خلال متابعتي للاستديوهات التحليلية والمداخلات حول تنافسية الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، لفت انتباهي أن عددًا كبيرًا من الأكاديميين والباحثين، الذين تتم استضافتهم في البرامج الحوارية والتحليلية، يتحدثون عن مراكز الثقل الانتخابي وخريطة توزيع المندوبين بين الولايات من واقع أرقام ونتائج انتخابات 2020.
غير مدركين أن تلك الأرقام المستخدمة، لم تعد صحيحة بعدما أدخلت عليها حزمة من التعديلات الرقمية، في ضوء التعداد الوطني الأمريكي 2024، نتج عنه خسارة (7) ولايات لمقعد من حصة كل منها أبرزها كانت كاليفورنيا (صاحبة الحصة الأكبر من مقاعد المندوبين )، وذلك مقابل ارتفاع عدد مقاعد المندوبين في عدد (6) ولايات كانت أهمها تكساس (زادت حصتها بواقع مقعدين).
تضارب المعلومات
هذا الخلل رغم بساطته، إلا أنه يؤشر لمعامل بالغ الخطورة يتمحور حول هشاشة معايير الكفاءة المهنية، والخبرة في التعامل مع قضايا السياسات العامة أو تحليلات المشهد المجتمعي العام، وأعادني لحوار تم منذ يومين مع إحدى المشاركات في جلسة حوارية كنت ضيفًا خلالها على إحدى المؤسسات الفكرية.
حيث اشتكت الفتاة ( والتي تعمل ضمن فرق عمل أحد المشروعات المجتمعية الهامة للغاية ) من تضارب المعلومات والتشدد في فرض النماذج والاستمارات من جانب الاستشاري الأكاديمي الكبير الذي تستعين به إحدى مؤسسات الدولة الفاعلة في مجال الشباب ورفضه لأي محاولة للتجديد أو التطوير يقوم بها المتدربين من واقع الاحتكاك العملي بالبيئة العامة .
لأكتشف من بعض الوقائع التي ذكرتها أن هذا الاستشاري يلزم المتدربين باتباع نماذج وقواعد قانونية قديمة لم يعد معمولا بها بعدما تم تعديلها في قوانين لاحقة بقواعد جديدة تخالف ما يتشدد في الزامهم به بل كان الأغرب أن يصل ليدي ( في ذات التوقيت ) محتوى تدريبي تقدمه إحدى المؤسسات العامة للراغبين في الترشح خلال الانتخابات العامة القادمة معظم ما به من معلومات عن التشكيل والاختصاصات منقول ( نصا ) من قوانين وتشريعات تعود لما قبل عام 2010 .
طغيان الاستعانة بالأكاديميين
أيضًا وخلال الأسابيع الماضية تابعت عدد من أنشطة بعض منظمات المجتمع المدني ذات الطابع الحقوقي، والتي تراكمت لها سمعة ومكانة وتقدير - عن فترات نضال سابقة - حيث كان من الغريب طغيان الاستعانة بالأكاديميين وتنفيذ الأنشطة في أماكن أكاديمية وبمشاركة عناصر طلابية، من الدارسين داخل قاعات محاضرات، تضم عدة مئات منهم ( وهو أمر تنتج عنه صور توثيقية جيدة وإن كان لا يترك أثرًا حقيقيًا أو مستدامًا على الدارسين )
الغريب هنا، أن هذا النمط التنفيذي للأنشطة، التي تقوم بها بعض منظمات المجتمع المدني، يحاكي ما كانت تقوم به بعض الأجهزة الحكومية والمبادرات اللصيقة بها، وكانت تقارير المنظمات الحقوقية ( وقتها ) تنتقد غياب الرؤية والكفاءة في اختيار المتدربين أو ضمانات الاستمرارية فإذا بذات المنظمات والدوائر تذهب لذات السلوك والمنهجية باعتبارها أكثر أمانا وأيسر تنفيذا حتى ولو على حساب القضية .
الأخطر في تلك الأمثلة والسلوكيات كونها تمثل سياسة جديدة على مؤسسات العمل العام ومنظمات المجتمع المدني والتي تراكم لديها خلال سنوات طويلة سابقة نزوع للاستقلالية والتعامل مع كوادر وباحثين من نشطاء العمل غير الرسمي بما يتميزون به من كفاءة وتطور وتفكير خارج الصندوق في طرح البدائل والسياسات الناجزة لمعالجة أوجه القصور العام بعكس قطاع واسع من الأكاديميين الذين يفتقدون لمهارات العمل الجماعي وأدوات الاتصال الحديث مع طغيان الرؤى الأكاديمية الكلاسيكية على تعاملهم مع الملفات الساخنة وتهريبهم من طرح بدائل التغيير الجذري .
خلال أيام مضت كتب الحقوقي الكبير الأستاذ / نجاد البرعي منبهًا ومحذرًا من مخاطر تخفيض تصنيف المجلس القومي لحقوق الإنسان/ وضرورات التعامل الجدي مع هذا التهديد الذي ينال من طبيعة المجلس، كآلية وطنية مستقلة تعمل على الملف الحقوقي والذي أشاركه فيه، وأعتقد أنه يأتي كنتيجة مباشرة لاختلال بوصلة عمل المنظمات الحقوقية والعديد من المؤسسات الفكرية والثقافية التي اصطنعت لنفسها جمهور (محمول) يتكرر في كل نشاط، ويستدعي في كل مهمة َ، لاظهار التفاعل مع حوارات ونقاشات (معلبة ) لا تنتج أثرًا، ولا تحقق نتيجة.
*****
*كاتب المقال: مدير المجموعة المصرية للدراسات البرلمانية