البطريرك نفسه لم يستطع أن يعاقب الذين كان يطلقون زوجاتهم في المحاكم الشرعية دون سبب شرعي بل وجه اللوم لهم فقط، ولم يملك أيضًا سوى توجيه اللوم فقط إلى الذين يزوجون بناتهم إلى أكابر المسلمين أو إلى المسيحيين من غير أبناء الطائفة، كما أن البطاركة على الرغم من رفضهم القاطع لعادة التسري التي انتشرت بين القبط، إلا أن بطاركة القرن الثامن عشر لم يذكر عنهم أي شجب لهذه العادة تجنبًا للاصطدام بكبار الأراخنة. هذا ما ذكره كتاب أثر الأراخنة على أوضاع القبط في القرن الثامن عشر، في إشارة إلى مدى تمكن الأراخنة “العلمانيين من المسيحيين” في إدارة شؤون المسيحيين آنذاك.
لم يقتصر الصراع بين العلمانيين ورجال الدين من الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية على الفترة الشهيرة التي تُحكى عن عصر البابا شنودة الثالث خليفة مارمرقس المائة والسابع عشر في الترتيب والتي تناولناها في الحلقة الأولى من سلسلة “علمانيون ورهبان”، لكنها بدأت مبكرًا حتى اكتسبت خلفية تاريخية سلبية في أذهان الإكليروس الذين قرروا فيما بعد القضاء التام على تدخل العلمانيين في أي شأن كنسي، الأمر يشبه فلسفة مذبحة القلعة بالتحديد.

انطلاقًا من الرصد السابق، حاولنا تتبع هذا الصراع وإرجاعه إلى جذوره التاريخية، حيث ظلت السلطة الدينية مُحتكرة بشكل كبير من قبل البطاركة والرهبان، الذين رأوا أنفسهم ممثلين للروحانية والشرعية الدينية. في المقابل، يرى العلمانيون أن لهم دورًا رئيسيًا في إدارة شؤون الكنيسة، ليس فقط بوصفهم داعمين لها ماليًا واجتماعيًا، بل أيضًا كمشاركين في القرارات التي تؤثر على حياتهم اليومية.
اقرأ أيضًا:علمانيون ورهبان: كيف تدير “جماعة المؤمنين” الحوار فيما بينها؟ (1)
في هذه الحلقة، نرصد شكل وأسس وطبيعة العلاقة بين العلمانيين والرهبان منذ حكم الدولة العثمانية وحتى نهاية القرن الثامن عشر.
منذ “الغزو العربي” لمصر، اختلط المسيحيون بالعرب والمسلمين وأخذوا عنهم بعض العادات الاجتماعية المنافية لروح المسيحية، وتحديدًا الوجهاء والأثرياء منهم، أبرزهم كانت عادة التسري التي واجه بطاركة الكنيسة بسببها صراعًا ضخمًا. والتسري في اللغة العربية أن يتخذ الرجل السَرية وهي الأمَة المملوكة، وفي اصطلاح الفقهاء هو أن يتخذ سيد أمته الرقيقة للجماع ولا يجامعها غيره، ويذكر القس منسى يوحنا في كتابه تاريخ الكنيسة القبطية، إن عادة التسري انتشرت بين الأقباط انتشارًا هائلًا وتحديدًا الأثرياء منهم المعينين في الوظائف الحكومية والدواوين حيث ينعمون بالراحة والرفاهية، فتهافتوا على السراري وكان الواحد منهم يجلب إلى بيته عددًا منهن دون عقد شرعي، ولم يجدوا في أغلب الأحيان من يتصدى لهم بسبب انشغال البطاركة بجمع الغرامات المفروضة.
