على سُفرة التمييز.. كيف يعمق الغذاء فجوة العنف ضد النساء؟

عشرة أعوام مرت على مغادرة فاطمة الزهراء، ذات الثمانية وعشرين عامًا، قريتها الصغيرة في محافظة الدقهلية، تاركة خلفها حياة الريف رغبة في الدراسة والعمل بالعاصمة، والتي رغم انغماسها في حياة المدينة، ظلت ذكريات طفولتها في الريف عالقة بذهنها، تطل عليها كلما حان موعد زيارتها العائلية. تلك الذكريات تحرك فيها مزيجًا متناقضًا من الحنين والأسى.

تتذكر فاطمة بوضوح تقاليد أيام الجمعة في منزل العائلة، عندما كانت جدتها تصعد إلى سطح البيت لتختار زوج من الطيور التي تربيها، وتذبحهما بنفسها، بينما توكل مهمة التنظيف والطهي إلى زوجات الأبناء، حيث يُعد الطعام ليصبح جاهزًا بحلول الظهيرة. عندها، يجتمع الرجال حول "السفرة" بعد صلاة الجمعة، حيث تُقدَم لهم أطباق الطعام التي تحتوي على اللحوم والخضار والأرز.

تتولى الجدة بنفسها تقسيم اللحوم، فيحصل الجد على النصيب الأكبر، بينما يُقسم ما تبقى بين الرجال والأولاد، فيحصل الرجال على ضعف ما يأخذه الأطفال الذكور، أما النساء والفتيات، فكان عليهن الانتظار حتى ينتهي الذكور من الطعام، ويجلسن على الأرض لتناول بقايا الأطباق، وغالبًا ما كانت حصتهن تقتصر على الأرز والخضر مع رؤوس وأجنحة وأرجل الطيور.

تتذكر فاطمة كيف كانت تراقب هذا المشهد وهي طفلة صغيرة، مملوءة بالشعور بالظلم والإحباط، تبتسم في مرارة وهي تقول لـ فكّر تاني: "كنت أسأل جدتي لماذا لا نشارك الرجال الطعام على السفرة؟ ولماذا لا نحصل على نصيب مماثل من اللحوم؟" لكن الإجابات لم تكن يومًا مقنعة، فكانت الجدة تبرر ذلك دائمًا بأن "الأصول كدة" أو أن "الرجل بيحتاج الغذا علشان عضلاته تقوى!".

تشعر فاطمة أن تلك العادات زرعت في داخلها إحساسًا بالتمييز الذي ظل يرافقها حتى في مناسبات عائلية حديثة، ورغم التغيرات التي طرأت على كثير من العادات الريفية، إلا أن بعض الممارسات العنصرية ما زالت باقية، مثل إعطاء الرجال أفضلية في الطعام.

تتذكر موقفًا حديثًا في عزومة عائلية، حين كانت المُضيفة امرأة متعلمة ومثقفة، هي أيضًا، فصلت بين النساء والرجال أثناء تناول الطعام، فبعد أن انتهى الرجال من وجبتهم، أحضرت طبقًا من اللحم البارد وقالت للنساء إنه "ما تبقى من طعام الرجال"، حينها شعرت فاطمة بالإحراج الشديد ورفضت تناول الطعام، معتبرةً أن هذه التصرفات، وإن بدت بسيطة، تعكس ثقافة تمييزية ما زالت مترسخة.

ورغم اعتقاد فاطمة أن الجيل الجديد أكثر وعيًا وانفتاحًا، إلا أنها ترى أن التخلص من هذه العادات والتقاليد القديمة يحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد، خاصة عندما تكون مغلفة بمبررات اجتماعية ودينية واهية، وتعتقد فاطمة أن المساواة على مائدة الطعام ليست مجرد مسألة غذائية، بل هي تعبير عن مكانة المرأة في المجتمع، وإقرار بحقوقها التي يجب أن تكون مكفولة للجميع بلا استثناء.

اللحم للرجال والطبيخ للنساء.. في صعيد مصر

في قرية صغيرة بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، ترعرعت رشا، ذات الثلاثين عامًا، وسط عادات غذائية متجذرة تعكس التمييز بين الذكور والإناث، فلم يقتصر الأمر على توزيع الطعام، بل بدأ منذ فترة الرضاعة، وهو ما لاحظته عندما أنجبت زوجة عمها فتاة.

حينها، لم يكترث أحد بتغذية الأم، وتركت لترضع مولودتها بحليب صناعي، أما عندما أنجبت ذكرًا، فقد تغيرت المعاملة تمامًا؛ إذ حرصت الجدة على تغذية زوجة العم جيدًا ليحصل المولود على الرضاعة الطبيعية، وعندما سألت رشا جدتها عن السبب، جاء الرد الصادم: "الولد لازم يشبع من لبن أمه عشان يبقى قوي وشجاع".

تتذكر رشا في حديثها مع فكّر تاني، كيف كانت جدتها توزع الطعام داخل العائلة، حيث يحصل أولاد عمها على النصيب الأكبر من اللحوم، خاصة الأكبر سنًا بينهم، بحجة أن أجسامهم تحتاج للبروتين لتكوين العضلات، بينما كانت الفتيات، وحتى النساء البالغات، يكتفين بحصص أقل، إن وجدت.

ولم يكن هذا التمييز مقتصرًا على عائلتها فقط، بل امتد إلى جيرانهم. تروي كيف كانت إحدى الجارات تقوم بجميع الأعمال المنزلية الشاقة، ومع ذلك تحصل على أقل القليل من الطعام، بينما يأخذ زوجها وأبناؤها الثلاثة قطع اللحم أو الدجاج. وفي ظل الظروف المالية الصعبة التي تعيشها معظم أسر الصعيد، كانت المرأة قد لا تتناول البروتين الحيواني سوى مرة أو مرتين في الأسبوع، بينما يُفضل الرجال في كل مرة.

تحكي رشا أيضًا عن الأجواء في المناسبات العائلية والأفراح، وتقول إن النساء في الصعيد كن يعملن لساعات طويلة في المطبخ لإعداد الولائم، ورغم ذلك، كان الرجال هم من يتناولون أشهى الأطباق وأفضل قطع اللحوم، بينما تكتفي النساء بالبقايا أو أطباق خالية من اللحوم تمامًا.

"في الأفراح والمناسبات، كان يتم ذبح عجل أو اثنين حسب مقدرة العائلة، ويُقدم الطعام للرجال أولًا، فيما تتناول النساء، خصوصًا البسيطات منهن، الخضر المطبوخة فقط، أو في بعض الأحيان لا يجدن شيئًا ليأكلن، الاستثناء الوحيد كان للنساء ذوات المكانة الاجتماعية العالية، مثل زوجة العمدة أو زوجة مسؤول كبير، حيث يُخصص لهن نصيب أفضل".

تُشير رشا إلى أن هذه العادات لم تكن مجرد تصرفات عابرة، بل نظامًا اجتماعيًا متكاملًا يعكس الفجوة العميقة في مكانة الرجال والنساء، وتلك العادات، التي قد تبدو للبعض بسيطة، ما زالت تُمارس بشكل واسع في بعض مناطق الصعيد، حيث يُعتبر الطعام وسيلة أخرى لترسيخ التمييز بين الجنسين.

"كنت أراقب كل هذا وأنا طفلة، وكان شعوري بالظلم يتضاعف في كل مرة، النساء هن من يتحملن عناء الطهي والعمل، لكنهن آخر من يحصل على نصيبهن من الطعام، وأحيانًا لا يحصلن على أي شيء". وترى رشا أن هذا التمييز الغذائي ليس فقط انعكاسًا للتقاليد القديمة، بل هو صورة مصغرة لواقع أكبر يتطلب تغييرًا حقيقيًا.

تمييز غذائي يتوارثه الأجيال: اللحم للأبناء والتضحية للأمهات

سناء، ذات الـ 35 عامًا والمقيمة في القاهرة، عاشت طفولتها وهي ترى مظاهر التمييز في توزيع حصص البروتين داخل أسرتها، فرغم أن والدتها كانت حاصلة على مؤهل دراسي عالٍ، إلا أنها اتبعت نمطًا غذائيًا يفضل الذكور على الإناث.

"في وجبة الغداء، كانت الأم تختار قطعة اللحم الأكبر وتقدمها لوالدي، وعندما أنجبت شقيقي، أصبح الاهتمام بتغذيته أولوية واضحة".

اعتادت سناء أن ترى والدتها تعد لشقيقها وجبات غنية بالبروتين، مثل البيض المقلي أو المسلوق في الصباح، والسندوتشات المحشوة بلحوم مثل التونة، وناجتس الدجاج، وبرجر اللحم ليأخذها إلى المدرسة، بينما هي وأخواتها على الجانب الآخر، كن يكتفين بسندوتشات الجبن، والمربى، والبطاطس، والفول.. وعندما تساءلت عن سبب هذا التمييز، كان الرد دائمًا: "أخوكي لا يحب الأجبان".

في وجبة الغداء، كانت الأم تختار قطعة اللحم الأكبر وتقدمها لوالدي
في وجبة الغداء، كانت الأم تختار قطعة اللحم الأكبر وتقدمها لوالدي

ترى سناء أن هذا السلوك لم يكن مقتصرًا على والدتها فقط، بل هو نمط متوارث بين نساء عائلتها جيلًا بعد جيل، رغم أنهن من سكان المدن ومتعلمات، وتضيف: "نساء العائلة اعتدن التضحية بنصيبهن من البروتين لصالح الأبناء، ما انعكس سلبًا على صحتهن". وتتذكر كيف تناولت جدتها أجزاء مثل أجنحة الدجاج، ورقبتها، والكبد والقوانص في المناسبات، وهي تزعم أنها لا تحب اللحوم، وأيضًا أخبرتها والدتها عن معاناتها مع شقيقها الذي كان يأكل دون مراعاة لنصيب الآخرين، ما أثر على صحتها على المدى الطويل.

"واجهت هذا التمييز مجددًا في حياتي الزوجية، حيث نصحني أهلي بأن الأولاد يأكلون أكثر من البنات، وعندما أنجبت ابنة، أخبرتني والدتي: الفتيات يحصلن على رضاعة أقل مقارنة بالذكور".

ومع مرور الوقت، وجدت سناء نفسها تتبع السلوكيات نفسها، وتمنح زوجها وأطفالها الذكور النصيب الأكبر من البروتين كنوع من التضحية، وتبرر ذلك بأنها تحاول إشباع جوعهم وتجنب تذمرهم من نقص الطعام، مضيفةً: "ربما نحن الأمهات نرى هذا كجزء من دورنا، لكننا نغفل أن صحتنا نحن أيضًا تستحق الاهتمام".

تختتم سناء حديثها بمرارة، معتبرةً أن هذه العادات تمثل صورة من صور التمييز المتجذر، حتى في أكثر البيئات تعليمًا، وتدعو لإعادة التفكير في تلك التقاليد التي تعيد إنتاج الفجوة بين الجنسين من جيل إلى آخر.

تحذر اليونيسيف من تصاعُد مُعدل سوء التغذية بين المراهقات والنساء الحوامل والمرضعات من 5.5 إلى 6.9 ملايين في 12 بلدًا من البلدان التي تعاني من أزمات، وهو ما يعادل نحو بنسبة 25%، ما يُعرّض النساء والأطفال حديثي الولادة للخطر، مؤكدة أن التغذية غير الكافية للأنثى، قد يؤدي إلى إضعاف جهاز المناعة، وضعف التطور الإدراكي، وزيادة خطر المضاعفات الصحية المهددة للأرواح بما في ذلك أثناء الحمل والولادة، ويترك آثار خطيرة على بقاء أطفالهن ونمائهم وتعلمهم وقدرتهم المستقبلية على كسب الدخل.

المرأة الريفية بين التمييز الغذائي والدور المجهد

وتُسلط لمياء لطفي، مؤسسة مبادرة المرأة الريفية، الضوء على أشكال التمييز الغذائي في ريف مصر، حيث يحصل الذكر، وخاصة كبير البيت، على نصيب مضاعف من اللحوم، بينما تُمنح الأخت نصف نصيب أخيها من البيض، وتنسب لمياء هذه الممارسات إلى معتقد سائد في الريف يبرر أولوية الرجل في الغذاء بدعوى حاجته إلى بناء الكتلة العضلية، نظرًا لطبيعة عمله في الحقول أو البناء.

لمياء لطفي
لمياء لطفي

وتضيف لمياء لـ فكّر تاني: "تفرض الثقافة الريفية على الزوجة قيدًا غير معلن، يتمثل في ضرورة تقليل تناولها للطعام أمام أهل زوجها، لإظهار أنها لم تكن محرومة في بيت أهلها، وبالتأكيد تغفل هذه العادة الاحتياجات الغذائية للمرأة، التي تتحمل أعباء الحمل، والولادة، والأعمال المنزلية، بالإضافة إلى دورها الحيوي في الزراعة، مثل جني المحصول، وإزالة الحشائش الضارة، وغرس الشتلات".

وتوضح لمياء أن الفقر والزيادة السكانية في الريف المصري يفاقمان من غياب العدالة في توزيع الموارد، حيث تضطر كبيرة العائلة، التي تتولى توزيع الطعام، إلى تقليص نصيبها أو مساواته بنصيب طفل صغير، وفي الوقت نفسه، يُمنح الرجل الأولوية في الغذاء بحكم أنه المعيل الأساسي للأسرة.

"إن هذه السياسات الغذائية داخل العائلات الريفية تؤدي إلى استنزاف صحة النساء مع تكرار الحمل والولادة، ما يقلل من قدراتهن الإنتاجية على المدى البعيد".

وأخيرًا، تدعو لمياء لطفي إلى ضرورة إعادة النظر في هذه التقاليد، التي تهمش حقوق المرأة الغذائية رغم دورها الحيوي في الحفاظ على استقرار الأسرة والمجتمع.

التغذية بين التمييز الجندري والموروثات الثقافية

يمتد التمييز في التغذية بين الذكور والإناث في المجتمعات الريفية إلى جوانب مختلفة، بدءًا من فترة النفاس، هكذا توضح استشارية النوع الاجتماعي مي صالح لـ فكّر تاني، وتؤكد أن أم المولود الذكر تحظى بتغذية غنية مثل الدجاج، والبيض، واللبن، بينما تُترك أم المولودة الأنثى لتتناول ما يتوفر في المنزل كالفول أو بقايا الطعام.

مي صالح
مي صالح

"كذلك، تستمر الأفضلية للذكر بعد الولادة، حيث تُطيل العائلات فترة الرضاعة الطبيعية للذكور، بينما يُطالب بفطام الفتيات مبكرًا".

وتضيف مي أن العادات الموروثة تفرض أولوية الذكور في الغذاء، بحجة دورهم كمعيلين ومسؤولين عن الأسرة، ما ينعكس على التغذية داخل المنازل، فالزوجة تقدم أطباقًا غنية بالبروتين الحيواني والفوسفور للزوج، بينما تكتفي هي ببقايا الطعام أو وجبات بسيطة مثل الخبز والجبن أو الأرز والخضار، ما يؤدي إلى سوء تغذيتها ويجعلها عرضة للسمنة، هشاشة العظام، وتساقط الشعر والأسنان نتيجة الحمل والولادة المتكرر دون تعويض غذائي.

كما تشير مي إلى أن صدور الطيور الداجنة تُمنح للذكور في كثير من الأسر، خاصة المراهقين، بهدف بناء أجسامهم، بينما تُمارس بعض الحموات في الريف تضييقًا غذائيًا على زوجات أبنائهن، كما حدث مع فتاة من الشرقية، "نداء"، التي تعرضت للتجويع أثناء إرضاع طفلها، ما دفعها للدفاع عن نفسها بضرب حماتها.

تُظهر تقارير معهد التغذية أن السمنة لدى النساء في مصر وصلت إلى 48.8%، بسبب سوء التغذية، ما يفاقم من المخاطر الصحية والاجتماعية، ويبرز ضرورة تعزيز الوعي بأهمية التغذية السليمة للإناث لضمان صحة أجيال المستقبل.

انتصار السعيد
انتصار السعيد

ومن جهة أخرى، توضح المحامية الحقوقية انتصار السعيد لـ فكّر تاني، أن التمييز الغذائي يعكس موروثات اجتماعية تكرّس التمييز ضد النساء، مشيرة إلى أغنية من التراث الشعبي المصري، تُظهر بوضوح الفجوة بين تعامل العائلات مع ولادة الذكور والإناث.. "لما قالولي ولد اتشد ضهري واتسند، لما قالولي غلام اتشد ضهري واستقام، وكلوني البيض مقشر وعليه السمن عام، لما قالولي بنية الحيطان مالت عليا وكلوني البيض بقشره وبدال السمن ميه".

وتؤكد انتصار أن هذه الممارسات، إلى جانب المعتقدات والعادات والتقاليد، تسهم في تمهيد الطريق لممارسات العنف ضد النساء، حيث تترك آثارًا جسدية ونفسية على المرأة نتيجة سوء التغذية والتمييز المستمر.

التغذية السليمة للإناث: حماية من الأنيميا والسمنة وأثرها على الأجيال القادمة

الدكتور سيد حماد
الدكتور سيد حماد 

ويؤكد الدكتور سيد حماد، أستاذ التغذية بالمعهد القومي للتغذية، على أهمية التغذية السليمة للإناث منذ تكوينهن أجنة، مرورًا بفترة الرضاعة، والفطام، وحتى البلوغ، مشيرًا إلى احتياجهن الكبير للحديد والكالسيوم لدعم الصحة العامة، خاصة في مراحل الطمث والحمل والولادة.

ويوضح لـ فكّر تاني، أن احتياج الإناث للطاقة والبروتين يقل قليلًا عن الذكور، إلا أن تقليل حصص البروتين الحيواني لهن يسبب نقص الحديد والزنك والأملاح المعدنية، ما يؤدي إلى فقر الدم، مؤكدًا أن عادات التمييز الغذائي بين الجنسين قد تراجعت، لكنها ما زالت تؤثر سلبًا على صحة الإناث، حيث تعاني 25% من المصريات في سن الإنجاب من الأنيميا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة