علمانيون ورهبان: من قاد التغيير في الكنيسة الأرثوذكسية؟(3)

"هو الذي صنع الطائفة القبطية فرفعها من مستواها الضعيف الذي كانت فيه إلى مستوى أسمى منه بكثير، فالجمعيات والمدارس والمنشآت الخيرية القبطية، يرجع الفضل في أكثرها له هو أكثر مما يرجع لأي شخص آخر، كما يرجع الفضل له في فتح أبواب الوظائف العامة للأقباط أسوة بالمسلمين".. يقول محمد حسنين هيكل في كتابه "تراجم مصرية وغربية" عن بطرس باشا غالي مؤسس المجلس الملّي وأبرز العلمانيين الذين ساهموا في حياة مسيحيي مصر. 

 

انتهت الحلقة السابقة من علمانيون ورهبان بوفاة المعلم إبراهيم الجوهري، في نهاية القرن الثامن عشر، وخلفه المعلم جرجس الجوهري، وانتهى نسبيًا عصر الاسم الواحد للأرخن الممثل للطائفة، كان هذا في ظل عدم استقرار وتخبط شديد في المشهد السياسي.

كانت مصر تابعة اسميًا للدولة العثمانية، لكنها لم تكن تحت سيطرتها الكاملة، إذ كانت السلطة الفعلية بيد المماليك، وهم مجموعة من القادة العسكريين الذين قدموا في الأصل كعبيد، لكنهم تمكنوا من بسط نفوذهم والتحول إلى طبقة عسكرية قوية، وكان من أبرز الزعماء المماليك علي بك الكبير ومراد بك وإبراهيم بك، الذين سيطروا على البلاد وأداروا شؤونها كأنهم حكام مستقلون، غير أن السلطة كانت موزعة بينهم بشكل غير مستقر، حيث كان كل قائد يسعى إلى توسيع نفوذه وبسط سيطرته، ما خلق أجواء من المنافسة الحادة بينهم، عطفًا على الأوضاع الاقتصادية المنهارة، كل هذه المقدمات كانت نهايتها، محتل جديد تمثل في الحملة الفرنسية على مصر.

أثناء وجود الحملة الفرنسية لمع اسم المعلم يعقوب حنا، والذي لم يكن اسمه يتردد بين جدران الكنائس فقط كحال من سبقوه إنما تردد على نطاق أوسع بكثير، حيث بدأ حياته كأي شاب مسيحي يتم معاملته في بلده معاملة الدرجات الدنيا.

كسب تمردًا وعنفوانًا وتميز بذكائه وقدراته الإدارية، ما أهله للعمل في مجال جمع الضرائب، حتى نجح في هذا المجال وأصبح شخصية بارزة ضمن طبقة الأقباط العاملين في الإدارة العثمانية، وجعله يكتسب نفوذًا متزايدًا في مجتمعه، خصوصًا بين الأقباط الذين نظروا إليه كرمز للمساهمة في الشؤون العامة، كما عمل لدى علي بك الكبير الذي سمح له بتعلم الفروسية بعدما اختبر مواهبه القتالية، وكان هذا الأمر طفرة في ظل المعاملة المتدنية التي يتلقاها الأقباط في مصر.

وبحسب كتاب تاريخ الأمة القبطية: "سار يعقوب هذا في خطة تُخالف ما كان عليه أبناء جنسه من حيث الهدوء والسكينة والصبر والاحتمال وفداء أرواحهم وأعراضهم في بعض الأحوال ببذل المال وخالف أبناء طائفته في زيهم وحركاتهم، واتخذ امرأة من غير جنسه(غير مسيحية)".

كان موقف الكنيسة من يعقوب محددًا بالرفض لخطاه الجامحة واختلافه الأثير، ووصل في المشاحنات إلى تحدي البابا وتعنيفه بعدما كرر البطريرك نصائحه ليعقوب أن يبتعد عن أحلامه الخطيرة، ويذكر "الجبرتي" أن ماكان يحسبه البطريرك تهورًا وخروجًا عن الحد من قبل يعقوب كان الشيء الذي حفظ حياته وحياة الأقباط عند رحيل الفرنسيين من مصر.

كل هذه التركيبة العقلية والبدنية ليعقوب جعلته يتعاون مع الفرنسيين وينشد فيهم التغيير من الذل الذي يلاقيه هو وأبناء طائفته، وأن يسعى لطرح قضية الاستقلال بعيدًا عن الحكم العثماني، فتحالف معهم وألف جيشًا من الأقباط تحت رعايتهم وكانوا نحو ألفين شابًا مدربين ومسلحين، وأسماه "الفيلق القبطي" ورقاه اللورد مينو إلى رتبة جنرال، وعظمت مكانته ومكانة جيشه أيام الحملة الفرنسية، واستطاع أن يقاوم تهديدات الرعاع على الفتك بالمسحيين أثناء ثورة القاهرة الثانية، ولما فشلت الحملة على مصر لم يأمن لغدر العثمانيين وقرر أن يسافر مع الحملة ليعرض قضيته خارج البلاد لكن الحظ لم يسعفه ومات في الطريق.

من اليمين.. البابا كيرلس الرابع وحبيب جرجس مؤسس مدارس الأحد
من اليمين.. البابا كيرلس الرابع وحبيب جرجس مؤسس مدارس الأحد

هكذا بدأت السنوات الأولى في القرن التاسع عشر، اختفت الأسماء البارزة من العلمانيين وبدأت العودة التدريجية لتمثيل البطريرك للطائفة بشكل ملحوظ، وكان أبرز البطاركة في هذه الفترة البابا كيرلس الرابع والملقب بـ "أبي الإصلاح"، ورقمه 110 في الترتيب البابوي، رُسم بطريركًا عام 1847 وظل على كرسي مارمرقس حوالي 7 سنوات، وبحسب موسوعة تاريخ البطاركة، فهو السبب في تمدن الشعب القبطي وترقيه.

اهتم بالتعليم فأنشأ المدرسة القبطية الكبرى في البطرخانة، ومدرسة ثانية في حارة السقايين، وأنشأ مكتبات ومطبعة واهتم بتعليم البنات اهتمامًا شديدًا وناضل من أجل حقوقهن وفرض مساواتهن في الميراث بالذكور، وسعى لحصول المسيحيين على مواطنتهم الكاملة من خلال إلغاء الجزية والمشاركة في الجيش، وتقدمت الأمة القبطية في عهده وظهرت ثمار مدارسه فيما بعد، ولا نعلم حتى اليوم أي يقين بخصوص موته، هل كانت طبيعية أم مات مسمومًا أم من بعض الرهبان أو قتله الخديوي.

استكمل نفس الطريق البابا ديمتريوس الثاني الذي خلفه عام 1862، وتذكر السيرة الرسمية عنه أنه أكمل بناء الكنيسة المرقسية الكبرى كما شيد جملة مبان في البطريركية وفي ديره بنواحي أتريس، وفي سنة 1869، كما حضر الاحتفال بفتح قناة السويس وقابل السلطان عبد العزيز،  وعندما تقدم منه للسلام عليه، قبله على صدره ففزع السلطان من ذلك، فوثب الحجاب عليه ثم سألوه قائلين: لماذا فعلت هكذا؟ فقال: أن كتاب الله يقول: قلب الملك في يد الرب (أم 21: 1)، فأنا بتقبيلي هذا قد قبلت يد الله، فسُرّ السلطان من حسن جواب البابا وأنعم عليه بكثير من الأراضي الزراعية لمساعدة الفقراء والمدارس، وهو موقف دال على كيف سار نهج البابا ديمتريوس في التعامل مع الحكام لكسب ودهم وبالتالي تحقيق مكاسب شعبية وكنسية في وقته، وتوفي في عام 1870، ولم يذكر في عصره صراعات مدوية بينه وبين العلمانيين. 

 

للإطلاع على الحلقة الأولى:علمانيون ورهبان: كيف تدير "جماعة المؤمنين" الحوار فيما بينها؟ (1)

شهد كرسي مارمرقس فراغًا لمدة أربعة أعوام، منذ 1870 حتى عام 1874  وكان الأنبا مرقص مطران البحيرة وهو القائم على إدارة شئون الأقباط، لحين انتخاب بطريركًا جديدًا، وفي الوقت نفسه بدأت ثمار النهضة التعليمية التي قادها البابا كيرلس الرابع تظهر على الساحة القبطية وبرزت الطبقة الوسطى وعلي شأنها، فظهر عدد من الشباب المتعلم والمترقي، كان أهمهم بطرس غالي، الذي عمل في مدرسة حارة السقايين، ويذكر كتاب "تراجم مصرية وغربية"، أن بطرس غالي كان في أثناء دراسته مثلًا للذكاء ولقوة الذاكرة منقطعة النظير، وكان يكفيه أن يقرأ ما يُدرَّس له مرتين أو ثلاث مرات ليستظهره استظهارًا تامًّا، ويسرت له قوة ذاكرته العلم باللغات المختلفة، فقد أتقن العربية والفرنسية والتركية والفارسية، ثم إنه تعلم اللغة القبطية بعد الثلاثين من سنه.

وأعانه في الحياة إلى جانب ذكائه وقوة ذاكرته صحة متينة كان يدل عليها طول قامته وعضله المفتول، كما كان بريق عينيه بريقًا عجيبًا يدل على ذكائه وحيلته؛ لذلك لم يكد يتخطى أوليات الشباب حتى عرفه أولو الأمر يومئذٍ وعهدوا إليه بأعمال كبيرة، فدخل في مسابقة حين كان مدرسًا بمدرسة حارة السقايين انتقل بها إلى وظيفة كاتب بمجلس تجار الإسكندرية الذي حلت المحكمة المختلطة بعد ذلك محله، وجعل يرتقي من وظيفته هذه حتى صار رئيس كتاب المجلس الذي حكم سنة 1873 في قضية ضد مصلحة أحد المحسوبين على إسماعيل باشا المفتش، وإذ كان مجلس التجار تابعًا لنظارة الداخلية؛ فقد أوصل المفتش الأمر إلى ناظرها شريف باشا وأبلغه أن بطرس غالي كان صاحب اليد في ذلك، فدعا الناظر بطرس إليه فأعجبته مناقشته كما أعجب بمعرفته للغات؛ ولذلك نقله من عمله وعينه رئيسًا لكتاب نظارة الحقانية ومنها ترقى حتى وصل إلى منصب رئيس وزراء مصر.

وفي عام 1872 ظهرت الجمعية الإصلاحية القبطية وضمت عدد كبير من علمانيين الأقباط المثقفين وكانت مهمة الجمعية تقديم الخدمات لأبناء الكنيسة، إلى جانب أن الأنبا مرقص كان يستشيرهم في إدارة الكنيسة، ومع الوقت  تحول مجلس الجمعية من الدور العرفي إلى الرسمي من خلال اجتماع الأعضاء واتفاقهم على ضرورة إنشاء مجلس ملي للأقباط على أن تخضع لمن من أبناء الكنيسة المتولين مناصب رفيعة في الحكومة، فسعي بطرس باشا غالي لاستصدار أمر من الخديوي إسماعيل بتشكيل المجلس الملي عام 1874، وبالفعل صدر القرار، وانتخب المجلس البابا كيرلس الخامس بطريركًا وبدوره وعدهم بالتعاون معهم.

البابا مكاريوس الثالث
البابا مكاريوس الثالث

جلس البابا كيرلس الخامس البطريرك الـ 112 في ترتيبه لمدة 52 عامًا على الكرسي المرقسي وشهد عصره اشتداد الصراع بين العلمانيين والرهبان لدرجة تعرضه للنفي والتراشق بالألفاظ والاتهامات على صفحات الجرائد،ورغم دعم المجلس الملي له، إلا أنه أهمله بشدة وضاق بأعضائه ولم يعقد اجتماعاته رغبة منه في استبعاده من المشهد حتى لا ينازعه أحدًا في اختصاصاته.

وعى أثر هذه التعقيدات سعى بطرس غالي لاستصدار قانون في شكل لائحة تكون ملزمة وتحدد العلاقة بين العلمانيين ويمثلهم المجلس الملي وبين الإكليروس، خوفًا من سيطرة الإكليروس وانفرادهم بإدارة الكنيسة، وبالفعل صدرت لائحة تشكيل المجلس الملي عام 1883.

 

لائحة تشكيل المجلس الملي سنة 1883:

  • حدد القانون عدد أعضاء المجلس الملي بأربعة وعشرين عضوًا.
  • يقوم الأقباط الأرثوذكس في مصر بانتخاب أعضاء المجلس الملي.
  • ويكون الانتخاب عن طريق اجتماع عام يدعون إليه ولا يقل من يحضره عن 150 شخصًا
  • يشترط فيمن يرشح نفسه عضوًا في هذا المجلس أن يكون عمره على الأقل ثلاثين عامًا وألا يكون يكون عاملًا في الجيش، أو ممن هم في القوات الاحتياطية للخدمة العسكرية أو مجند.
  • يتشكل المجلس الملي من 12 عضوًا أصليًا وإثنى عشر احتياطيًا.
  • يستمر كل مجلس ملي منتخب يمارس وظيفته لمدة خمس سنوات متتالية.
  • ينتخب في بداية دورة المجلس الملي وكيلًا له من بين أعضائه.
  • يتولى البابا رئاسته بحكم منصبه كرئيس للكنيسة القبطية.
  • يختص المجلس الملي بالنواحي الإدارية وغير الدينية في حياة الكنيسة، فيدير وينظر كل ما يتعلق بالأوقاف الخيرية والمدارس والكنائس والمطابع القبطية والمعونات للفقراء والمعوزين، وينظم حياة الكنيسة وحياة الرهبان في الأديرة وسجلات الزواج والتعميد والوفاة.

 

ومن اختصاصات المجلس الملّي، النظر في الدعاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والانفصال الجسدي والطلاق، وكذلك الوصايا والمواريث.

 

وتحلل الدكتورة نجلاء محمد عبد الجواد المتخصصة في التاريخ الحديث والمعاصر، فتقول: "عندما ننظر إلى لائحة 1883 نجد أنها تجعل من هذا المجلس برلمانًا خاصًا للأقباط في مصر يبحث في شئونهم ويدير ثروتهم ويراعي مشاريعهم مثل مدارسهم ومستشفياتهم وجمعياتهم الخيرية، وقد تكون بداية من رجال الدين ثم بعد ذلك يصبح برلمان علماني أي مكون من رجال ليسوا من رجال الإكليروس- لأنه مجلس متخصص للإدارة وليس للنواحي الروحية التي تخص الكنيسة فقط، هذا من ناحية، أما من الناحية العملية فهؤلاء المنتخبون من أعضاء المجلس الملي من المفترض أنهم في الحياة العامة يختلطون بالحكومة ويعملون بها أو خارجها ويعرفون جيدًا المشاكل الاجتماعية لأبناء الكنيسة.

للإطلاع على الحلقة الثانية:علمانيون ورهبان: كيف أدار الأراخنة شؤون المسيحيين ما قبل سيطرة البطاركة؟ (2)

وبعد تطبيق لائحة 1883 رأى البابا كيرلس الخامس نفسه غير مقتنع بنتائج وتعاليم المجلس فأصدر أمره بغلق المدرسة الإكليريكية التي رجع الفضل في إنشائها للمجلس الملي، وكان من وراء ذلك إهمال الكهنة والقساوسة ورسامتهم بدون تعليم لاهوتي أو دراسة تؤهلهم لحفظ مراكزهم الكهنوتية ويعظم شأنهم في نظر الشعب.

كل هذا نكاية في المجلس وخوفًا من سلطتهم، ولما اشتد الصراع بينهم، ناقش العلمانيون أوقاف الأديرة وطالبوا بجردها ومعرفتها لأنهم رأوا أن الرهبان أصبحوا يستغلونها لصالحهم، وظلت هذه الأوقاف سرًا لا يعرفه أحد حتى اكتشفها جرجس بك حنين صدفة عندما كان مديرًا لمصلحة الأموال المقررة والتي كان يدخل في اختصاصها آنذاك تسجيل الملكية الزراعية والعقارية.

وكان جرجس بك حنين صاحب موسوعة الأطيان والضرائب في القطر المصري، مسئولاً كبيرًا في الوزارة وعضوًا بالمجلس الملي، استغل وجوده وبحث واستخرج سجلًا شمل أملاك جميع الأوقاف القبطية وتفصيلاتها وقد اكتشفوا عددًا كبيرًا من العقارات المبنية في القاهرة وضواحيها، وأراضٍ واسعة خصبة في جميع مديريات الوجه البحري والقبلي وكانت أغلبها في محافظة أسيوط.

وظلت قيمتها مجهولة ولكن بعد أن بحثها جرجس بك حنين قدر قيمتها في سنة 1906 بمليون ونصف، وكانت جميع الأملاك الواسعة كلها تحت تصرف رؤساء الأديرة الذين لم يزد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، وعندما حدث نقاش في هذه المواضيع الخطيرة التي تمس الشعب القبطي ككل، فإن البطريرك دافع عن الأديرة وأنهى البابا كيرلس الخامس هذا الخلاف بتجميد المجلس الملي مرة أخرى سنة 1891.

 

لم يقف أعضاء المجلس الملي مكتوفي الأيدي أمام هذا القرار، ووجه دعوات من الأديرة والكنائس إلى الشعب القبطي لكي يجتمع وينتخب جمعية عمومية، وحددوا مكان الاجتماع بالدار البطريركية، فقام البابا بإخطار المسؤولين في البوليس فأحاطت قواتهم بالدار البطريركية ومنعوا جمهور الأقباط المتوجهين لانتخاب ممثليهم من الاجتماع داخلها.

وهكذا استعان البابا بالحكومة ضد أبنائه وهذا لم يحدث من قبل في تاريخ الكنيسة وتفجر الصراع علنيًا لأن المتوجهين إلى البطريركية لم يرقهم تصرف البابا بإدخال البوليس في الأمر، وقام البابا على الفور بتشكيل المجمع المقدس للنظر في قضية إذا كان تكوين وتشكيل المجلس الملي يتوافق مع الإنجيل من عدمه، ثم أصدروا قرارهم: "إن تدخل أحد من الشعب في تدبير أمور الكنيسة ومتعلقاتها في شكل مجالس أو بأي شكل يعتبر مخالف للأوامر الإلهية والنصوص الرسولية، ذلك أن إنشاء هذا المجلس هو سلب لحقوق الكنيسة".

حاول بعدها البطريرك استمالة الخديوي توفيق لموقفه، بينما كان موقف الخديوي مؤيدًا لموقف بطرس باشا غالي، ونصحه أن يخضع لإرادة الشعب، فكان في هذه الأيام أن أنشأ المجلس جمعية اسموها جمعية التوفيق القبطية تيمنًا بالخديوي، عملوا من خلالها على النهوض بحال الأمة القبطية، فبنوا المدارس وساعدوا الفقراء وأثروا التعليم.

ثم اتخذ المجلس موقفًا علنيًا في الهجوم على إدارة البابا كيرلس الرابع، فهاجموا التدهور التعليمي وإدارة المدارس القبطية، وهاجموا حالة الأديرة الفقيرة ونددوا بإدارة الأوقاف والتصرف في عائداتها بما لا يعود بالنفع على الأديرة ذاتها، وذهبوا إلى أبعد من ذلك في أنهم نقدوا الرهبان والإكليروس، واشتعل الخلاف على صفحات الجرائد حتى وصل إلى عباس حلمي الثاني.

 

وجاء في دراسة "المجلس الملي أعماله واختصاصاته" أنه في عام 1892 تولى حكم مصر عباس حلمي الثاني وتوجه بطرس غالي باشا إلى الإسكندرية وقابل الخديوي ليأخذ له إذنًا بالسفر إلى أوروبا فذكر أمامه النزاع الطائفي الحاصل فأجابه بطرس باشا بأنه لا يمكن أن يهنأ ما لم يتشكل المجلس من جديد، فاستجاب لطلبه باتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة تشكيل المجلس مرة أخرى.

صدر الأمر لبطرس باشا بتأخير سفره ليسعى في تشكيل المجلس، فعاد غالي إلى القاهرة وأبلغ البابا هذا القرار وطالت المناقشة بينهما وأصّر البطريرك على موقفه، ولما انسدت سبل التفاهم أبلغه الوزير بطرس غالي باشا بضرورة تشكيل المجلس ولابد من تنفيذه بالقوة.