تأصلت هذه العادة في وجهاء الأقباط وألفوها واشتدت وبرزت بشكل أوضح في العصرين المملوكي والعثماني، وتحديدًا من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، لكن في القرن العاشر وحين جلس إبرام بن زرعة على الكرسي البابوي، حارب هذه العادة لكنه لم يلق سوى الهجوم والمقاومة وكان أشد المقاومين له رجل يدعى أبا السرور كان أبرز الأثرياء وكلمته مسموعة عند الحكومة، وله من السرايا الكثيرات، فعنفه البابا إبرام ووقع عليه الحرمان الكنسي، فما كان من أبا سرور إلا إنه دس له السم في الطعام وقتله عام 979 بعد ثلاث سنوات من البابوية.
كان موقف البطاركة من التسري محددًا بالرفض الشديد، إنما كان الإفصاح عن هذا الرفض يتشكل وفق مدى قوة العلمانيين آنذاك ونفوذهم ووصولهم للسلطة، فهناك من دفع حياته ثمنًا مثل بن زرعه ومن عزل من منصبه مثل مرقس الخامس، والأكثرية غضوا البصر عنها مثل فيلوثاؤس خليفة البابا إبرام بن زرعة، الذي يذكر عنه القس منسى أنه اهتم لنفسه وأرخى العنان لكافة الملذات الجسدية، وهكذا ظلت هذه العادة محل شد وجذب بين الوجهاء من ناحية والإكليروس من ناحية أخرى، حتى بدأ حكم الدولة العثمانية التي ظهرت معها أسماء لامعة لأراخنة كانوا ذات تأثير بين أبناء الكنيسة المصرية.

سيطرت الدولة العثمانية على مصر في عام 1517، وعوملت ككل الولايات التابعة للباب العالي آنذاك، وفرضت عليها نظام الملة، ويُعرف الأب حنا سعيد كلداني هذا النظام في كتابه “المسيحية المعاصرة في الأردن وفلسطين”، قائلا: الملة جماعة تتألف من المواطنين المحليين لا من الأجانب خاضعة للباب العالي، لها ديانة محددة، ولا تنتمي إلى أصل عرقي واحد، وتكوّن وحدة سياسية اجتماعية مستقلة تتمتع بقدر من الحكم الذاتي في الأمور الدينية والتعليمية والقضائية.
اقرأ أيضًا:كمال زاخر في حوار خاص: الرهبنة في عصر البابا شنودة كانت بابًا خلفيًا لـ”الترقي الاجتماعي”
تطبيقًا لنظام الملة، كان البطريرك المرقسي في مصر هو ممثل الطائفة الأرثوذوكسية وينوب عن شعبه في كل شيء ومسؤول عن جمع الجزية منهم وتوريدها، وظل هذا الوضع مستقرًا لسنوات طويلة، بدأ بعدها ظهور حركة الصراع والوجود بين البطرك من ناحية ووجهاء الأقباط من ناحية أخرى في السيطرة على شؤون الطائفة، وفي هذا السياق يفسر الفرنسي آلان روسيون في كتاب الحداثة المتنازع عليها: الإصلاح الاجتماعي والسياسي في مصر، أن نظام الملة العثماني والذي استند على مبدأ عام وهو الإدارة الذاتية للطوائف الدينية في إطار الولاء الجماعي للباب العالي، منح متسع للحركة داخليًا بين أبناء الطائفة للتنافس حول التحديث والإصلاح والذي تزايد مع نهاية القرن السادس عشر عندما بدأ العلمانيون يتطلعون إلى إزاحة البطاركة عن المشهد، وأن يحلوا محلهم في تمثيل الطائفة أمام السلطات، وأن يتولوا إدارة أمور الطائفة.
وبالإشارة إلى نهاية القرن السادس عشر وعلاقته بالصراع المذكور، يشرح الدكتور مجدي جرجس، إنه مع تسرب الضعف إلى هياكل الدولة العثمانية، تحللت مركزية السلطة وأصبح الباشا مسؤولًا، ثم تقلصت السلطة داخليًا في مصر فأصبحت تؤول إلى مراكز قوى أخرى مثل رجال الأوجاقات العسكرية والأمراء وأصبحت السلطة الفعلية بين أيديهم، انعكس هذا الوضع على قبط مصر، فكان كبار الأقباط منتشرين في الجهاز الإداري والمالي للدولة ومنهم من المباشرين والأثرياء، فمثلت هذه الحالة عمودًا فقريًا في وجود الأراخنة وحركتهم ومكانتهم التي أصبحت تفوق مكانة الإكليروس “رجال الدين المسيحيين” في الكنيسة.
عظمت مكانة الأراخنة أو العلمانيين في نفوس المجتمع القبطي وقتها بسبب علاقاتهم مع الأمراء وثرواتهم الذين كان ينفقون جزء كبير منها على الكنيسة وشعبها، وكذلك توسطهم للعامة في الوظائف والدواوين، عطفًا على تعضيد مكانة الأقباط الاجتماعية في ظل حياتهم كطائفة مسيحية في كنف دولة إسلامية. وبرز في الأراخنة أسماء مثل المعلم يوحنا أبو مصري، جرجس أبو منصور الطوخي، لطف الله أبو يوسف، جرجس يوسف السروجي، والأخوين الجوهري إبراهيم وجرجس اللذان حازا شهرة عظيمة دون غيرهما.
وكانت أهم وظائف الأراخنة تعيين البطريرك، تعمير وترميم الكنائس والأديرة، الاهتمام بالتعليم والثقافة، عمل الميرون.
يؤكد ماركو الأمين الباحث في التاريخ القبطي: أن القرن السابع عشر بدأ يشهد سلسال رئاسة الأراخنة أو الأعيان القبط، وبدأت حصانة المال وحمايته للكنيسة، وهناك عدد كبير من المخطوطات التي تؤرخ لتلك الفترة وتظهر مدى تغلغل العلمانيين في الحياة الكنسية واهتمامهم بها وتكفلهم باحتياجاتها.
حسم هذه الحالة التي أصبح عليها وجهاء الأقباط، شكل الصراع الذي تجلى في مواقف عدة، استندوا فيها على علاقتهم بالسلطات، لذا كانت الدفة تميل لصالحهم في أحيانًا كثيرة، بل استصدروا أحكامًا تدعم مواقفهم، أبرزها حين تربص أعيان الوجه البحري للبابا مرقس الخامس رقم 98 الذي رفض عادة التسري بين أعيان الأقباط، فنجحوا في عزله عن كرسيه وتعيين بطريرك آخر بديلًا عنه.
وفي عهد البابا متاؤس الثالث ورقمه مئة في ترتيب كرسيه، كانت الأمور شبه مستقرة بينه وبين الأراخنة، فقد فطن لدورهم المتعاظم وقوتهم وحاول أن يكسب ودهم، فمرت فترة حبريته بسلام، إلا أن الوضع أشتد حين جلس مرقس البهجوري على سدة البابوية، وكان اختياره بطريركًا جاء بالإرادة المنفردة للأراخنة وحدهم دون تدخل من الإكليروس، ففي نص تحليل وثائق البطريرك قدم لنا الدكتور مجدي جرجس قراءة في تركته في كتابه نصوص وقراءات حول تاريخ القبط فيذكر: “كان في ذلك الزمان رجل من أكابر الأراخنة بمصر يدعى بالمعلم بشارة وكانت له كلمة مسموعة بين أراخنة الشعب فقام هو وجماعة من الأراخنة المصريين بالبحث عن الراهب الذي يصلح لإقامته بطريركا فوقع الاختيار على الأب مرقس البهجورى”، وعلى الرغم من هذا الاختيار فقد وقعت بينه وبين المعلم بشارة منافسة أدت إلى اشتداد المقاطعة بينهما ووقوع عداء عظيم، أي أن الأرخن ومن معه رفضوا أن تصبح الكلمة الأولى في إدارة شؤون الطائفة للبابا مرقس، حتى ضيقوا الخناق عليه فهرب من وجههم إلى الصعيد لمدة 4 أعوام، وتصفه السيرة في السنكسار بأنه كان أحمقًا جدًا في هذه الفترة، لكنه عاد واستقام وسعى في الصلح مع المعلم بشارة وزاره في منزله ليكسب وده، وهي إشارة بالغة الأهمية على مدى سيطرة العلمانيين على إدارة شئون الكنيسة والطائفة برمتها في القرن السابع عشر.

