إن التردد والتأخر في فتح المجال العام في مصر لا يعنيان فقط ضياع فرصة استغلال طاقات الشعب في مواجهة التحديات، بل يضاعفان من خطر تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية، ويهددان بخلق فجوة متزايدة بين الدولة ومواطنيها.
في ظل التحديات الراهنة، لا يمكن مواجهة الأخطار المحدقة بالمنطقة إلا بجبهة داخلية قوية، لا تتحقق إلا إذا شعر المواطنون بأنهم جزء من عملية صنع القرار وأن أصواتهم ذات قيمة وتأثير.
التردد في اتخاذ قرارات جريئة لفتح المجال العام، جنبًا إلى جنب مع التأخر في إعادة إحياء المسارات السياسية الحقيقية، يهددان بإضعاف الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة، ويفتحان الباب أمام استغلال القوى الخارجية والأطراف المناوئة لملء هذا الفراغ السياسي.
فغياب الحوار المجتمعي الجاد والنشاط الحزبي الفعّال يحوّل المشهد إلى ساحة خالية من أي تنوع أو حراك، مما يدفع المواطنين إما إلى العزوف عن المشاركة السياسية أو إلى البحث عن قنوات بديلة قد تكون غير مشروعة.
الإصلاح السياسي
لا يمكن أن يتحقق الإصلاح السياسي الحقيقي في مصر من خلال إعطاء بعض الشخصيات التي ربما تحمل آراء مختلفة أو معارضة للسلطة الحاكمة أو حتى مفكرين سياسيين واقتصاديين ذوي وجهات نظر مغايرة مساحات محدودة في الظهور الإعلامي، يتم منحها وفقًا للأهواء دون الاستماع الجاد لهؤلاء أو الأخذ بآرائهم بصدق.
مثل هذه الممارسات المصطنعة التي تغيب فيها الجدية تُفقد الحوار معناه وتفرغ الإصلاح من مضمونه الحقيقي، مما يجعل الخاسر في النهاية هو الشعب المصري والدولة المصرية ككل.
الغرف المغلقة لصناعة القرار في مصر، وإن كانت تدرك هذا الواقع وتعي مخاطره، فلا بد أن تعترف أن الوقت قد حان لنهج جديد. لا مجال لمزيد من التردد؛ إذ إن التغيير الجاد القائم على التعددية والشراكة الفعلية هو السبيل الوحيد لحماية الوطن وتأمين مستقبله.

النظر إلى تجارب الدول الأخرى التي شهدت ثورات شعبية يكشف كيف أن التردد والتأخر في إصلاح المجال السياسي وفتح المجال أمام التعددية السياسية أديا إلى تدهور هذه البلاد. في ليبيا، بعد الثورة وسقوط نظام معمر القذافي، فشلت القوى السياسية الجديدة في بناء نظام سياسي تعددي يسمح بمشاركة حقيقية للأحزاب والمجتمع المدني. هذا التردد في اتخاذ خطوات جريئة لإعادة بناء النظام السياسي والصراع على السلطة أدى إلى انقسام البلاد إلى حكومات متنافسة وصراعات مسلحة مستمرة حتى اليوم.
وفي العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين، عانى الشعب من تردد القوى السياسية في بناء نظام سياسي يمثل كافة مكوناته، مما أدى إلى تحويل البلاد إلى مسرح للتنازع الطائفي والصراع السياسي، واستنزاف الدولة. أما اليمن، فقد كان أمام فرصة لبناء نظام سياسي جديد بعد الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح، لكن التردد في إجراء إصلاحات حقيقية وتجاهل إشراك كافة القوى الوطنية بشكل متوازن أدى إلى نشوب صراعات داخلية حادة وتدخلات خارجية، حولت اليمن إلى ساحة حرب ودمرت مقدرات الدولة وشردت شعبها.
أيضًا، كان لهذا التردد والتأخر تأثيرات مدمرة على الأمن والاستقرار في هذه الدول، حيث فتح الباب أمام تسلل التيارات الدينية المتشددة، التي استغلت الفراغ السياسي والفوضى.
في ليبيا، على سبيل المثال، ظهرت الجماعات المسلحة المتشددة في ظل غياب الدولة المركزية، مما أدى إلى تصاعد العنف والنزاع. في العراق، ساعد التردد في فتح المجال السياسي على صعود تنظيم "داعش" وجماعات إرهابية أخرى، التي وجدت في الفراغ الأمني والضعف السياسي بيئة خصبة للنمو.
وفي اليمن، سمحت الفوضى السياسية بتسلل جماعة الحوثي المدعومة من إيران، مما زاد من تعقيد الأزمة وأدى إلى نزيف مستمر للدماء.
ومع ذلك، فإن قوة تماسك الشعب المصري، وإيمانه بوحدة أمته وأرضه، ومدى وعيه وعشقه لوطنه، هي التي وقفت حاجزًا قويًا ومنعت مصر من الانزلاق إلى مثل هذه السيناريوهات المؤلمة، رغم التحديات التي واجهتها.
ضمان نزاهة الانتخابات
على النقيض من هذه الأمثلة المؤلمة، تشكل الإصلاحات البرلمانية الكبرى التي شهدتها بريطانيا في القرن التاسع عشر نموذجًا ملهمًا للدول التي تسعى لإعادة بناء نظامها السياسي على أسس ديمقراطية.
في أوائل القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا تعاني من نظام سياسي يقصر حق التصويت على فئات محدودة من النخب الأرستقراطية، بينما كان غالبية الشعب مغيبين عن الحياة السياسية.
مع تزايد الضغوط الشعبية وتصاعد الاحتجاجات، تخلت بريطانيا عن ترددها وبدأت بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات السياسية الجريئة. كان قانون الإصلاح لعام 1832 البداية الحقيقية، حيث أعاد توزيع الدوائر الانتخابية بشكل أكثر عدالة، ووسع نطاق حق التصويت ليشمل طبقات جديدة من الشعب. تلت ذلك إصلاحات أخرى ساهمت تدريجيًا في بناء نظام ديمقراطي حديث ومستقر.
اليوم، تواجه مصر ظروفًا مشابهة في بعض جوانبها لما مرت به بريطانيا في تلك الفترة، حيث توجد فجوة بين الدولة والمواطنين، مع حاجة ماسة لإعادة بناء الثقة وتعزيز المشاركة السياسية.

التردد في اتخاذ قرارات إصلاحية كبرى قد يكلف البلاد الكثير، مثلما أثبتت التجارب التاريخية.
مصر بحاجة إلى إصلاحات جريئة تعزز دور الأحزاب السياسية القائمة، وتمنحها حرية العمل الحقيقي.
لا تحتاج البلاد إلى إنشاء أحزاب جديدة بقدر ما تحتاج إلى مساحة سياسية حقيقية تُتيح للأحزاب الموجودة أن تعمل بحرية وتقدم برامجها وتخوض الانتخابات بشفافية.
هذا المناخ السياسي الصحي سيعزز شعور المواطن بأنه شريك فعلي في حكم وطنه، و سيتيح له الاختيار بين خيارات سياسية واقعية.
إصلاح المجال السياسي ليس رفاهية، بل ضرورة لبناء دولة قوية قادرة على مواجهة تحدياتها الداخلية والخارجية. فتح المجال العام دون تردد، وضمان نزاهة الانتخابات، وإعادة الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة، سيؤسس لبيئة سياسية مستقرة قادرة على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
التردد والتأخر في اتخاذ هذه الخطوات لن يؤديا إلا إلى تفاقم الأزمات وتعميق الفجوة بين الدولة والشعب. الوقت قد حان لاتخاذ خطوات جريئة تعيد الحيوية للحياة السياسية في مصر، وتضعها على طريق النهضة الحقيقية، كما حدث مع بريطانيا التي استفادت من إصلاحاتها لتصبح نموذجًا في الاستقرار والتقدم.
إن إعادة بناء النظام السياسي في مصر سيكون الركيزة الأساسية لتماسك الجبهة الداخلية وضمان قدرة الوطن على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.