المحروقات.. والحكومة التي تسأل "GPT"

تزامن الإعلان عن رفع أسعار المحروقات، الذي تسميه الحكومة ربما على سبيل الدلع "تحريك أسعار"، مع استشهاد المناضل الكبير يحيى السنوار.

بدرجة واضحة لوحظ تدني الاهتمام الشعبي بالخبر الأول، رغم اتصاله الوثيق والحتمي بحياة الناس التي لم تعد تحت بطش السياسات الاقتصادية كالحياة.

واردٌ في تأويل ذلك، أن يقال إن السنوار بما كان من مشهد استشهاده البطولي، قد استحال حالة أسطورية ملحمية، جديرة باجتذاب الأضواء، وهذا وإن كان صحيحًا، لا يعبر عن الحقيقة تعبيرًا جامعًا مانعًا.

يحي السنوار
يحي السنوار

أغلب الظن أن عدم الاكتراث الشعبي بخبر أسعار المحروقات، يرجع أيضًا لأن الناس يائسون محبطون، تساوت عندهم الأشياء، كالشاة لا يُضيرها سلخها بعد ذبحها، فإذا بهم يتلقون الكارثة متبلدين، ولسان حالهم "ضربوا الأعور على عينه".

لم يعد الغلاء في مصر المحروسة خبرًا؛ غدا من تفاصيل الحياة اليومية، مثل فنجان البن المغشوش إثر خلطه بالبازلاء بعد الاستيقاظ من النوم، ففي صبيحة كل يوم، وفي مساء كل ليلة، هنالك موجة غلاء تضرب حياة البشر الذين لم يعد بوسعهم إلا الحسبنة والحوقلة.

في التعريف الأكاديمي للخبر تقول الدكتورة إجلال خليفة: "الخبر هو تقرير عن حدث ليس معروفًا للناس، ومنطقي على ذلك أن يتسم بالجدة".

ولمَّا كان القارئ يعرف، وغير القارئ يعرف، والهاجع والناجع والنائم على بطنه والحطابون في أعالي الجبال والفلاحون حول نار المدفئة، يعرفون أن زيادة الأسعار غدت سيناريو رتيبًا لا ينتهي ولا يتوقف، فإن نشر الأخبار عنها لم يعد يثير شغفًا أو يستدر اهتمامًا.

تكرار الأحداث ينفي عنها صفة "الخبرية"، والظاهر أن الخبر في مصر لم يعد ارتفاع الأسعار بل ثباتها، وعليه فليس غريبًا أن نقرأ قريبًا عناوين صحفية على غرار: "مفاجأة.. لا زيادة في أسعار كذا"، والأغلب أن الناس لن يصدقوا.

في المبالغة حول ضرورة أن يكون الخبر غير مألوف كان يقال على نطاق واسع، إنه إنْ عَقَرَ كلبٌ رجلًا فليس ثمة خبر في الحكاية، لكن الخبر أن يعقر الرجل كلبًا.

لا أحد يعرف مَنْ ذاك الجهبذ الذي اخترع تلك السخافة؟

ربما يكون أحد رموز إعلام المرحلة؛ ممن يتحفوننا بأداء أقرب إلى الكوميديا الهزلية، لكنها مع الحسرة كوميديا سوداء، فإذا بالضحك في مصر، و الضحك إزاء ما آلت إليه أحوالها كالبكاء، وفق مقولة شاغل الدنيا المتنبي.

الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء وعد بعدم رفع أسعار المحروقات لمدة 6 شهور - فيس بوك مجلس الوزراء
الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء وعد بعدم رفع أسعار المحروقات لمدة 6 شهور - فيس بوك مجلس الوزراء

وعلى الرغم من هزلية المقولة، فاللافت أنها غدت صادقة صحيحة، فأن يعض كلبٌ رجلًا فهذا أمر مألوف، حيث كثيرًا ما يُعض المواطن في زقاق أو حتى "كمبوند" تفرض فيه اللواحم المسعورة "قوانينها الكلابية"، ووارد بعدئذٍ أن يهرع لتلقي المصل العلاجي فلا يجده، ووارد أن يموت جراء ذلك بداء الكلب، وعليه فما دام الحال كذلك، فلا خبر في المأساة.

تلك قصة مكررة، ومن أسبابها أن أعداد الكلاب الضالة في الشوارع، يبلغ نحو 15 مليونًا وفق تقديرات وزارة الزراعة، ما يعني أن هناك كلبًا لكل تسعة مواطنين تقريبًا، وهذه حصة تعتبر من أعلى الحصص عالميًا، لكن الناس ناكري جميل لا يذكرون الإنجازات.

عبدالغفار يسأل والذكاء الاصطناعي يجيب!

