم أن لا سبيل لمواجهة هذه الغطرسة إلا بتعزيز الجبهات الداخلية العربية ولا طريق لهذا التعزيز إلا بإطلاق الحريات والديمقراطية في منطقتنا؟.

اقرأ أيضًا: سياسيون يرسمون خارطة الطريق لتماسك الجبهة الداخلية

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة