الانتخابات البرلمانية القادمة ومستقبل الديموقراطية في مصر (1)

( ١ ) النظام الإنتخابي

 الانتخابات هي الآلية الوحيدة التي توصل اليها  الإنسان المتحضر منذ نشأة الدولة حتي الآن لتعبر عن المعني الدقيق لمفهوم الديموقراطية، والانتخابات التمثيلية هي النموذج الأخير الذي قدمته الديموقراطيات الاوروبية الغربية والذي صاحب نمو وتطور الدولة الحديثة، ذلك النموذج الممتد منذ ظهور المفهوم الحديث للحكومة البرلمانية في مملكة إنجلترا (1688) حتي الآن. 

 تواكب مع بلورة مفهوم الانتخابات التمثيلية نشأة الصراع 

بين رؤيتين متعارضتين تشكلتا في آن واحد علي التوازي، حول ترجمة تلك الفكرة التي ارتضتها الجماعات الإنسانية وأقرتها كوسيلة لتطبيق مفهوم الديموقراطية كما عرّفها الفلاسفة القدامي بأنها حكم الشعب بنفسه ولنفسه.

مرحلة فرز أصوات في الانتخابات، مصر (ا ب - أرشيفية)
مرحلة فرز أصوات في الانتخابات، مصر (ا ب - أرشيفية)

 الرؤية الأولي أخذت علي عاتقها ترجمة المفهوم بدقة وأمانة وسعت إلي تطويره والتجويد فيه ليقترب اكثر من التعبير عن رغبات الشعوب في أن تُدار مؤسسات الحكم في دولهم وفقاً لإرادتهم وبشكل يعكس الفهم الصحيح للديموقراطية،  وهو مفهوم التمثيل النسبي للجماعات المتعددة المكونة للمجتمع المحدد، فكلما كبر المجتمع، اتسعت تلك الجماعات وتعددت المصالح وتباينت في ذات الوقت، ولزم ان يكون لها تمثيل سياسي وبالتالي ممثلين في مؤسسات الحكم عبر تلك الآلية المسماه بالانتخابات. 

 وكلما كانت النظم الانتخابية قادرة علي أن تعكس أفضل تمثيل لجميع أصحاب المصالح المتباينة في المجتمع، كلما أدي ذلك الي تطوير واستقرار ونجاح الجماعة الانسانية المحددة، المسماه حديثاً بالدولة، وضمن لها البقاء والاستمرار والتجدد دوماً.  

 الرؤية الثانية هي المعبرة عن جماعات المصالح القريبة من السلطة والتي تمتلك القدرة والنفوذ والقوة المادية، وفي الكثير من الأحيان تتطابق مصالحهم مع السلطة والفئات الحاكمة، ويرون في أنفسهم أنهم أحق وأولي وأقدر علي الحكم وإدارة شؤون الجماعة الإنسانية " الدولة " دون غيرهم من الفئات والطبقات المكونة للمجتمع كله. 

إن تلك الرؤية قد وضعت من البداية بذرة التحكم والتسلط التي تطورت وتضخمت، وخاصة لدي بعض الدول التي لم تنجح بعد في التحول نحو التطبيق الكامل لمفهوم الديموقراطية بمعناه الحديث وتفننت في تطوير وابتكار نظم انتخابية مناسبة لرؤيتها تلك، والتي اصبحت معروفة بنظم الأغلبيات المطلقة أو نظم ال ( ٥٠ ٪؜ + ١ ) وتداعياتها المختلفة … 

إنها الرؤية التي تكرس للاستبداد والتسلط والسعي للاحتكار الدائم للسلطة، تشريعاً وتنفيذاً، مع إقناع الجماعات المختلفة في المجتمع بأنهم شركاء في اختيار ممثليهم في مؤسسات الدولة المختلفة، حيث يتبعون بعض الاجراءات الشكلية، الخالية في ذات الوقت من المحتوي  المضمون الديموقراطي الحقيقي.

 قناعات الناخبين

في أوروبا وأمريكا والعديد من دول العالم التي اعتمدت  الانتخابات التمثيلية كوسيلة لإدارة شؤون البلاد والتبادل السلمي للسلطة، تعكس الانتخابات إرادة مواطنيهم جميعا، علي تنوعهم وتباين مصالحهم، حيث نادراً ما يحدث تشكيك كبير في صحة العمليات الانتخابية أو اتهام للقائمين عليها بالتزوير أو أن نتائجها لا تعكس إرادة ناخبيهم. 

ويحدث التغيير عندهم وفقا للمزاج العام للناخبين وقناعاتهم بصحة السياسات التي يتبناها الحزب أو مجموعة الأحزاب المتربعة علي السلطة في الفترة بين انتخابين. وعلي الرغم من جميع المسالب التي تؤخذ علي الانتخابات التمثيلية التي تتبناها الليبرالية السياسية الغربية، إلا أنها الوسيلة الأنجع التي خبرتها المجتمعات الانسانية حتي الآن والتي تعكس مفاهيم الديموقراطية وحداثة الدولة. 

انتظار ناخبين للتصويت
انتظار ناخبين للتصويت

 في الدول التي يمكن وصف نظم الحكم فيها بالغير ديموقراطية، تلك التي يسودها الاستبداد والتسلط والتي تحتكر الحكم فيها طبقة تتمسك بالسلطة وتتوارثها بأشكال وطرق عديدة، من بينها استخدام الانتخابات كوسيلة شكلية لتجديد شكل الحكم بين الحين والآخر، والتي تعد مصر واحدة منها، فان النظم الانتخابية فيها يتم تصميمها بحيث تناسب المجموعات الضيقة القابضة علي زمام الأمور، وتضمن لهم الاحتفاظ بالسلطة واستمرار وجودهم علي رأسها، انها نظم الأغلبيات المطلقة علي تنوعها. 

حيث تتمكن الفئات المسيطرة علي السلطة والقريبين منهم من احكام سيطرتهم علي الانتخابات وعلي نتائجها ويضمنون البقاء والاستمرار في حكم البلاد مع تقديم الأمر وكأنه يجري بشكل ديموقراطي، وكأن الشعب هو صاحب الاختيار الفعلي.

خياران لا ثالث لهما

 وعليه مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في مصر فإننا مرة أخري أمام أحد خيارين لا ثالث لهما : 

إما خيار الانحياز إلي النهج الديموقراطي واختيار نظام انتخابي يسمح بالتمثيل النسبي للقوي والتجمعات وأصحاب المصالح المتنوعة والمتباينة في المجتمع، نظام يفتح الباب أمام إمكانية التبادل السلمي للسلطة والإصلاح  وتغيير السياسات التي لا  تحقق مصالح الأغلبية ولا ترضي عنها معظم الفئات والأطياف في المجتمع، بما يجنبنا مخاطر الإنفجارات الإجتماعية غير مأمونة العواقب التي باتت قاب قوسين أو أدني من الوقوع، طالما استمرت الأوضاع علي ما هي عليه دون تغيير ومع الاستبعاد شبه الكامل للكتل والمجموعات السياسية والاجتماعية المختلفة. 

ناخبات مصريات يشاركن في حملة للتوعية بأهمية الانتخابات - أرشيفية
ناخبات مصريات يشاركن في حملة للتوعية بأهمية الانتخابات - أرشيفية

 أو خيار الإستمرار في اتباع نفس الاسلوب الاستبعادي الانتقائي الذي يعمد الي اتباع نهج هندسة الحياة السياسية والتشبث باختيار نظم انتخابية غير مسموح فيها بالفوز لغير من تختارهم السلطة وترضي عنهم، نظم قوائم الأغلبيات المطلقة المغلقة الكبيرة التي تعزز وجود السلطة بشكلها الحالي دون السماح ولو بقدر من الهامش الديموقراطي الذي يفتح باب الأمل أمام إمكانيات التغيير والإصلاح ولو بشكل تدريجي وبطئ.

 إن أمر اختيار النظام الإنتخابي الذي ستجري علي أساسه الإنتخابات البرلمانية القادمة في مصر متروك الآن للعقلاء من أبناء الوطن، وعلي وجه الدقة : 

القريبين منهم من صناع السياسة ومتخذي القرار في البلد، فليس المطروح الآن محاولات الإقناع والترويج الإعلامي الذي يذهب إلي تزيين الاستبداد والترويج له، فهذه الأساليب قديمة وبالية وغير مقنعة ولا حتي للأطفال الصغار. 

كما أنه أيضاً مسؤولية القوي الديموقراطية وممثلي المجتمع المدني الواسع القادرين علي طرح أفكار عملية وقابلة للتنفيذ كحلول انتقالية تمكننا من عبور أزمة الانتقال والتحول نحو الديموقراطية بسلامة وبأقل قدر من الخسائر والتبعات الغير مرغوبة لجميع مكونات وعناصر الأمة. 

 فهل من الممكن اجراء حوار جاد وسريع بين تلك الأطراف في محاولة أخيرة للتوصل الي تفاهمات عملية قبل فوات الأوان ؟ أم ستترك الأمور علي حالها دون الإهتمام بالنتائج التي ستترتب عليها ؟ 

فلننتظر ونري ما ستأتي به الأيام والأسابيع القادمة.

 --------------------------------------------------------------------------

 * كاتب ومحلل سياسي

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة