تمثل الجولة (الرابعة) من الاستعراض المعني بمراجعة ملف الدولة المصري لحقوق الإنسان، إحدى المناسبات الكبرى التي تنشغل فيها مؤسسات الدولة الرسمية وقطاعات مدنية وسياسية واسعة، بالتفاعل مع قضايا ومجالات حقوق الإنسان بصورة تعزز من قيمة الملف، والقدرة على اقتراح ومناقشة التحسينات الممكنة لضمان تمتع كافة المواطنين بحقوقهم على قدم المساواة ودون تمييز.
وقد أتاحت الأيام الماضية بما حملته من زخم وأنشطة فرصة جيدة للاطلاع على الملف الوطني المقدم من الحكومة المصرية، متضمناً إنجازات الدولة خلال السنوات (الخمسة) الماضية في ملف حقوق الإنسان ومدى تجاوبها وتنفيذها لما قبلت به من توصيات خلال الدورة السابقة عام 2019، فضلًا عن نسخة التقرير الأممي الذي أعده الفريق العامل، متضمنًا توصيات الأطراف والمنظمات أصحاب المصلحة، إضافة لعدد من التقارير الصادرة عن منظمات المجتمع المدني في الداخل والخارج.

وبالنظر لأهمية الملف وضرورات النقاش والحوار المجتمعي، حول ما ورد بتلك الأوراق من تقييمات أو توصيات تستهدف بالأساس، تحسين بيئة الممارسة الوطنية وتحدد مجالاتها، فإنني أوجز هنا مجموعة من الملاحظات الأساسية حول تلك الأوراق تمهيدا لنقاش متعمق وتحليلي حول محتواها وتوجهاتها:
أولًا : أنه بالرغم من تعدد وتنوع الأوراق المقدمة من حيث تقييمها للحالة الحقوقية المصرية و اختلاف منطلقاتها وغاياتها إلا أن التقرير الوطني (الرسمي) تمايز عنها جميعا بقوته وثراء معلوماته ومجالاته مع وجود جهد متراكم ومتنوع المجالات بصورة مدهشة، تكشف عن جهد رسمي حثيث في العمل على الاستجابة لتوصيات الاستعراضات السابقة وترسيخ ثقافة الحقوق، ومعالجة المثالب المرتبطة بالبعض منها بما يجعل من تلك الوثيقة أداة مجتمعية بالغة القيمة في تعزيز مساحات الحوار وتوافقات الأداء بين كافة المؤسسات الرسمية والأهلية.
افتقاد المعلومات الموثقة
ثانيًا : افتقاد الكثير من الدوائر الحقوقية والمدنية للمعلومات الموثقة والمرتبطة بخطة ورؤية الحكومة لمعالجة ملف حقوق الإنسان والأنشطة المنفذة به ما كان سببًا في عديد من المواقف لتبني مواقف نقدية غير مدققة أو حقيقية، وهو أمر يعود لعدم كفاءة أدوات وهياكل التوعية والإعلام الرسمي وأجهزة الدولة، في تبني خطط ومنهجيات تسويقية تستهدف المواطن وتدعم ممارسته وتمتعه بتلك الحقوق.
ثالثًا : سيطرة وتحكم نمط المكايدة السياسية، على صياغات وتوصيات بعض التقارير المقدمة، من المنظمات الحقوقية المتواجدة خارج الأراضي المصرية، والتي مثلت بعضها فرضيات لا يوجد دليل على مصداقيتها أو مشاهدات توثق لحدوثها، فعلى سبيل المثال، فقد تضمنت تلك التقارير الحديث عن عدد من الملفات والفجوات التي كانت موضع اعتراف من الدولة بحاجتها إلى مزيد من الجهد والتطوير إلا أن طريقة الصياغة وانتقائية الوقائع والشخوص افقدت التقارير لصبغتها الحقوقية وحولتها لبيانات لا تصلح إلا أن تكون صادرة عن تنظيمات وتيارات عقائدية وسياسية وبما صعب من ممكنات التشارك والتعاون في سبيل العمل على تحويلها لواقع ملموس على الأرض.
رابعًا : افتقاد الحراك الوطني الموجود داخل الملف لتعزيز حالة حقوق الإنسان، لأدوات التسويق السياسي المحترف والموضوعي بما يسمح للمواطنين، بالتعرف على معززات الممارسة والاشتباك مع ملفات القصور، الأمر الذي كان سبباً، في شيوع مناخ من الضبابية وتزييف الحقائق، وتراكم الاتهامات غير الواقعية، في العديد من الحالات والمواقف.
خطابات ثنائية التوجه
خامسًا : تبني بعض المنظمات الحقوقية لخطابات ثنائية التوجه في تفاعلها مع الملف المصري، كسمة ظهرت بوضوح في بعض تقارير الظل المقدمة من منظمات الداخل، بصفة رئيسية، حيث تبني قادتها في الحوار مع الإعلام والحديث المفتوح لوجهات نظر وآراء أتى معظمها يشيد ويتملق المؤسسات الرسمية بعكس ما ظهر في تقريرها الموازي من انتقادات ومطالبات بمواقف وقضايا لم يرد لها أي ذكر خارج هذا التقرير بما نال كثيرا من قدرها ومكانتها وموضوعيتها.

سادسًا : افتقاد معظم تقارير الظل المقدمة للمنهجية الموضوعية، في طرح البدائل والتوصيات القابلة للتطبيق وفقا لمحددات البيئة والثقافة الوطنية، واعتمادها على قوالب جامدة، وهو ما يمكن تفهم مسبباته بالنظر لكون منظمات الخارج لا تسعى بالأساس للمساهمة في معالجة المثالب والنواقص بقدر ما تستهدف تشويه الصورة والتنديد بالدولة، بينما منظمات الداخل تعاني من كفاءة الممارسة وفجوة التخصص بما يجعلها تركن للنقل عن النموذج الأممي ومفردات التقارير الصادرة عن الجهات الأممية والاستعراضات السابقة.
في النهاية تبقى النقاط السابقة مجرد إشارات أولية تحتاج لمزيد من التفاعل والنقاش حولها سعيا لمنهجية فاعلة ومستدامة للتعامل مع الملف الحقوقي وضمان كفاءة أدوات ومؤشرات رصد وقياس التطور والاستجابة لما تقبل به الدولة من توصيات.
ونبقى مع الملف.
-------------
*كاتب المقال: مدير المجموعة المصرية للدراسات البرلمانية