في خطوة جيوسياسية ذات دلالة عميقة، شهدت العاصمة الروسية موسكو، قبل أسبوع، توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة بين روسيا وإيران، وذلك في حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الإيراني مسعود بزشكيان. الأمر الذي يأتي في لحظة حرجة يشهدها النظام الدولي، حيث تتصاعد التوترات بين الشرق والغرب، وتزداد الحاجة لدى البلدين لتعزيز تحالفاتهما في مواجهة الضغوط الخارجية المتزايدة.
غموض يلف تفاصيل الاتفاقية
إلى الآن، يكتنف الغموض تفاصيل الاتفاقية الشاملة الموقعة بين موسكو وطهران، حيث لم يتم الكشف عن النص الكامل للاتفاقية أو تفاصيل بنودها بشكل رسمي.
ومع ذلك، أشارت تقارير إعلامية إيرانية إلى أن الاتفاقية تتكون من 47 مادة، وهو رقم يعكس مدى شمولية الاتفاقية وتغطيتها لمختلف جوانب التعاون الثنائي. وتشير التسريبات الأولية إلى أن الاتفاقية تتناول مجالات حيوية واستراتيجية لكلا البلدين، بما في ذلك التعاون الدفاعي والسياسي والتجاري، بالإضافة إلى مجالات البحث العلمي والتعليم والثقافة.
يثير هذا التكتم حول تفاصيل الاتفاقية تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذا النهج الحذر. وقد يكون السبب هو رغبة الطرفين في تجنب ردود فعل سلبية من القوى الإقليمية والدولية المعارضة لتعزيز العلاقات الروسية الإيرانية، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية الراهنة. كما قد يكون الهدف هو منح الطرفين مساحة للمناورة والمرونة في تنفيذ بنود الاتفاقية دون ضغوط خارجية.
بند الدفاع المتبادل المستثنى
على الرغم من الشمولية المتوقعة للاتفاقية، أكدت مصادر رسمية روسية وإيرانية أن الاتفاقية لن تتضمن بندًا للدفاع المتبادل، على غرار اتفاقيات مماثلة وقعتها روسيا مع دول أخرى مثل كوريا الشمالية وبيلاروسيا. نقلت وكالة الأنباء الروسية "تاس" عن المبعوث الإيراني تأكيده على هذا الجانب، ما يشير إلى أن إيران تسعى للحفاظ على استقلاليتها في السياسة الخارجية وتجنب الانخراط في تحالفات عسكرية قد تقيد حركتها.

ومع ذلك، لا يستبعد المراقبون إمكانية تعزيز التعاون العسكري بين البلدين في إطار الاتفاقية الشاملة، حتى بدون وجود بند دفاع متبادل رسمي. فقد أشار الرئيس الإيراني بزشكيان في تصريحات نقلتها شبكة RT الروسية إلى أن التعاون المستقبلي بين البلدين قد يشمل "جميع المجالات التي يمكننا فيها مساعدة بعضنا البعض ومن ضمنها المجالان العسكري والأمني". ويعكس هذا التصريح رغبة إيران في الاستفادة من الخبرات والقدرات العسكرية الروسية في تعزيز قدراتها الدفاعية، خاصة في مجالات مثل تطوير أنظمة الدفاع الجوي وتبادل الخبرات في مكافحة الإرهاب والتطرف.
إيران تريد التعاون لمواجهة التحديات المشتركة
في تصريحاته التي نقلتها وسائل الإعلام الروسية والإيرانية، أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على الأهمية الاستراتيجية للتعاون مع روسيا في مواجهة التحديات المشتركة التي تواجه البلدين على الساحة الإقليمية والدولية. قال بزشكيان: "علينا أن نتعاون حتى لا يتمكن العدو من تدميرنا بسهولة. يجب ألا يكون لدى العدو أي أوهام حول أنه يمكن التعامل معنا بسهولة".
يشير استخدام الرئيس الإيراني لمصطلح "العدو" إلى التحديات المشتركة التي يرى البلدان أنهما يواجهانها، والتي قد تشمل الضغوط والعقوبات الغربية، والتهديدات الأمنية الإقليمية، ومحاولات التدخل في شؤونهما الداخلية. ويعكس هذا الخطاب المشترك بين موسكو وطهران تقارب وجهات النظر بينهما بشأن التحديات الجيوسياسية الراهنة، ورغبتهما في تنسيق الجهود لمواجهتها بشكل فعال.
وقد أعلن الرئيس الإيراني، في مؤتمر صحفي عقب مباحثاته مع بوتين، أن البلدين اتفقا على إزالة كل العقبات التي تعترض تطوير العلاقات الثنائية في مختلف المجالات. ويشير هذا التصريح إلى وجود إرادة سياسية قوية لدى القيادتين الروسية والإيرانية لتذليل الصعوبات وتجاوز التحديات التي قد تعيق تعزيز التعاون بين البلدين.
وقد تشمل هذه العقبات قضايا تجارية واقتصادية، مثل تسهيل التبادل التجاري وإزالة الحواجز الجمركية، وتشجيع الاستثمارات المتبادلة في القطاعات الحيوية. كما قد تشمل العقبات قضايا سياسية ودبلوماسية، مثل تنسيق المواقف في القضايا الإقليمية والدولية، وتعزيز التعاون في المنظمات الدولية.
استقلالية إيران وأولوياتها الوطنية
من جانبه، سعى السفير الإيراني في موسكو، كاظم جلالي، إلى توضيح طبيعة الاتفاقية الشاملة وتميزها عن اتفاقيات الشراكة الأخرى التي وقعتها روسيا مع دول أخرى. وقال جلالي لوكالة تاس إن "جوهر هذا الاتفاق مختلف"، مؤكداً على أن "استقلال وأمن بلدنا، وكذلك الاكتفاء الذاتي" هي أولويات قصوى لإيران. وأضاف أن إيران "غير مهتمة بالانضمام إلى أي كتلة"، وأنها ستضمن أمنها الخاص.
وتعكس هذه التصريحات حرص إيران على التأكيد على استقلاليتها في السياسة الخارجية، وعدم رغبتها في أن تُصنف كجزء من أي تحالف أو كتلة دولية. كما تؤكد على أن التعاون مع روسيا يهدف إلى تحقيق المصالح الوطنية الإيرانية، وتعزيز قدرات البلاد في مختلف المجالات، مع الحفاظ على استقلالية القرار والسيادة الوطنية.
خلفية تاريخية معقدة للعلاقات الروسية الإيرانية
يأتي توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران في سياق تاريخي معقد ومتشابك للعلاقات بين البلدين. فقد شهد التاريخ فترات من الصراع والتوتر، وفترات أخرى من التعاون والتقارب.

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خاضت روسيا وإيران حروبًا متعددة، أسفرت عن سيطرة الإمبراطورية الروسية على مناطق واسعة في القوقاز ومنطقة بحر قزوين كانت خاضعة للحكام الفرس. وفي أوائل القرن العشرين، احتلت القوات الروسية أجزاء كبيرة من شمال إيران، مما ترك ذكريات مؤلمة في الذاكرة الإيرانية. وخلال الحرب العالمية الثانية، غزت القوات السوفيتية والبريطانية إيران، في خطوة أثارت المزيد من الشكوك وعدم الثقة بين البلدين.
خلال فترة الحرب الباردة، ازدادت التوترات بين روسيا وإيران، حيث كانت إيران حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة تحت حكم الشاه الإيراني، بينما كان الاتحاد السوفيتي خصماً أيديولوجياً للولايات المتحدة وحلفائها. وبعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ازدادت حدة التوتر، حيث انتقد الزعيم الإيراني آية الله روح الله الخميني الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على حد سواء.
وشهدت العلاقات الروسية الإيرانية تحولًا ملحوظًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. فقد أصبحت روسيا شريكًا تجاريًا مهمًا لإيران، وموردًا رئيسيًا للأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة، خاصة في ظل العقوبات الدولية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي.
وفي عام 2001، وقع البلدان اتفاقية تعاون شاملة استمرت لمدة 20 عامًا، وتم تجديدها تلقائياً لمدة خمس سنوات أخرى حتى عام 2026. كما لعبت روسيا دورًا محوريًا في البرنامج النووي الإيراني، حيث بنت أول محطة للطاقة النووية في بوشهر، وكانت جزءًا من الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 الذي هدف إلى كبح البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية.
تخوفات غربية من التعاون الروسي الإيراني
يثير تعزيز التعاون بين روسيا وإيران قلقًا متزايدًا في الغرب، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية الراهنة، والحرب في أوكرانيا، وتصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط. يرى بعض المحللين الغربيين أن هذه الشراكة قد تشكل تهديداً للمصالح الغربية، وتقوض جهود عزل روسيا وإيران على الساحة الدولية.
ومن بين المجالات التي تثير القلق الغربي بشكل خاص هو التعاون العسكري المتنامي بين البلدين، خاصة في مجال الطائرات المسيرة. فقد اتهمت أوكرانيا والغرب إيران بتزويد روسيا بطائرات مسيرة استخدمت في الهجمات على أوكرانيا، وهو ما تنفيه إيران وروسيا. كما يثير التعاون في مجال الطاقة قلق الغرب، خاصة في ظل سعي روسيا وإيران لتجاوز العقوبات الغربية وتعزيز نفوذهما في أسواق الطاقة العالمية.
ممر النقل الشمالي الجنوبي والطاقة في صلب الشراكة
يُعتبر ممر النقل الشمالي الجنوبي من أبرز المشاريع الاستراتيجية التي تقع في صلب الشراكة الروسية الإيرانية. ويهدف هذا المشروع إلى إنشاء ممر نقل تجاري يربط بين روسيا وإيران والهند عبر بحر قزوين، مما يسهل حركة التجارة بين هذه الدول وغيرها من الدول الإقليمية والدولية. ويُنظر إلى هذا المشروع على أنه وسيلة لمواجهة العقوبات الغربية، وتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول المشاركة.
كما يلعب قطاع الطاقة دورًا محوريًا في الشراكة الروسية الإيرانية. ففي ظل العقوبات الغربية التي تحد من وصولهما إلى الأسواق الغربية، يسعى البلدان إلى تعزيز التعاون في قطاع الطاقة، وتطوير مشاريع مشتركة في مجال النفط والغاز، وتبادل الخبرات والتكنولوجيا. ومن المتوقع أن تستثمر شركات روسية بشكل كبير في قطاع الطاقة الإيراني، مما سيساعد على تحديث وتوسيع قدرات هذا القطاع الحيوي.
التعاون العسكري وتأثيره على التوازنات الإقليمية
يشكل التعاون العسكري والدفاعي بين روسيا وإيران جانبًا مهمًا من الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. فقد أصبح البلدان موردين رئيسيين للأسلحة لبعضهما البعض، خاصة في مجال التقنيات العسكرية المتقدمة مثل الطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي.
وقد أثار تزويد إيران روسيا بالطائرات المسيرة مخاوف غربية بشأن تأثير هذه الطائرات على الصراع في أوكرانيا، وعلى التوازنات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. ويرى بعض المحللين أن هذا التعاون العسكري قد يعزز قدرات إيران العسكرية والإقليمية، ويحد من جهود الولايات المتحدة للحد من نفوذ إيران في المنطقة.
تحديات اقتصادية وآفاق مستقبلية للشراكة
على الرغم من الإرادة السياسية القوية لدى البلدين لتعزيز الشراكة الاستراتيجية، إلا أن هناك تحديات اقتصادية قد تعيق استدامة هذه الشراكة على المدى الطويل. فيعاني كلا البلدين من تحديات اقتصادية كبيرة، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية والتضخم وتقلبات أسعار النفط العالمية.
ومع ذلك، يرى مراقبون أن الشراكة الروسية الإيرانية لديها آفاق مستقبلية واعدة، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية الراهنة، وتصاعد التوترات بين الشرق والغرب. ومن المتوقع أن يتعزز التعاون العسكري بين البلدين في مجالات مثل مكافحة الإرهاب وضمان الاستقرار الإقليمي وتعزيز التعاون في تجارة الأسلحة. كما يُتوقع أن يستمر التعاون الاقتصادي في النمو، خاصة في قطاعات مثل الطاقة والنقل والتجارة.