في نهاية القرن نفسه، يظهر اسم الأرخن جرجس أبو منصور الطوخي في عهد البابا يؤانس السادس عشر، تذكره السيرة والوثائق أنه الرجل الذي دبر احتياجات طبخ الميرون المقدس بعدما كان متوقف لسنوات طويلة لدرجة أن علاقاته وثرائه مكناه من الحصول على الزيوت والعطور الباهظة، لدرجة أنه كلف أحد الحجاج أن يحضر له دهن البلسم من الحجاز، وبالفعل تم عمل الميرون وأنفق الأرخن مبالغ كثيرة لاستضافة الأساقفة والبطريرك، كما أنه قام بترميم عدد من الكنائس أبرزهم كنيسة مار جرجس بحارة الروم والكنيسة المعلقة.
تُغلق هذه المرحلة بنهاية القرن الثامن عشر حيث ظهر وتجلى سلطان القبط -كما يصفه البعض- المعلم إبراهيم الجوهري في عهد البابا يؤانس الثامن عشر رقم 107، حيث ولد في حدود 1733 وتوفي عام 1795. سطع نجم الجوهري وهو في عمر الأربعين، حين بدأ العمل لدى علي بك الكبير ولم يمر عام واحد حتى أصبح كبير المباشرين، فحاز ثروات هائلة جراء هذا الترقي الوظيفي والاجتماعي، أنفق معظم هذه الأموال على تعمير الكنائس والأديرة وفقراء الكنيسة والمؤسسات الخيرية.

لم يحظ أرخن في الكنيسة مثلما حظى المعلم إبراهيم الجوهري من تأثير وشهرة، الأمر الذي لم يتوقف عند حدود تمثيله للطائفة القبطية برمتها، إنما ذكرته المصادر التاريخية الإسلامية، وخصص له الجبرتي إشارات تعبر عن مكانته المرموقة، وفي كتابه “المعلم إبراهيم الجوهري- سيرة مصرية من القرن الثامن عشر” يرصد الدكتور مجدي جرجس في الفصل الرابع كيف مثل الجوهري الطائفة منذ 1772 أمام الدولة، ولم يكن الأمر كُرهًا للإكليروس بل صار في انسجام وتعاون حسب مصالح الطائفة.
كما تكشف الوثائق التي حللها الكتاب، عن علاقات وثيقة بين المعلم إبراهيم الجوهري وكبار مشايخ الأشراف، أبرزهم كان عمر مكرم، وكان ملمًا بطرق التعامل مع المؤسسات المختلفة وبالتحديد المؤسسة الشرعية، وحاز ثقة وقبول كبار الأمراء، وتوسط للكثيرين بالعمل وعمر الأديرة والكنائس أهمهم دير الميمون، دير برسوم العريان، كما اهتم بكل الأديرة العامرة مثل أديرة وادي النطرون والبحر الأحمر ودير المحرق وغيرهم، حتى توفى وأكمل سعيه أخيه جرجس الجوهري.

يلخص ماركو الأمين الباحث في التاريخ القبطي هذه الفترة أن الشعب وقتها رأى الأراخنة والأعيان القبط بمثابة رؤساء الأمة المسيحية ويظهر ذلك بوضوح في الألقاب الفخيمة التي يلقب بها كتاب المخطوطات الأراخنة وأهمها لقب الرئيس الشيخ، أي كان معهم مايشبه التفويض الشعبي.
انتهت فترة تصدر الاسم الواحد من أعيان القبط بعد وفاة المعلم جرجس الجوهري، وأصبح البطريرك هو القائم والممثل للشعب المسيحي في مصر، حتى بدأت حقبة جديدة تصدر فيها العلمانيون المشهد مرة أخرى حين لمع اسم بطرس باشا غالي.