من الإنجازات كذلك أن هناك حوالي مليوني مواطن تعرضوا لعقر وهجمات كلاب سائبة ضالة، أو مملوكة لأشخاص خلال عام 2020، وذلك وفق تصريحات لوزير الصحة خالد عبدالغفار، الذي كشف مؤخرًا عن أنه سأل تطبيق الذكاء الاصطناعي "شات جي بي تي" عن أحوال مصر، فأجابه بأن مستوى المعيشة يتقدم، ما يحدو بنا إلى أن نطلب إلى معاليه بما إن علاقته بالسيد "جي بي تي" على هذا القدر من الود، أن يستشيره في حل لأزمة الكلاب الضالة التي تقف الحكومة أمامها عاجزة أو غير مكترثة.

 الدكتور خالد عبد الغفار نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان- فيس بوك مجلس الوزراء
الدكتور خالد عبد الغفار نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان- فيس بوك مجلس الوزراء

وبطبيعة الحال ليس منطقيًا أن ندعو الوزير لأن يسأل الذكاء الاصطناعي عن حلول لأزمة الغلاء، ففي هذه الحالة ليس مستبعدًا أن يصاب السيد "جي بي تي" بلوثة عقلية، فيجيبه: "الملاحة والملاحة وحبيبتي ملو الطُرَّاحة".
واللافت أنه ليست أخبار الكلاب الضالة وحدها هي المكررة، فكوارث المحروسة التي نسأل الله أن تبقى محروسة تتكاثر ذاتيًا، فمن سقوط القطارات في التُرع، وموت العشرات في حوادث الطرق، وغرق المدن الساحلية في أمطار الشتاء، والأخبار بأن "أهل الشر" تعمدوا سد البالوعات، مرورًا بهدم شواهد التاريخ، ثم نقص سلع غذائية استراتيجية، أو أدوية لأمراض مزمنة، وأخيرًا وليس آخرًا، رفع أسعار المحروقات.

والمفارقة أنه بعد كل خبر كارثي مكرر، تتكرر سلسلة من الأخبار المكررة أيضًا، فبعد أسعار المحروقات، تصر الحكومة مثل "ريما" على أن ترجع لعادتها أو قل تصريحاتها القديمة.

هنا مسؤول "يدلق" التصريحات بأن هذه زيادة اضطرارية نظرًا للأوضاع الإقليمية المضطربة مرةً، أو إثر الحرب الروسية الأوكرانية تارةً، وقد يقال إن خلافات شيرين وطليقها حسام حبيب، أو فوز الزمالك بالسوبر الإفريقي وراء القرار.

وبعد الخبر المكرر لتفسير الخبر المكرر، ثمة أخبار مكررة أخرى، ودوخيني يا ليمونة أو "يا حكومة".

فلان الفلاني المسؤول الكبير يقسم بالعظيم ثلاثًا، على أن أسعار السلعة الفلانية لن تزيد إثر زيادة المحروقات.
لكن ما هي إلا أيام وأحيانًا ساعات، حتى يثبت أن ذاك القسم كان محض يمين غموس، لخداع الجوعى الذين لم يعودوا يجدون إلى الغموس، ولا حتى إلى الرغيف من دون غموس سبيلًا.

إنه جشع التجار ونهم الاحتكار، ألا إن لعنة الله على الفاسدين!

ولا تنتهي سلسلة الأخبار المكررة، فبعد ارتفاع أسعار السلعة التي أقسم المسؤول الفلاني على تثبيتها، سترفع الحكومة أسعار الكهرباء والماء والإنترنت المنزلي والتجاري والمواصلات العامة.

وسيبرر مسؤول آخر في خبر مكرر آخر بأن الزيادة لتحسين الخدمة، أو بأن الجهة المقدمة لها تخسر في السنة كذا وكذا.

وسيصرخ المواطن معدوم الدخل في خبر مكرر، من نيران الغلاء التي أكلت منه الجلد والعظم، وسيتشدق إعلاميو المرحلة، في برامج التوك شو أو بالأحرى التدليس شو، بأن الخدمة في مصر أرخص من أوروبا وأمريكا والهند والسند وبلاد تركب الأفيال، فيرد مستخدمو الناس بأن الأجور في مصر أقل من أوروبا وأمريكا والهند والسند وبلاد تركب الأفيال، وستذهب ردودهم سدى كالصرخة في البرية.

الأخطر من ذلك، أن بعض الصارخين من الإفقار، ممن لن يجدوا من الصحافة أو البرلمان تعاطفًا، سيذهبون إلى "السوشيال ميديا" للتعبير عن آلامهم، لكن رويدًا ذلك خطر على الدولة، وعقوبته أن يُزج بهم خلف القضبان، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية، أو نشر أخبار كاذبة، ذلك رغم أن لا أخبارًا صادقة في التراجيديا المصرية الراهنة إلا ما يقولون.