وأسفر الاجتماع الحر للأقباط لأول مرة في التاريخ القبطي عن اختيار 24 عضوًا للمجلس الملي بالانتخاب وهم بصفة أعضاء: بطرس باشا غالي، حنا بك نصر الله، بطرس بك يوسف، مقار بك عبد الشهيد، قليني بك فهمي، خليل أفندي إبراهيم، يوسف بك وهبة، يوسف أفندي سليمان، حنا بك باخوم، نخلة بك الباراتي، حبشي أفندي مفتاح يعقوب أفندي نخلة روفيلة، باسيلي بك تادرس، عبد المسيح بك حبشي، إبراهيم أفندي منصور، وهبة أفندي يوسف عبده، رفة أفندي جرجس، مرقص أفندي سميكة، إبراهيم بك روفائيل الطوخي، باسيلي أفندي روفائيل الطوخي، فرج أفندي إبراهيم، بطرس أفندي أبادير، يعقوب أفندي نخلة يوسف، عوض بك سعد الله.

اقرأ أيضًا:صلّي وتحملي زوجكِ.. تجميل العبودية بالقداسة

وكان بعد ذلك أن البطريرك لم يرضخ وساوم بين وجوده كرأس للكنيسة وبين استمرار المجلس الملي وأشاع بين الناس أن أعضاء المجلس ليسوا على الطائفة الأرثوذوكسية السليمة ووقع الحرمان على من أيدهم من الإكليروس، وافتعل الخلافات الكثيرة، فما كان من بطرس باشا غالي وأعضاء المجلس إلا أنهم استصدروا أمرًا بإبعاده عن الكرسي المرقسي ومباشرة أعمال الكنيسة الإدارية.

ولم يعرف البابا بهذا القرار إلا من الجرائد وبالفعل عاد إلى ديره لفترة، حتى حاول بعدها تدخل البعض لإصلاح الأمور فعاد البابا كيرلس إلى كرسيه وسط احتفاء شعبي في عام 1893. 

ظلت العلاقة متأرجحة بين شد وجذب، حتى اغتيل غالي على يد إبراهيم الورداني لأسباب سياسية عام 1910، وشكلت هذه الحادثة نقطة فاصلة عند قبط مصر، ففي كتاب "الأدب القبطي قديمًا وحديثًا" لمحمد سيد كيلاني، يرصد فيها تداعيات المشهد ويقول: "وقع مقتل بطرس باشا على الأقباط وقوع الصاعقة وارتفعت أصواتهم بالبكاء والعويل ولبسوا شارات الحداد وألفوا المظاهرات وعقدوا اجتماعات أبدوا فيها سخطهم الذي لا حد له على الحزب الوطني الذي كان القاتل ينتمي له وكتبوا المقالات والبرقيات يدعون لاجتماع عاجل".

وثار المجتمع المسيحي في مصر والمهجر فدعا عدد من الأقباط لعقد المؤتمر القبطي وتولى رئاسته والإشراف عليه بشرى بك حنا، ورفضه البطريرك والبعض الأخر من الأقباط لتهدئة المناخ العام، لكن في النهاية أجمع القائمين عليه أنه لابد من مناقشة المسألة القبطية إنطلاقًا من الشعور بالطائفية التي فجرتها حادثة بطرس باشا، وصدر بيان حول مطالب المؤتمر القبطي في 1911 والتي تلخصت في التالي:

  • مساواة جميع المصريين فى احترام يوم الراحة الدينى الذى تقضى عليهم عقائدهم الدينية باحترامه، وبالتالى إعفاء موظفي الحكومة وطلبة المدارس المسيحيين من الاشتغال يوم الأحد.
  • التعويل على الكفاءة دون سواها فى الترشح للوظائف العمومية للمصريين، بدون أن يكون هناك دخل لأي اعتبار آخر.
  • تشخيص جميع العناصر المصرية فى جميع مجالسها النيابية تشخيصًا يضمن للجميع المدافعة عن حقوقهم والمحافظة عليها.
  • تمتع الأقباط بجميع حقوق تعليم الأهالى القائمة به مجالس المديريات، وتجبي لأجله ضريبة الخمسة فى المائة من جميع المصريين.
  • جعل خزينة الحكومة المصرية مصدرًا للإنفاق على جميع المرافق المصرية بالسواء، بدون فارق بين مورد وآخر.

 

ويحلل مينا بطرس في ورقته التي تناقش الهوية القبطية، فيشير إلى أنه رغم أن مطالب المؤتمر تبدو مناسبة إلى حد معقول حتى في هذا السياق التاريخي، وخاصةً مع الاتجاه العلماني الناشئ، فإن القوى المتطرفة ردت بنتائج عكسية على تلك المطالب لتدمير أفضل مثال على الوعي الذاتي القبطي، والرغبة في العيش على قدم المساواة مع أقرانهم المسلمين، وبعد شهر، انعقد المؤتمر الإسلامي -الذي أُعيدت تسميته فيما بعد بالمؤتمر المصري- لرفض المطالب الخمسة، وأعلن زعيم المؤتمر أن تلك المطالب لا تُلبي الرؤية القومية للوحدة السياسية في ظل دين الدولة غير القابل للتجزئة "الإسلام" ومن هنا ولدت فكرة دين الدولة من هذا المؤتمر.

وعلى الصعيد الداخلي، تمكن البطريرك كيرلس الخامس من الحصول على مرسوم خديوي في عام 1912 للحد بشكل أكبر من سلطة المجلس الملّي، الأمر الذي قيد إلى حد كبير سلطة المجلس والمؤتمر، تاركًا الأقباط بلا استقلالية بخلاف الامتثال الديني والطاعة لدولة لم تعد تمثلهم. 

اقرأ أيضًا:"استراتيجية حقوق الإنسان" بعد 3 سنوات.. حرية الدين والمعتقد "لا حس ولا خبر"

وبالعودة لحركة الإصلاح والتحديث، يذكر كتاب "المجتمع القبطي: همومه وتطلعاته" أن حركة الإصلاح في هذا الوقت ارتبطت بالأساس باسم حبيب جرجس "1876- 1952"، وارتبطت أيضًا بالتهديد الذي شهدته الكنيسة الأرثوذوكسية بمصر بعد توافد البعثات التبشيرية البروتستانتية والكاثوليكية.

وكان لهذا السبب تأثير كبير دفع بقوة نحو ظهور فكرة الإصلاح، حيث نجحت المدارس البروتستانتية والكاثوليكية في جذب الكثير من الأقباط الأرثوذوكس وبحسب السجلات، فإن 100 ألف حالة تحول إلى المذهب البروتستانتي شهدتها الكنيسة الأرثوذوكسية حتى عام 1953.

كل أنشطة البعثات التبشيرية آنذاك لفتت نظر حبيب جرجس وهو من أوائل الملتحقين بالكلية الإكليريكية ونبغ فيها حتى كان مدرسًا بها قبل تخرجه، ثم عميدًا فيما بعد، وذاع صيته وأفكاره وكانت قضيته الأساسية إصلاح منظومة التعليم الديني.

أما حبيب جرجس المسيحي العلماني المؤثر التي تدين له الكنيسة القبطية بالتحديث التعليمي، فكان قد بدأ بتأسيس مدارس الأحد، حيث استغل صدور قرار بتدريس الدين المسيحي في المدارس الأميرية والأهلية عام 1908، وقرر تأسيسها لتعويض النقص في التعليم الديني، وتم اعتبارها فيما بعد في 1918 الشكل الرسمي للتعليم الديني داخل الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، وكانت حركة حبيب جرجس الإصلاحية ممتدة جنبًا إلى جنب مع محاولات التحديث المستمرة للمجلس الملّي والذي تم انتخابه عضوًا به بعد ذلك، وساهم جرجس في ترقية الفكر الديني لدى الشباب القبطي وتحديدًا الطبقة الفقيرة منهم في قرى الصعيد.

اقرأ أيضًا:كمال زاخر في حوار خاص: الرهبنة في عصر البابا شنودة كانت بابًا خلفيًا لـ"الترقي الاجتماعي".. و"الأحوال الشخصية" علامة استفهام

استمر حبيب جرجس في مشروعه الإصلاحي بعد وفاة كيرلس الخامس ثم مجيء البابا يؤانس التاسع عشر عام 1928، وتم انتخاب أعضاء المجلس الملّي وصدر القرار الملكي باعتماده، ثم صارت انتخابات أخرى عام 1933 للمجلس الملّي التاسع في الترتيب منذ النشأة.

وفي 23 أبريل عام 1938 صدرت لائحة انتخاب جديدة بمقترح من المجلس الملّي العام، والتي أرفق بها قوانين الأحوال الشخصية للأقباط وكان من ضمن موادها تسع أسباب للطلاق وهم "علة الزنا (50)، خروج أحد الزوجين عن الدين المسيحي (51)، الغيبة لخمس سنوات متوالية وصدور حكم بإثبات الغيبة (52)، الحكم على أحد الزوجين بعقوبة الأشغال الشاقة أو السجن أو الحبس لمدة سبع سنوات فأكثر (53)، الجنون المطبق أو مرض معدٍ أو العنة (54)، الاعتداء على حياة الطرف الآخر، أو اعتياد إيذائه إيذاء جسيمًا (55)، فساد الأخلاق وسوء السلوك (56)، سوء المعاشرة (57)، رهبنة أحدهما أو كليهما (58).

كما تنص المادة 69 على أنه "يجوز لكل من الزوجين بعد الحكم بالطلاق أن يتزوج من شخص آخر إلا إذا نص الحكم على حرمان أحدهما أو كليهما من الزواج. وفي هذه الحالة لا يجوز لمن قضى بحرمانه أن يتزوج إلا بتصريح من المجلس". وطٌبقت هذه اللائحة حتى أوقف العمل بها البابا شنودة الثالث وأدخل تعديلاته المنفردة عليها رسميًا في 2008.

 

خلف البابا يؤانس البابا مكاريوس الثالث عام 1944 وترتيبه 114، ومثلت فترة هذا البطريرك التدخل الفعلي في صلاحيات المجلس الملّي وكانت السنة ونصف فترة جلوسه على كرسي مارمرقس مليئة بالصراعات الشديدة مع المجلس، فحاول تقديم عدد من المذكرات إلى وزارة العدل تطلب تعديل لائحة 1938.

وكتب أن يقتصر أسباب الطلاق فيها إلى سبب وحيد وهو "علة الزنا"، الأمر الذي اعتبره المجلس تدخل في أمور لا يفقه فيها البطريرك ولا تعنيه من الأساس كممثل روحي للكنيسة وليس علماني يفقه في إدارة الشئون الاجتماعية لأبناء الكنيسة، ولم توافق الدولة على تعديلاته ولم يستطع الوصول إلى حل مع المجلس فهجر كرسيه واعتكف حتى وفاته في عام 1945. 

ثم جاءت حركة الضباط الأحرار عام 1952 لتقلب موازين القوى داخل المجتمع القبطي فخسرت النخب نفوذها وتأثرت بقوانين الإصلاح الزراعي والتأميم.

 فحدث بعد الإنغلاق السياسي في المقابل تهميش لدور المجلس الملّي، حيث دعم جمال عبدالناصر المؤسسة الكنسية الرسمية، وأصدر قرارًا رئاسيًا عام 1957 بشأن اللوائح الجديدة لانتخاب البطريرك التي عكست كافة المطالب المحافظة لرجال الإكليروس ورفض وقتها كافة مقترحات المجلس الملّي وطبق نظام المحاكم الموحدة وألغى محاكم الأحوال الشخصية الخاصة بالأقباط وهو مانهى تمامًا على الدور الفعلي للمجلس الملّي.

وهكذا نشأ اتفاق بين الحكومة والكنيسة: أن تدين الكنيسة لعبد الناصر بالولاء المطلق مقابل أن يعزز مكانتها ويقدم لها بعض التنازلات، فظهر المشهد التوافقي المعروف بين البابا كيرلس السادس والرئيس جمال عبدالناصر، الذي ما أن تنحى عن الحكم حتى زارة البابا في منزله ليؤكد له إصرار الأقباط على التمسك به.

وهكذا صارت العلاقة بين المسيحيين والسلطة يتوسطهما البطريرك فقط، فأدى هذا إلى حركات الهجرة بشكل موسع والتي مثلت النواة الأولى لأقباط المهجر فيما بعد، ولم يعد المجتمع القبطي يتحرك على أرض الواقع وكتب شهادة وفاة المجلس والحركة الإصلاحية في النهاية جلوس البابا شنودة الثالث على الكرسي المرقسي عام 1971.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة