إذا كانت فترة ولاية دونالد ترامب الثانية تشبه فترة ولايته الأولى، فإن الرئيس الأمريكي القادم لن يعزز قضية حقوق الإنسان. ومن المرجح أن تضر سياسته الخارجية بالقيم الديمقراطية في جميع أنحاء العالم أكثر من حمايتها. ولكن على الرغم من أن السنوات الأربع المقبلة قد تصبح قاتمة، إلا أن السنوات الأربع الماضية لم تكن نعمة لحقوق الإنسان. لقد فشلت الولايات المتحدة في اختبار حقوق الإنسان، كما تقول سارة ياجر، مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش في واشنطن.
تقدم ياجر تحليلًا نقديًا لسياسة الولايات المتحدة تجاه حقوق الإنسان في عهد الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن. وتجادل -في هذا التحليل الذي نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية- بأن كلا الرئيسين، على الرغم من الاختلافات الظاهرية في النهج، قد فشلا في الارتقاء إلى مستوى التحدي المتمثل في تعزيز حقوق الإنسان على مستوى العالم، بل وفي بعض النواحي، قوّضا هذه القضية.
يستكشف هذا الاستعراض المطول حجج ياجر بالتفصيل، مع التركيز على نقاط القوة والضعف في تحليلها.
وعود بايدن المتلاشية
تبدأ ياجر بتسليط الضوء على التباين الصارخ بين وعود بايدن خلال حملته الانتخابية والتطبيق الفعلي لسياسته الخارجية. تذكر كيف انتقد بايدن بشدة تقارب ترامب مع "المستبدين في العالم" وتعهد بجعل السعودية "منبوذة" بسبب دور ولي العهد محمد بن سلمان في قتل جمال خاشقجي.
عند توليه منصبه، أكد بايدن أن حقوق الإنسان ستكون حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأمريكية.
تشير ياجر إلى الخطوات الأولية التي اتخذها بايدن، مثل إعادة الانضمام إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة واتفاق باريس للمناخ، بدت حينها دليلًا على التزامه المبدئي.
ولكن، سرعان ما تبدلت الأمور.

ازدواجية المعايير الأمريكية في أوكرانيا وغزة
توضح ياجر أن إدارة بايدن بدأت في التعامل مع التزاماتها المعلنة تجاه حقوق الإنسان كعبء بدلًا من اعتبارها مصدر قوة. وتنتقد تردد بايدن في مواجهة الحلفاء بشأن انتهاكاتهم لحقوق الإنسان، وتجاهل الإدارة للمعايير القانونية الدولية، وصولًا إلى قرار إرسال ألغام مضادة للأفراد إلى أوكرانيا، وتزويد إسرائيل بالسلاح رغم انتهاكاتها في غزة. وهو ما تعتبره ياجر تحولات تمثل نكوصًا عن المبادئ التي رفعها بايدن عند توليه السلطة.
وتركز ياجر بشكل خاص على ازدواجية المعايير التي تجلت في تعامل بايدن مع الحرب في أوكرانيا والصراع في غزة. وتشير إلى أن بايدن كان صريحًا في إدانة جرائم الحرب الروسية ودعم الجهود الدولية لمحاسبة روسيا، بينما تجاهل ودافع عن سلوك مماثل من قبل إسرائيل في غزة وعرقل جهود المحاسبة الدولية.
وترى ياجر أن هذا التطبيق غير المتسق للقيم الأمريكية لم يمر دون أن يلاحظه أحد، وأن غياب حقوق الإنسان من خطاب الإدارة الأمريكية بعد أن كانت جزءًا أساسيًا من استراتيجيتها المعلنة كان واضحًا. وتستشهد بمقال لمستشار الأمن القومي جيك سوليفان في مجلة "فورين أفيرز"، ركز فيه على القوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة دون ذكر حقوق الإنسان كدليل على هذا التحول.
تداعيات تجاهل حقوق الإنسان
تحذر ياجر، في تحليلها، من أن استبعاد حقوق الإنسان من السياسة الخارجية الأمريكية، كما فعل بايدن وكما بدا في سياسات ترامب بشكل أكثر حسمًا، سيضر بمصالح الولايات المتحدة والنظام الدولي. وتؤكد أن التطبيق الانتقائي للقواعد المقبولة دوليًا يقوض مصداقية الولايات المتحدة ويقلل من نفوذها. وأن سلوك الولايات المتحدة، باعتبارها مهندس النظام العالمي الحديث، يحمل وزنًا إضافيًا، وأن تخليها عن القواعد يعطي الضوء الأخضر للقادة المستبدين لانتهاكها.
اقرأ أيضًا: إمبراطور الولايات المتحدة القادم
خطر الدعم الأمريكي لأنظمة شعوب تسعى للحرية
تنتقل ياجر لمناقشة المخاطر الكامنة في التحالف مع الدول التي تنكر حقوق الإنسان. وتصف هذه الدول بأنها "شركاء غير مستقرين" وأن شعوبها ستسعى في النهاية إلى الحرية. وتؤكد أن تجاهل انتهاكات حقوق الإنسان يؤدي إلى دورات من الصراع، تعطل النظام الاقتصادي العالمي، وتزيد من صعوبة مكافحة الإرهاب. وتذكر كيف انتقد بايدن في البداية تقارب ترامب مع الديكتاتوريين، وتعهد ببناء تحالف أقوى بين الديمقراطيات، لكنه سرعان ما تخلى عن هذه الوعود.
زيارة بايدن للسعودية ومعضلة النفوذ
تنتقد ياجر زيارة بايدن للسعودية ولقائه مع ولي العهد محمد بن سلمان، مشيرةً إلى أنها لم تحقق هدفها في خفض أسعار النفط. وتجادل بأن الأنظمة المستبدة لا تتأثر بالمحادثات الهادئة بل تحتاج إلى مواجهة عواقب وخيمة، وهو ما لم يكن بايدن مستعدًا لفرضه. وتوضح أن القمع في السعودية ازداد بعد زيارة بايدن، وأن الإدارة الأمريكية ربطت سمعتها بدولة استبدادية من خلال التفاوض على تحالف دفاعي معها.
التعامل مع الإمارات وتجاهل أزمة السودان
تنتقد ياجر بالمثل استقبال بايدن لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة في واشنطن، وتحديث التعاون الدفاعي الثنائي، في الوقت الذي تتهم فيه وزارة الخارجية الأمريكية الإمارات بتأجيج "الإبادة الجماعية" في السودان من خلال تزويد قوات الدعم السريع بالسلاح.
وترى أن الولايات المتحدة أضاعت فرصة استخدام نفوذها للضغط على الإمارات لوقف إرسال الأسلحة إلى السودان، وأن إنفاق ملايين الدولارات على المساعدات الإنسانية لا يعوض عن الفشل في اتخاذ إجراءات دبلوماسية أقل تكلفة لمنع المزيد من المعاناة.
وتُشير ياجر إلى بعض الحالات التي حقق فيها بايدن نتائج إيجابية عندما اتخذ موقفًا صارمًا بشأن حقوق الإنسان، مثل إفراج السعودية عن بعض النشطاء بعد وصفها بـ "المنبوذة"، وتأخر صرف جزء من المساعدات الأمنية لمصر مما أدى إلى إطلاق سراح بعض السجناء السياسيين. لكنها تنتقد قرار بايدن بالتنازل عن شروط حقوق الإنسان واستئناف صرف المليار دولار لمصر كمكافأة على جهودها الإنسانية في غزة، مؤكدةً أن سجل حقوق الإنسان في مصر هو الأسوأ منذ عقد.

تكلفة سياسة القوى العظمى
تنتقد ياجر أيضًا رغبة بايدن في جذب القوى الوسطى بعيدًا عن الصين وروسيا على حساب حقوق الإنسان. وتوضح أن واشنطن تجنبت التعبير عن استياء جدي من انتهاكات حقوق الإنسان في دول مثل الهند وتايلاند خوفًا من توجهها نحو بكين أو موسكو.
وتعتبر ياجر أن هذه الدول استغلت هذا الوضع لمواصلة القمع الداخلي مع الحفاظ على العلاقات مع منافسي الولايات المتحدة. وتستشهد باستقبال البيت الأبيض لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي رغم اتهامات بتورط عملاء حكوميين هنود في مؤامرة لقتل ناشط سيخي في الولايات المتحدة كدليل على هذه السياسة.
كما تنتقد تعامل إدارة بايدن المتساهل مع انتهاكات حقوق الإنسان في تايلاند بسبب أهمية البلاد في التخطيط العسكري الأمريكي في المحيط الهادئ. وتوضح أن تايلاند، التي كانت ملاذًا للمعارضين، لم تعد كذلك، وأن الحكومة التايلاندية تتجاهل التهديدات بالاضطهاد عبر الحدود أو تساعد الحكومات الأجنبية في استهداف مواطنيها.
وترى ياجر أن الولايات المتحدة كان بإمكانها فعل المزيد بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في تايلاند دون الإضرار بالعلاقات الثنائية.
جهود فردية في مواجهة سياسات عليا
ومع ذلك، تشير ياجر إلى جهود بعض المسؤولين الأمريكيين، مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، في إثارة قضايا حقوق الإنسان، وإلى بعض النجاحات المحدودة مثل إطلاق سراح سجناء سياسيين في فيتنام وتخفيض المساعدات لتونس وفرض عقوبات على شركات بيع برامج التجسس.
وتذكر أيضًا جهود السفراء الأمريكيين الشجعان، مثل السفير في المجر، في تحدي القمع. لكنها تؤكد أن هذه الجهود كانت ذات تأثير جيوسياسي محدود، وأن صانعي القرار الكبار كانوا يتجاهلون حقوق الإنسان عند اتخاذ القرارات ذات الأهمية. وتنتقد تأخر تعيين مساعد وزير الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل لمدة ثلاث سنوات ونصف من ولاية بايدن كدليل على عدم أولوية هذا الملف.
وتوضح ياجر كيف تم تقويض حتى التقدم الطفيف بسبب قرارات سياسية عليا. وتستشهد بتقرير وزارة الخارجية الذي اتهم القوات الإثيوبية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن المسؤولين الأمريكيين سمحوا بعد ثلاثة أشهر بالاستثمار الاقتصادي الأجنبي في إثيوبيا وتجاهلوا اتخاذ إجراءات بديلة لمواجهة الانتهاكات.
كذلك، تنتقد عدم محاسبة دول مثل مصر والهند ورواندا على استهداف منتقديها في الولايات المتحدة ومعاقبة عائلاتهم في الداخل، رغم جهود مكافحة الاضطهاد عبر الوطني.
تناقضات صارخة في أوكرانيا وغزة
تصل ياجر إلى ذروة انتقادها لازدواجية معايير بايدن في التعامل مع الحرب في أوكرانيا وغزة. وتوضح كيف طبقت إدارة بايدن القانون الدولي بشكل انتقائي، حيث قادت جهود طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان ودعمت جهود المحكمة الجنائية الدولية في أوكرانيا، بينما امتنعت عن فعل الشيء نفسه فيما يتعلق بإسرائيل في غزة. وهي تعتبر دعم بايدن لحرب الحكومة الإسرائيلية في غزة الموقف الأكثر نفاقًا والأكثر ضررًا بالقانون الدولي.
اقرأ أيضًا: ما نعرفه عن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة
وتنتقد أيضًا قدرة وزارة الخارجية الأمريكية على تحديد وإدانة جرائم حرب روسية محددة، بينما زعمت أنها لا تستطيع التحقق من أي حالة محددة لانتهاك إسرائيل للقانون الدولي في غزة، رغم الأدلة الواسعة التي وثقتها منظمات حقوق الإنسان. وتصف الدمار في غزة بأنه يفوق أي منطقة حضرية أخرى في التاريخ الحديث، وتشير إلى أعداد الضحايا والنازحين الهائلة. وتؤكد أن بايدن رفض استخدام شحنات الأسلحة الأمريكية كأداة ضغط لتغيير سلوك إسرائيل، ثم انتهك القانون الأمريكي بالاستمرار في إرسال الأسلحة.

تجاوز القانون الأمريكي وتشجيع التجاوزات
وتحذر ياجر من أن تجاوز التشريعات الأمريكية يعطي الرؤساء المستقبليين ترخيصًا لفعل الشيء نفسه، وأن القواعد الدولية المصممة لحماية المدنيين تتدهور عندما يتمكن حليف وثيق للولايات المتحدة من انتهاكها دون عواقب. وتذكر رفض بلينكن الإجابة عن أسئلة حول التزام إسرائيل بالقانون الدولي في غزة، وتشير إلى أن الإدارة الأمريكية توقفت تقريبًا عن إدانة جرائم الحرب الروسية علنًا.
كما تنتقد قرار إدارة بايدن إرسال ألغام مضادة للأفراد إلى أوكرانيا، وهو سلاح محظور بموجب معاهدة دولية وقعت عليها 164 دولة. وتذكر أن بايدن وصف رفع ترامب للحظر السابق على هذه الألغام بأنه "متهور".
وترى ياجر أن تبرير بايدن لهذه الخطوة بحماية السيادة الأوكرانية هو نفس التبرير الذي استخدم لإرسال القنابل العنقودية، وأن تجاهل هذه المعاهدات لن يؤدي إلا إلى تعريض حياة المزيد من المدنيين للخطر وتقويض المعايير الإنسانية.
وبينما تذكر جهود وزير الدفاع لويد أوستن لتطوير بنية تحتية لتخفيف الأضرار المدنية في النزاعات، فأنها ترى أن تجاهل جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة قد يجعل الدول الأخرى لا تأخذ الولايات المتحدة على محمل الجد في مسائل حماية المدنيين والالتزام بالقانون الإنساني الدولي.
ترك إرثًا مشوهًا
ثم تختتم ياجر تحليلها بالتساؤل عن سبب تخلي بايدن عن حقوق الإنسان كمبدأ في السياسة الخارجية الأمريكية. وترجح أن يكون السبب هو أنه لم يؤمن أبدًا بأن حماية حقوق الإنسان في الخارج مصلحة أمريكية مركزية، أو أنه أدرك صعوبة القرارات بعد توليه منصبه.
ومهما كان السبب، ترى ياجر أن تناقضات بايدن بشأن حقوق الإنسان وسيادة القانون قد جعلت هذه المبادئ عرضة لمزيد من التدهور في ظل رؤساء المستقبل وقادة العالم الآخرين. وتحذر من أن استمرار الولايات المتحدة في خفض المعايير سيترك عددًا قليلًا من المدافعين عن النظام القائم على القواعد، وهو ما يخدم مصالح الصين وروسيا.
وتؤكد أن الميزة النسبية للولايات المتحدة كانت استعدادها للدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على نظام عالمي يخدم مصالحها، وأن تخلي بايدن عن هذه الميزة قد خفض مستوى الولايات المتحدة إلى مستوى خصومها.