بين الكتب المتراصة على الأرفف وحكايات أبطالها، يلتف الزوار وتتناثر قصصهم في الأجواء وتدور الحوارات حول أحدث الإصدارات وأجمل الروايات، وفي كل زاوية، تجد شغوفًا يتصفح كتابًا، وطفلًا يجرّ والدته نحو ركن الحكايات المصورة، وكاتبًا يوقع روايته لقرّائه الذين جاؤوا خصيصًا للقائه.
في هذا الفضاء الثقافي المزدحم، تتداخل أصوات الباعة مع أحاديث الزوار، وتعلو ضحكات الصغار الذين وجدوا في المعرض مغامرة جديدة.
هنا، يُستعاد الزمن الجميل للقراءة، حيث تعود الكتب لتحتل مكانتها وسط إغراءات الشاشات، تمر بين الأجنحة، فتجد دور النشر تعرض عناوينها الجديدة بفخر، بينما تقف مجموعات من الشباب في حلقات نقاش حول الأعمال الأدبية الأكثر جدلًا هذا العام.
في القاعة الرئيسية تدور ندوات وحوارات ثرية، يعتليها أدباء ومفكرون يناقشون القضايا الأدبية والفكرية الراهنة، بينما يحرص الجمهور على تدوين الملاحظات والتقاط الصور التذكارية، وبين الأروقة، يختلط جمهور المعرض من مختلف الأعمار والاهتمامات، فمنهم من يبحث عن رواية تؤنس لياليه، وآخر يسعى خلف كتب نادرة أو دراسات أكاديمية تثري معرفته.
لكن وسط هذه الأجواء الساحرة، يظل التحدي الأكبر أمام كثير من الزوار هو الوصول إلى المعرض وتحمل تكاليف التنقل المتزايدة، فبينما يسعى الجميع للغوص في هذا العالم الثقافي، يجدون أنفسهم أمام واقع اقتصادي يفرض نفسه بقوة، حيث باتت تكلفة التنقل تشكل حاجزًا أمام الاستمتاع بهذه التجربة الثقافية السنوية.
بين قاعة الطفل وورش الحكي والرسم يقف كريم عوض، أب لثلاثة أطفال، متأملًا الفرحة في أعينهم وهم يتنقلون هنا وهناك، وهذه اللحظات التي ينتظرها بشغف كل عام، يعتبرها فرصة مثالية لتعزيز حب القراءة لديهم، هنا في معرض القاهرة الدولي للكتاب.
يقول كريم لـ فكّر تاني: "المعرض تجربة رائعة بالنسبة لنا، أطفالي كانوا متحمسين للغاية، وسعداء بكمية الكتب التي رأوها، أقدّر بشدة أن سعر تذكرة الدخول ما زال 5 جنيهات فقط، وهذا أمر جيد جدًا مقارنة بحجم الحدث".
لكن رغم هذه الأجواء الإيجابية، واجه كريم هذا العام تحديًا لم يكن في الحسبان، وهو الارتفاع الكبير في تكلفة المواصلات: "أسكن في مدينة 6 أكتوبر، وبحساب بسيط، أجد نفسي مضطرًا لدفع 160 جنيهًا يوميًا على أقل تقدير للوصول إلى المعرض فقط، وإذا لم أشترِ مقعدًا منفصلًا لطفلتي الصغرى، وجعلتها تجلس على حجري".. ومع هذه المصاريف، اضطر لتقليل عدد زياراته المخططة، وكذلك تخفيض ميزانية شراء الكتب والهدايا لأطفاله، رغم رغبته في جعل التجربة أكثر ثراءً لهم.
يختم كريم حديثه بحسرة: "المعرض مناسبة سنوية مهمة لا أريد أن أحرم أطفالي منها، لكن مع الأعباء الاقتصادية الحالية، يصبح الأمر صعبًا، كنت أتمنى لو أن هناك دعم أو تخفيض على المواصلات، حتى تتمكن الأسر من الاستفادة من هذه الفرصة الثقافية دون التفكير مرتين في تكلفة الوصول".
اقرأ أيضًا:معرض الكتاب الـ 56.. "سماوي" وتجربة قراءة لا تُنكر التقنية
المواصلات وعبء الأزمة الاقتصادية
أما بالنسبة لمنة الله حسام، المعلمة الشابة، فإن معرض الكتاب ليس مجرد فعالية ثقافية، بل هو مساحة لاكتشاف العناوين الجديدة وتقول لـ فكّر تاني: "المعرض حدث انتظره بشدة، وأحب أن أخصص له أكثر من يوم لحضور الندوات وشراء الكتب على مهل، لكن بمجرد أن بدأت التخطيط، وجدت أن تكاليف المواصلات ستكون تحديًا كبيرًا".
توضح منة الله أن خيار "النقل العام" لم يكن اقتصادي كما توقعت، إذ حُددت تسعيرة الأتوبيسات المخصصة للمعرض بـ 20 جنيهًا، لكنها قد ترتفع إلى 30 أو 40 جنيهًا إذا احتاجت إلى وسيلة إضافية للوصول إلى نقطة التجمع.
"في النهاية، فضّلت استخدام أوبر لأنه يمنحني راحة أكبر بنفس التكلفة تقريبًا، خاصةً أنني أحمل معي دائمًا حقائب مليئة بالكتب عند العودة".
وتعبّر منة عن استيائها: "المعرض تجربة رائعة، وأقدر جهود تنظيمه، لكن كيف يُفترض أن يستمتع الناس به وهم يدفعون مبالغ كبيرة فقط للوصول إليه؟ يجب أن يكون متاحًا للجميع، لا أن يصبح عبئًا على من يريد الذهاب إليه، آمل أن يُعاد النظر في مسألة النقل مستقبلًا، لأن الثقافة يجب أن تكون في متناول الجميع، لا أن تتحول إلى رفاهية يصعب الوصول إليها".
مع استمرار الأزمة الاقتصادية، بات ارتفاع أسعار المواصلات عبئًا إضافيًا على المواطنين، خاصة الطبقة المتوسطة التي تعتمد على معرض الكتاب كفرصة سنوية لتعزيز ثقافة القراءة لدى أطفالها، إلا أن الزيادات الأخيرة في تعريفة النقل جعلت الرحلة إلى المعرض أكثر تكلفة، ما يثير تساؤلات حول تأثير ذلك على نسب الإقبال.
ورغم التصريحات الرسمية التي حددت سعر تذكرة المواصلات العامة إلى المعرض بـ 15 جنيهًا، فإن شهادات العديد من الزوار كشفت عن تجاوز التكلفة في بعض الأحيان الـ 30 جنيهًا بسبب استغلال وسائل النقل الخاصة.
أما الأتوبيسات المخصصة من هيئة النقل العام، فقد تم تحديد تعريفتها بـ 15 جنيهًا، لكنها تصل في أحيان كثيرة إلى 20 جنيهًا، ونتيجة لذلك، أصبح متوسط تكلفة التنقل للفرد الواحد لا يقل عن 40 جنيهًا ذهابًا وإيابًا،حيث شهدت أسعار أتوبيسات النقل العام بالقاهرة زيادات تتراوح بين جنيه وجنيهين، لتصل إلى 9 جنيهات للأتوبيس العادي، و15 إلى 17 جنيهًا للأتوبيس المكيف، وذلك بالتوازي مع ارتفاع أسعار الوقود، ومع هذه الزيادات، أصبح الوصول إلى المعرض تحديًا اقتصاديًا يضع الأسر أمام خيارات صعبة بين تحمل أعباء إضافية أو التخلي عن زيارة المعرض كليًا.
اقرأ أيضًا:معرض الكتاب الـ56.. أي مخاطر أخلاقية قادمة للتكنولوجيا؟
السياسات الاقتصادية وانعكاساتها على الدعم والمواصلات
صرح رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، في أكتوبر الماضي، أن قرار رفع أسعار الوقود للمرة الثالثة خلال العام، جاء بعد أن تحملت الدولة أعباء هائلة بسبب ارتفاع تكاليف المنتجات البترولية، لكن تحليل الموازنة العامة كشف عن تراجع مستمر في مخصصات دعم الوقود، في مقابل ارتفاع كبير في خدمة الدين.
ووفق دراسة بعنوان "النقود وحدها لا تكفي" صدرت عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، تراجع دعم المواد البترولية من 15.3% من إجمالي استخدامات الموازنة في عام 2013/2014 إلى 2.8% فقط في موازنة 2024/2025، في حين ارتفعت نسبة خدمة القروض والفوائد إلى 62% من إجمالي الاستخدامات، مقارنة بـ34% قبل عشر سنوات.
هل تؤثر تكلفة النقل على الإقبال الجماهيري؟
تنتهي فعاليات معرض الكتاب غدًا الأربعاء، ويظل السؤال مطروحًا: هل تؤثر زيادة أسعار المواصلات على معدلات الإقبال في السنوات القادمة؟ وهل سوف تتخذ الجهات المعنية خطوات لدعم وسائل الانتقال، مثل تقديم تخفيضات على تذاكر النقل أو توفير خيارات بأسعار مخفضة؟
يظل المعرض حدثًا ثقافيًا استثنائيًا، لكنه بات يواجه تحديات جديدة تتطلب حلولًا مبتكرة لضمان استمراريته وأن يكون متاحًا للجميع، وبينما يستمر الجدل حول أولويات الدعم والإنفاق الحكومي، يبقى الأمل معقودًا على أن تظل الثقافة حقًا للجميع، وليست امتيازًا لمن يستطيع تحمّل تكلفتها.
أكد الكاتب الصحفي سيد محمود في حديثه مع فكّر تاني، أن الفئة الأكثر تضررًا من ارتفاع تكاليف المواصلات هي الطبقة الوسطى، حيث بات المواطن يفكر مليًا قبل التنقل بسبب الأعباء المالية المتزايدة.
"إذا كانت عائلة مكونة من خمسة أو ستة أفراد تعيش في حلوان وترغب في زيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب، فإنها ستحتاج إلى نحو 30 جنيهًا للفرد في الذهاب فقط، ما يعني أن إجمالي التكلفة للذهاب والعودة قد يصل إلى 300-350 جنيهًا، دون احتساب تكاليف الطعام أو أي مصاريف إضافية، وهو ما يجعل هذه الزيارة عبئًا ماليًا حقيقيًا، خاصة مع ارتفاع الأسعار داخل المعرض ذاته".

وعن تأثير هذه الزيادات على الإقبال الجماهيري، أشار الكاتب الصحفي إلى صعوبة تقييم ذلك بدقة، لافتًا إلى أن نقل المعرض من مدينة نصر إلى التجمع الخامس رافقه توفير الحكومة لعدد من خطوط النقل العام من الميادين الرئيسية، لكن التغطية الإعلامية لهذه الخدمات كانت محدودة هذا العام، ما جعل بعض المواطنين يشعرون بعدم توفرها بالكفاءة المطلوبة.
"العديد من الزوار اضطروا للاعتماد على وسائل النقل التشاركي مثل "أوبر" و"كريم"، إلا أن الأزمة الكبرى ظهرت في رحلة العودة من المعرض، حيث تسبب خروج أعداد كبيرة من الزوار في نفس الوقت في ارتفاع أسعار خدمات النقل التشاركي، فضلًا عن صعوبة العثور على سيارة متاحة".. يقول سيد محمود لـ فكّر تاني.
وأردف قائلًا: "في المقابل، كانت خدمة الميكروباص أكثر كفاءة، لكنها واجهت مشكلات تنظيمية بسبب عدم تخصيص موقف رسمي لها، ما أدى إلى تدخلات أمنية تسببت في عرقلة عمل السائقين".
وأكد محمود أن غياب إحصائيات دقيقة حول معدلات الإقبال يزيد من صعوبة التقييم، لكن المؤشرات تشير إلى انخفاض حجم الشراء مقارنة بالسنوات السابقة، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من شهادات الناشرين الذين أبدوا قلقهم من تراجع المبيعات، خاصة مع الارتفاع الملحوظ في أسعار الكتب.
"الكتاب الجيد بالمواصفات العادية لا يقل سعره عن 300 جنيه، بينما تصل أسعار بعض الكتب العربية إلى 500 جنيه أو أكثر، ما أثر على معدلات الشراء بشكل واضح".
اقرأ أيضًا:معرض الكتاب الـ 56.. مراسلات الغربة وحب السينما في حياة "شيمي" و"خان"
تكلفة الوصول للفعاليات الثقافية
أما عن تأثير ارتفاع تكاليف النقل على وصول الجمهور إلى الفعاليات الثقافية بشكل عام، أوضح محمود أن الأمر أصبح أكثر تعقيدًا، مستشهدًا بارتفاع أسعار تذاكر دار الأوبرا المصرية خلال العامين الماضيين، حيث تراوحت أسعار الحفلات بين 1200 إلى 1700 جنيه، ووصلت في بعض الحالات إلى 2000 جنيه، ما يجعل حضور هذه الفعاليات مقتصرًا على فئة محدودة من الجمهور.
كما أشار إلى أن بعض المؤسسات الثقافية، مثل قصور الثقافة وهيئة الكتاب، لا تزال تعمل وفق آلياتها التقليدية، في حين ارتفعت تكاليف صناعة الموسيقى والترفيه بشكل ملحوظ، وأوضح أن إغلاق دور العرض السينمائية التابعة للدولة أدى إلى احتكار دور العرض الخاصة داخل المراكز التجارية، والتي تُعرف بتكلفتها المرتفعة مقارنة بخيارات السينما المدعومة سابقًا.
وختم محمود تصريحه قائلاً: "هناك بالفعل أزمة تتعلق بارتفاع تكلفة الوصول إلى الفعاليات الثقافية، لكن لا أعتقد أن هناك ضريبة مباشرة على الثقافة بسبب زيادة أسعار الوقود، فالدولة تفرض بالفعل العديد من الضرائب على الأنشطة الثقافية والترفيهية مثل الملاهي وغيرها".
القراءة ليست رفاهية
"أعيش في طنطا، وكان الذهاب إلى معرض الكتاب حين كان يُقام في مدينة نصر رحلة طويلة لكنها محتملة. أما الآن، بعدما نُقل إلى التجمع الخامس، أصبحت المسافة مضاعفة، والطريق أكثر إرهاقًا، خاصة للأطفال، والتنقل بين المواصلات يزيد من هذه المشقة".. هكذا تصف سحر مصطفى، في حديثها لـ فكّر تاني، معاناتها في الوصول إلى المعرض.
لكن المشقة لا تتوقف عند عناء الرحلة، فهناك عبء آخر لا يقل أهمية، وهو التكلفة، بين أسعار المواصلات المرتفعة وتكاليف الطعام داخل المعرض، تجد سحر نفسها مضطرة لحساب كل جنيه قبل اتخاذ أي قرار، فهي أم لفتاتين، ملك "12 سنة" ومليكة "6 سنوات"، وتحرص على اصطحابهما كل عام إلى المعرض، ليس فقط لشراء الكتب، ولكن لأنه مساحة تمزج بين التعلم والترفيه، حيث تتجولان بين أرفف الكتب، تختاران ما تحبان، وتستمتعان بالأجواء الثقافية، غير أن هذا التقليد السنوي بات مهددًا في ظل الظروف الحالية.
"في السابق، كنا نختار الكتب بحرية، أما الآن فأضطر إلى تقليص عدد الكتب التي أشتريها لهما، وأحسب كل قرش قبل أن أقرر ما يمكننا شراؤه".. تقول سحر، معبرة عن إحباطها من ارتفاع الأسعار.
ورغم التحديات، تصرّ على التمسك بهذه العادة السنوية، لكنها تتمنى أن تجد الأسر البعيدة حلولًا تجعل الوصول إلى المعرض أسهل، سواء بتوفير مواصلات بأسعار معقولة أو بإعادة النظر في موقعه ليكون أقرب إلى الجميع، وتختتم حديثها بحسرة: "يجب ألا تصبح القراءة رفاهية يصعب الوصول إليها".