هكذا تسير الأمور وهكذا ستسير؛ ليس كاتب السطور عرَّافًا يملك كرة بلورية، ينظرها فيستشرف الغيب، فهذا علمه عند الحكيم الخبير، إلا إن كان للحاكمين بأمرهم رأي مغاير، لكونهم "منذورين" يكلمون ذا العرش في السماء السابعة فيعطيهم البركة.

قولًا واحدًا لم يبق في قوس الصبر منزع، والناس أكلوا من جوعهم وشربوا من عطشهم بالفعل، والحد الأدنى للأجور وهو بالمناسبة غير مطبق كليًا على الأقل في القطاع الخاص، لا يكفي لتوفير الحد الأدنى من أساسيات الحياة؛ المأكل والملبس والمشرب وفواتير الكهرباء والماء والمواصلات، ولا نقول الحياة الكريمة.

ارتهان السياسات الاقتصادية لإملاءات صندوق النقد الدولي، وما تسفر عنه من انتزاع اللقمة من الأفواه، ورفع غطاء الستر عن "بقايا الطبقة الوسطى"، لا يمكن تصنيفه إصلاحًا اقتصاديًا، ولا حاجة لأمثلة عن الخراب الذي حلَّ ببلدان سبقتنا في سكة الندامة.

إنسانيًا كيف تقنع مَنْ يتضور جوعًا أن يصبر؟

يقول المثل الشعبي إن الجوع كافر، لكنه ليس مجرد كافر، إذ يؤدي إلى "تكفير الناس" بقيمة الوطن، والمؤكد أن هتافًا حنجوريًا على غرار "نجوع لنبني الوطن" لم يعد له الحد الأدنى من القبول شعبيًا، بخاصة مع الوعود الزائفة التي تخرج من رحم وعود زائفة، ومنها على سبيل المسخرة ما تفتقت عنه عبقرية إعلامي من المقربين إلى النظام، ولهم عنده جنات وعيون وفاكهة مما يشتهون، حين زفَّ البُشرى بأن الرخاء المنشود والخير العميم وبحبوحة العيش، ستتأتى مع حلول عام 2077 أي بعد أكثر من نصف قرن.

رغيف الخبز أساس من أساسيات المعيشة في مصر
رغيف الخبز أساس من أساسيات المعيشة في مصر

تكرار بتكرار.. لكن هل من مجيب؟

ولما كانت الكوارث مكررة، فقد أصبح مكتوبًا على المخلصين ممن أدركتهم حرفة الصحافة، أن يكرروا بدورهم النصائح بأن البوصلة الاقتصادية ضالة، وليس مقبولًا بأي حال الاستمرار في اقتفائها حتى ترمي البلاد والعباد في هاوية.

الإنتاج ثم الإنتاج في شقيه الزراعي والصناعي، و"مصر الشعب" ليست عاجزة عن ذلك، وإنسانها مستعد لأن ينحت في الصخر متى أحس أنه المستهدف من خطط التنمية.

القوة الأساسية تكمن في البشر، والثابت أن مصر منذ الانفتاح الساداتي المشؤوم حتى اللحظة الراهنة، لا تُصدِّر سلعة تنافسية باستثناء إنسانها الذي ينجح ويتفوق ويبدع في المهجر.

أي اتهام للشعب المصري بالكسل والخمول ورفض العمل، هو كذبة لتبرير فشل السياسات الاقتصادية التي لم يخترها الشعب بالمناسبة، ولم يتح له حق الاعتراض عليها، في وقت يرفض فيه المسؤولون المحاسبة وفق الدستور، ولا يجدون غضاضة في الإدلاء بتصريحات بأن "حسابهم يوم الحساب".

حساب المسؤول يوم العرض لن يرمم حياة إنسان دمرتها سياسته.

تقرير "بلومبرج" يتوقع مزيد من زيادات الأسعار في وقت ستبدو الحكومة مستعدة لردود الفعل الغاضبة من المواطنين
تقرير "بلومبرج" يتوقع مزيد من زيادات الأسعار في وقت ستبدو الحكومة مستعدة لردود الفعل الغاضبة من المواطنين

في الدنيا يقام الحساب على أسس دستورية وقواعد قانونية، إنْ لم تتبع تصبح الدولة "طابونة".

إلى متى بوسع الناس أن يتحملوا؟ وإلى متى سيدار الاقتصاد بالديون والسياسة بالسجون؟ كما يقول الكاتب الكبير أنور الهواري، في عبارة تختزل المشهد اختزالًا غير مخل.

لا إجابة على السؤال بالقطع، لكن القطعي والحال كذلك، أن مزيدًا من موجات الغلاء ستتلاحق، ومزيدًا من التصريحات ذاتها ستتبعثر ذات اليمين واليسار، وانتظروا أيها الجوعي فالخير قادم، واطمئنوا فسياسات الحكومة ستؤتي ثمارها، كل ما في الأمر أنكم لا تعلمون، كله تمام التمام، ولدينا أعلى مستويات النزاهة والشفافية والطهارة، والبيت ده طاهر، يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة