14 عاماً على ثورة يناير.. هل تعلمنا شيئاً؟

النخبة بالمفهوم الواسع، هي المستهدفة بالسؤال الذي يطرحه عنوان هذا المقال. ونظراً لأن مفهوم النخبة من أكثر المفاهيم مراوغة في علم الاجتماع وفي علم السياسة، أعرف النخبة في هذا المقال بأنهم مجموعة من الأشخاص الذين يمتلكون قدرة على التأثير في الجمهور، عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

وهذا التعريف يوسع مفهوم النخبة ليشمل النخب على مستوى المجتمعات المحلية بالإضافة إلى النخبة على المستوى القومي، كما أنه يسمح بتقسيم هذه النخبة إلى قطاعات اجتماعية مختلفة حسب النشاط، ما بين نخب سياسية وأخرى مالية أو اقتصادية أو فكرية أو إعلامية. وعليه فإن القطاع المستهدف بالسؤال المطروح هم بالأساس النخبة السياسية التي قد تتداخل فيها شخصيات من قطاعات النخب الأخرى.

صدرت في السنوات التي أعقبت الثورة المصرية، مئات المؤلفات في مصر والعالم العربي والولايات المتحدة وأوروبا، التي تحاول تحليل هذه الثورة وتقييم ما أنجزته وما واجهته من تحديات أخرجتها عن مسارها وسمحت بانتصار الثورة المضادة، على النحو الذي أوضحته في مقال نُشر قبل عام في ذكرى ثورة 25 يناير على موقع "زاوية ثالثة"، وكتابات أخرى تحاول فهم ما حدث في 25 يناير 2011، وما بعده من تطورات، وتعكس هذه الكتابات تبايناً في المواقف بين منتقد للثورة المجهضة التي لم تكتمل ولم تنجز بعد لإحداث تغيير جذري، ويحمل الذين شاركوا فيها المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في مصر، وبين من يمجدون الثورة ويدافعون عن الأهداف النبيلة التي كان يطمح الثوار إلى تحقيقها، وبين من يصورونها على أنها جزء من مؤامرة دولية كبرى لإسقاط الدولة المصرية، وهو التصور الذي لخصه كتاب الاحتلال المدني، للعميد عمرو عمار الذي صدر في عام 2013.

مصريون في ثورة يناير
مصريون في ثورة يناير

هناك العديد من الشهادات والرؤى لمشاركين في الثورة، الذين عاصروها من مواقع مختلفة، والقليل جدا من الكتابات التي حاولت استخلاص الدروس والعبر من هذا الحدث الجلل والبناء عليها لطرح تصورات للمستقبل القريب والبعيد، والضغط من أجل الشروع في إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية تحقق بعض تطلعات القوى التي شاركت في الثورة وصنعت الحدث التاريخي، وفي مقدمتهم الشباب. من هذه الكتابات، كتاب صدر مؤخراً للمفكر المصري الدكتور محمد رؤوف حامد أستاذ الصيدلة، ورئيس هيئة الرقابة على الدواء السابق، بعنوان "25 يناير.. أصالة شعب وضبابية نخبة"، التي جمع فيها العديد من المقالات وأوراق البحث التي كتبها على مدى ثلاثة أعوام ما بين 2011 و2014، باستثناء مقال واحد نشره في جريدة الأهرام القاهرية في مايو 2003، بعنوان "المواطن العادي المكبر" استهل به الباب الأول للكتاب. وزادت الأحداث التي وقعت في مصر بين يونيو 2012 ويوليو 2013، والتي انتهت بحراك جماهيري واسع أطاح بحكم جماعة الإخوان المسلمين التي سيطرت على مجلس الشعب وعلى الرئاسة عبر انتخابات مثيرة للجدل، من ضبابية المشهد وتشوش الرؤية. وصدرت كتابات كثيرة تحاول فهم ما جرى في مصر في هذين العامين الحاسمين، اللذين غَيَّرا وجه الحياة في مصر تغييراً جذرياً بسبب سياسات النظام الجديد.

اقرأ أيضاً: مع ثلاثة من رموز جيل يناير (جلسة حوارية)

الثورة: جدل العفوية والتنظيم

ثار جدل كبير حول طبيعة الحدث الذي بدأ بمظاهرات منظمة شارك فيها شبان وقوى سياسية وشخصيات عامة، ارتبطوا بحركات احتجاجية تصاعدت في السنوات السابقة على 2011، مع ظهور حركات مثل "حركة كفاية" في أعقاب غزو العراق في عام 2003، ثم حركة 6 أبريل في عام 2006، والحركة المصرية للتغيير التي تشكلت بعد عودة الدكتور محمد البرادعي، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مصر، ثم حركة "كلنا خالد سعيد" التي تشكلت بعد مقتل شاب مصري في الإسكندرية على يد أفراد من الشرطة أثناء احتجازه وتفتيشه.

وواكب هذه الحركات المنظمة عشرات الاحتجاجات الاجتماعية، أبرزها إضراب واعتصام موظفي الضرائب العقارية أمام مقر مجلس الوزراء، بالإضافة إلى العديد من الاحتجاجات العفوية على عنف الشرطة مع المواطنين. هذه الحركات الاحتجاجية كانت مؤشراً واضحاً على أن الشعب المصري في حالة "ثورية"، ناتجة عن عدم مواكبة النظام السياسي للتغييرات الاجتماعية الناتجة عن التحولات العالمية وعن سياسات النظام للتكيف مع هذه التحولات بسياسات إصلاحية حذرة ومترددة لا تلبي تطلعات المواطنين وتوقعاتهم المتزايدة نتيجة تلك التحولات.

هناك من يُصور ما حدث "يوم 25 يناير" على أنه مؤامرة خارجية ضد مصر، تم تنفيذها من خلال الشبان المنضمين لمنظمات مدنية اعتمدت في نشاطها على التمويل الأجنبي من خلال منح مقدمة من هيئات دولية لدعم برامج وأنشطة تخدم مخططات تلك الهيئات لاختراق المجتمع المصري ثقافياً وفكرياً والضغط على مؤسسات الدولة من أجل الاستجابة لطلبات القوى الدولية، ويأتي هذا في سياق ما اصطلح على تسميته، حروب الجيل الرابع، وحروب الجيل الخامس، التي توظف وسائل الاتصال الجديدة المرتبطة بالثورة العلمية والتكنولوجية لتوجيه الشباب والتأثير على توجهاتهم وميولهم وأفكارهم، وهناك من يصورها على أنها مؤامرة لجماعة الإخوان المسلمين شاركت فيها أطراف وجماعات خارجية مسلحة من الأجل الإطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك والاستيلاء على السلطة عبر استهداف ركيزتها الأمنية الأساسية الممثلة في الشرطة وأجهزتها المختلفة.

ويرى مراقبون أنها انقلاب عسكري ضد الرئيس مبارك وخططه لتوريث الحكم لنجله جمال، بمعاونة أمانة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي، الموالي للرئيس. ويدعم كل فريق رأيه بمستندات ووثائق جرت قراءتها قراءة متعسفة وأخرجت عن سياقها، وبمعزل عن السياق العام الذي أدى إلى المطالبة بالتغيير في مصر، وتعاملوا مع الحدث كما لو كان مقطوع الصلة بما سبقه من أخطاء ارتكبها النظام وخبرات نضالية متراكمة للقوى الاجتماعية والسياسية.

وإلى جانب هذه التصورات ثار جدل بين المناصرين حول ما إذا كان هذا الحدث "ثورة" أم "انتفاضة عفوية" مثلها مثل آلاف الانتفاضات التي يذخر بها التاريخ المصري والتي جرى إجهاضها دون أن تحدث أي تغيير جذري. وبعيداً عن تلك التصورات والاختلافات، هناك اتفاق على أن الثورة المصرية التي انطلقت في 25 يناير "ثورة لم تنجز بعد"، وأن لهذه الثورة التي كان الاعتصام الجماهيري الواسع الذي استمر 18 يوماً في ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية وفي ميادين أخرى في مدن كبرى كالإسكندرية والسويس، سمات خاصة تميزها، الأمر الذي أضفى على الحدث صورة زادت من رومانسية المشهد الثوري، بتصويره كثورة مدنية ديمقراطية، لها هدف واحد وهو تغيير النظام، جرى اختزاله في تغيير رأس النظام، ورفعت شعارات تراوحت بين "الحرية والكرامة الإنسانية" وبين "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"، إلى جانب شعارات ذات طابع ديني واضح نتيجة للمشاركة الواسعة لقوى دينية إسلامية، من بينهم السلفيون والإخوان المسلمين وأزهريون، وقوى مسيحية مرتبطة برجال الدين والكنيسة ومستقلة.

قد يحسم الرجوع إلى العلوم التي تدرس الثورات جانباً كبيراً من هذا الجدل، وقد تساعدنا على فهم ما جرى، واستخلاص الدروس استعداداً لأي أحداث قد تفاجئنا في المستقبل. وهذه العلوم تتراوح بين علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي وعلم السياسة وعلم الإدارة.

ربما كان الحدث الأهم في ثورة 25 يناير هو خروج قطاعات واسعة من الجماهير الغفيرة بشكل عفوي بلغ ذروته في جمعة الغضب يوم 28 يناير، وهذا الخروج العفوي للجماهير، هو المؤشر الأساسي على أن ما حدث في 2011 هو ثورة شعبية بامتياز. هذا التحرك الجماهيري العفوي الذي يستعصي على الشرح أو الفهم هو المؤشر الأساسي على أننا بصدد ثورة. تشرح عالمة السياسة الألمانية حنة أرندت ذلك باستفاضة في كتابها "في الثورة" الصادر في عام 1963، والذي نشرت المنظمة العربية للترجمة ترجمة عربية له في عام 2008.

الثورة وإنضاج الشرط الذاتي

والثورة عند أرندت هي حدث لا يمكن لأي قوة بشرية إيقافه، فهي ليست تمرداً أو عصياناً يمكن التعامل معه بوسائل غالبا ما تكون متاحة للسلطة الحاكمة، وهي حدث لا يمكن التغلب عليه بحدث مضاد، وعليه فإن انتصار الثورة المضادة ينفي عن الحدث صفة الثورية لأنه لم يؤد إلى إحداث التغيير، فالثورة لا يعترف بها كثورة إلا عندما تؤدي إلى تغيير، لكنها ليست مجرد تغييرات تحدث، وإنما الثورات هي التي تحدث تغييرات تأتي بجديد، وترتبط بفكرة البداية الجديدة لمسار التاريخ.

لكن ثمة شرط آخر أساسي في تعريف أرندت للثورة يتمثل في ارتباطها الوثيق بفكرة الحرية، فالحرية هي الغاية الأساسية للثورة، وهي التي تخرج من تعريف الثورة أي حدث عنيف يؤدي إلى التغيير لا تكون الحرية هي هدفه وغايته، وبهذا المعنى تكون الثورة في نظر أرندت هي إعادة السلطة لأصحابها الحقيقيين.

ثمة نظريات كثيرة ظهرت من دراسة الثورات الكبرى في العالم، جميعها ركز على الأسباب المباشرة والظاهرة للثورات أو على آليات الثورة وأسباب نجاحها أو فشلها، وتربط بين التغييرات العنيفة التي تحدثها الثورات بالمسألة الاجتماعية والرغبة في القضاء على التفاوت بين الأغنياء والفقراء. وارتبطت هذه النظريات الاجتماعية للثورات بتغير النظرة لمسألة التفاوت بين البشر ليس باعتباره قدر حتمي وإنما كظاهرة نشأت في لحظة محددة من تاريخ البشر، وهي ليست مسألة أزلية ولكن من الممكن تغييرها.

ميدان التحرير في يناير ٢٠١١- أرشيفية
ميدان التحرير في يناير ٢٠١١- أرشيفية

هذه الدراسات التي قدمتها أرندت ودراسات أخرى قدمها ممارسون ثوريون مثل فلاديمير لينين زعيم الثورة البلشفية في روسيا 1917، أو ماو تسي تونج زعيم الثورة الصينية، أو الدراسات الأكاديمية التي تتبعت تطور مفهوم الثورة ذاته تشير إلى العلاقة الجدلية بين التنظيم وبين العفوية، فالعمل التنظيمي وبناء التنظيمات السياسية التي تعمل من أجل التغيير الجذري لا يقود بذاته إلى اندلاع الثورة، وإنما هو شرط ضروري لنجاح الثورة وتحقيق أهدافها، خصوصاً إذا اتسم هذا التنظيم بروح ثورية، وإذا ما طبقنا تعريف أرندت لا يكون التنظيم ثورياً إلا إذا كانت الحرية هدفه وغايته.

يرتبط بهذا الجدل مسألتان مهمتان في نظرية الثورة افتقرت إليهما ثورة 25 يناير، وكان غيابهما سبباً رئيسيا لانتصار الثورة المضادة التي ثبتت النظام القديم وأزاحت الثوار من المشهد. المسألة الأولى، هي غياب التنظيم الثوري، الذي يعرف في أدبيات الثورة بالشرط الذاتي لنجاح الثورة وربما لإشعال فتيلها، وغياب هذا التنظيم مسؤول عن رفع شعار التغيير في السنوات التي سبقت يناير دون التطرق إلى مضمون هذا التغيير ووجهته، وهو المسؤول عن افتقار الثورة للقيادة الثورية القادرة على ترجمة مطالب الجماهير إلى برنامج سياسي والعمل على تطبيقه. تُركت هذه المسألة للهياكل السياسية التي نشأت في حضن النظام القديم والتي تعد مكوناً أساسياً من مكوناته وتعمل وفق قواعد العمل المستقرة والمقررة سلفاً.

المسألة الثانية، هي غياب الأفق المعرفي للثوار، وهي مسألة مرتبطة بمسألة غياب الطليعة الثورية سواء بالمعني الفكري أو بالمعنى الطبقي الذي أشار إليه كارل ماركس في كتاباته المختلفة بدءً بالبيان الشيوعي، وغياب الأفق المعرفي والطليعة مسؤول إلى حد كبير عن غياب الوعي أو بناء وعي جديد لدى المشاركين في الثورة، لذا كان من السهل على النظام القديم أن يفرض من جديد على الميدان جدول الأعمال ذاته دون أن يُواجه بطرح جديد.

وبعد مرور 14 عاماً على هذا الحدث التاريخي لا تزال كل الشروط الموضوعية للثورة في مصر قائمة، بل ثبتتها التناقضات الناجمة عن السياسات التي أحدثت تغييرات جذرية في المجتمع، والتي يسترشد بعضها بنظريات مستمدة من علم الاجتماع السياسي، ولا يزال الشرط الذاتي للثورة بالمعنى الاجتماعي وبالمعنى السياسي غائباً، وفيما تعلم النظام الدرس، لم تتعلمه بعد أحزاب المعارضة التي لا تزال ترفع شعار التغيير دون إعطائه مضموناً أو وجهة، ولم تتعلم النخبة التي لا تزال غارقة في حالة من الضبابية وعدم وضوح الرؤية والعاجزة عن إنتاج رؤية بديلة.

قد يكون في هذا الحكم قدر من القسوة لكنه ضروري لعلنا ننتبه ونعي الدرس قبل فوات الأوان، ونبدأ في إنضاج الشرط الذاتي وأن تكون النخبة مستعدة للقيادة كي لا تتحول عفوية الجماهير إلى فوضى عارمة.

1 تعليق

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة