مع توجه محافظ البنك المركزي ووزير المالية للمشاركة في اجتماعات صندوق النقد والبنك الدولي بواشنطن لإجراء محادثات حول الوضع الاقتصادي، تحدث الرئيس السيسي عن أن مصر قد تضطر إلى مراجعة اتفاقها مع صندوق النقد الدولي إذا أدى إلى ضغوط لا يحتملها المواطن، تأثرًا بالتحديات الناجمة عن الأوضاع الإقليمية الراهنة.
تصريحات السيسي تلك جاءت خلال المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية، حيث قال إن تنفيذ مصر لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الحالي جاء في ظل ظروف إقليمية ودولية شديدة الصعوبة لها تأثيرات سلبية، إذ خسرت خلال الأشهر العشرة الأخيرة 6 أو 7 مليارات دولار، تمثل حجم الانخفاض في عائدات قناة السويس، وهذا الوضع قد يستمر لمدة عام كامل.
وقد انطلقت منذ أمس الاجتماعات السنوية لصندوق النقد ومجموعة البنك الدولي لعام 2024 وتستمر حتى السبت 26 أكتوبر في العاصمة الأمريكية. ويُفترض أن تحصل مصر بانتهاء المراجعة الرابعة على شريحة جديدة من قرض صندوق النقد بقيمة 1.2 مليار دولار، وذلك بعدما حصلت على نحو 820 مليون دولار في المراجعة الثالثة في أغسطس الماضي.

وبحسب المُعلن، تركز الجولة الرابعة من المراجعات على الإعفاءات الضريبية وزيادة الإيرادات ورفع القيود على استيراد السلع.
لكن جيمس سوانستون، الخبير الاقتصادي لدى كابيتال إيكونوميكس لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يقول إن الصندوق أجل في وقت سابق المراجعة انتظارًا لرؤية تقدم في بعض جوانب الإصلاحات مثل الدعم وبرنامج الطروحات الحكومية، وهي أهداف طويلة المدى.
قبل خطوة الحكومة الأخيرة برفع أسعار الوقود، قال جيمس سوانستون إن مصر أقدمت على رفع أسعار الوقود والكهرباء، لكنها تظل أقل بكثير من سعر تكلفتها، وبالتالي فإن المزيد من التقدم في رفع أسعار الوقود سوف يكون مطلوبًا، رغم أن المسؤولين سوف يرغبون في التحرك بحذر حتى لا يتسببوا في ارتفاع التضخم.
قروض صندوق النقد تعمق أزمة الديون
شروط صندوق النقد وقدرة المصريين على التحمل التي أتى رئيس الجمهورية على ذكرها في حديثه عن ضرورة مراجعة صندوق النقد، يؤكدها أيضًا الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني بين الأزمة الاقتصادية في مصر، حين يربط بين الأزمة الاقتصادية ولجوء الدولة "غير المبرر" إلى صندوق النقد.

ويقول الميرغني، في تصريحاته لـ فكر تاني، إن مصر التزمت ولا تزال ملتزمة بتنفيذ طلبات الصندوق، التي تشمل تخفيض قيمة العملة، وبيع الأصول المملوكة للدولة، وخفض العمالة في القطاع الحكومي، بالإضافة إلى رفع يد الدولة عن المرافق والخدمات العامة. ومع ذلك، لا تشهد الأوضاع الاقتصادية تحسنًا ملحوظًا.
ويطرح المرغني تساؤلات حول نتائج توصيات صندوق النقد والبنك الدولي، مستعرضًا أرقامًا تُظهر زيادة الديون المحلية من 2.6 تريليون جنيه في 2016 إلى 7.1 تريليون جنيه في 2023، وارتفاع الديون الخارجية من 55.7 مليار دولار إلى 164.7 مليار دولار خلال الفترة نفسها. بينما يشير إلى ارتفاع فوائد الديون بشكل ملحوظ، حيث تبلغ 1.8 تريليون جنيه في موازنة 2023/ 2024، بما يمثل 47.4% من إجمالي مصروفات الموازنة.
ويذكر أن تخلي مصر عن ملكيتها لجزء كبير من الأصول، مثل الشركات والأراضي الاستراتيجية، أدى إلى نتائج سلبية، أبرزها ارتفاع أسعار الأسمدة ورفع تكاليف الإنتاج الزراعي، وصولًا إلى ارتفاع العجز الكلي بالموازنة العامة، من 339.5 مليار جنيه في 2015/ 2016 إلى 1243 مليار جنيه في 2024/ 2025.
كما يشير "الميرغني" إلى عجز الميزان التجاري، والذي يشهد ارتفاعًا من 38.6 مليار دولار إلى 43.3 مليار دولار بين 2015 و2022، مع زيادة قيمة الواردات من 57.3 مليار دولار إلى 87.3 مليار دولار.
ويقول إنه رغم زيادة الحد الأدنى للأجور، إلا أن العديد من موظفي الحكومة والقطاع العام لا تشملهم هذه الزيادة.
كذلك، يلفت "الميرغني" إلى أن مشروعات الحماية الاجتماعية التي يفرضها الصندوق، مثل معاشات تكافل وكرامة، فشلت في حماية الملايين من الفقر، إذ ارتفعت معدلات الفقر من 27.8% إلى 35%.
مصر تمتلك مساحة عريضة من التفاوض مع الصندوق
الدكتور عبدالمنعم السيد، مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، يقول إن هناك مساحة كبيرة جدًا تستطيع الحكومة من خلالها التفاوض مع الصندوق حول مجموعة الإجراءات التي يتم اتخاذها. والسؤال الأول بالنسبة للصندوق هو كيفية سداد مصر التزاماتها النقدية، وكيفية سد الفجوة التمويلية التي تواجهها.

ويضيف السيد، في تصريحاته لـ فكر تاني، أن تبني الحكومة إجراءات لترشيد الاستثمارات الحكومية أو تقليل الدعم أو الوصول به إلى التكلفة الحقيقية، يجب أن يراعي الظروف الاجتماعية، خاصة مع حدوث زيادات في كثير من الأسعار، ما أدى إلى موجة تضخمية تشكل ضغطًا كبيرًا على الأجور في العديد من فئات المجتمع المصري.
منذ بدء تعاون الحكومة مع صندوق النقد الدولي في 2016، يشعر المصريون بضغط معيشي مستمر، خاصة مع ارتفاع سعر صرف الدولار من 8.88 جنيه إلى قرابة 49 جنيهًا حاليًا، إلى جانب الارتفاعات القياسية في أسعار المحروقات والسلع.
قبل المراجعة الرابعة مع الصندوق، قررت لجنة التسعير التلقائي للمنتجات البترولية، الخميس الماضي، زيادة أسعار المواد البترولية، ليصل سعر "بنزين 95" إلى 17 جنيهًا، و"بنزين 92" إلى 15.25 جنيه، و"بنزين 80" إلى 13.75 جنيه، والسولار إلى 13.50 جنيه.
وكان سعر البنزين قبل تطبيق برنامج صندوق النقد 3.65 جنيه للتر "بنزين 80"، و5 جنيهات لـ"بنزين 92"، و3.65 جنيه للتر السولار، بينما ارتفع سعر أسطوانة البوتاجاز من 15 إلى 30 جنيهًا، بالإضافة إلى زيادة شرائح الكهرباء.
وقال السيد إن على الحكومة أن تبحث عن بدائل للتعامل مع صندوق النقد الدولي، خاصة بعد فقدان مصر 7 مليارات دولار من إيرادات قناة السويس، وانخفاض عائدات السياحة في شرم الشيخ وطابا ودهب بسبب إلغاء الحجوزات نتيجة الأوضاع الإقليمية.
اقرأ أيضًا: المصريون وصندوق النقد.. وسنوات ثماني عجاف
كما طالب بتنشيط البورصة المصرية لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وإعادة هيكلة القطاع العام، وترويج الفرص الاستثمارية المحلية، إلى جانب إعادة صياغة الهيكلة الاقتصادية والمالية مع الصندوق، للوصول إلى خطوات أقل ضغطًا على المواطنين في تقليل الفجوة التمويلية.

حل مشكلات الاقتصاد ليس بيد الصندوق
بحسب دراسة بعنوان "سياسات تحرير سعر الصرف وأثرها على الفقر وتوزيع الدخل في مصر" في جامعة بني سويف، فإن انخفاض سعر صرف الجنيه المصري أدى إلى زيادات متتالية في أسعار السلع الأساسية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم، الأمر الذي زاد من حدة شعور الطبقات المتوسطة ومنخفضة الدخل بانخفاض دخولهم الحقيقية، كما زاد من حجم الفقراء بمصر، وارتفاع عدم عدالة توزيع الدخل منذ عام 2015.

يقول هاني توفيق، رئيس الجمعية المصرية للاستثمار المباشر سابقًا، إن حل مشكلات الاقتصاد في يد مصر وليس في يد الصندوق، ولن يتحقق إلا بالتشغيل الكامل لعناصر الإنتاج، وخفض عجز الموازنة مع الإبقاء على حزم الدعم المالي المشروط، وتحفيز الاستثمار الأجنبي مع انسحاب الدولة، وزيادة التصدير، وتوطين الصناعة لإحلال الواردات.
ويضيف توفيق، في تصريحاته لـ فكر تاني، أن تجارب فشل صندوق النقد الدولي تفوق بكثير نجاحاته، ولن ينقذ اقتصاد مصر إلا روشتة يضعها الخبراء المصريون المتعايشون مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية للبلد، والذين يمتلكون الإرادة السياسية لوضع وتنفيذ هذه الروشتة.
كما يؤكد على ضرورة جذب الاستثمار الأجنبي المباشر الحقيقي، مشيرًا إلى أن شراء الأجانب لفندق أو شركة ليس استثمارًا، بل نقل ملكية، فالاستثمار المباشر يبدأ بضخ رأس المال للإنتاج، والتوظيف، أو زيادة الطاقة الإنتاجية.
مصر نفذت نصف الإصلاحات المطلوبة حتى أبريل
بحسب صندوق النقد، استوفت مصر حتى أبريل الماضي 7 إصلاحات هيكيلة من ضمن 15 معيارًا هيكليًا وضعها الصندوق، لكنه لم يفصح عن الشروط المطوبة الباقة، بينما يقول مراقب إن مصر حافظت على سعر صرف مرن، وأعلنت عن التزام بالوصول بأسعار الوقود لسعر التكلفة بحلول نهاية 2025، لكن ملف الطروحات الحكومية مازال يحتاج إلى تحركات أسرع.

يقول رمزي الجرم، نائب مدير عام قطاع الرقابة الداخلية في بنك القاهرة، إنه لا يمكن تصور إصلاح الأحوال الاقتصادية إلا باستقلال القرار الاقتصادي عن أي ضغوط مهما كان نوعها أو مصدرها.
ويضيف الجرم، في تصريحاته لـ فكر تاني، أن إغلاق ملف صندوق النقد الدولي بشكل كامل، عبر سداد كافة مستحقاته من حصيلة إحدى صفقات الاستثمار الأجنبي المباشر المُزمع تنفيذها خلال الفترة القليلة القادمة، لن يترتب عليه تداعيات سلبية ملموسة بالمقارنة مع حجم التداعيات الحالية، خصوصًا بعد الحصول على شهادة الثقة بشأن سلامة الاقتصاد المصري.
ووافق الصندوق في مارس 2024 على زيادة قيمة قرض مصر إلى 8 مليارات دولار، بدلًا من 3 مليارات دولار التي تم الاتفاق عليها في ديسمبر 2022، كما سمح للحكومة بالتقدم للحصول على قرض إضافي بقيمة 1.2 مليار دولار من صندوق الاستدامة البيئية، ليصبح المجموع الكلي نحو 9 مليارات دولار.
ويقول الجرم إنه سيتم الاعتراف يومًا ما بأن شروط صندوق النقد الدولي أنهكت المواطن، وكان لها الأثر الأكبر في القضاء على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، فضلًا عن تأثيرها الخطير والكارثي على الاقتصاد الوطني، كما سبق أن اعترف وزير المالية السابق بالخطأ في الاعتماد على جذب المزيد من الأموال الساخنة.
الحكومة تزيد الأعباء وتنفذ أكثر مما يطلب صندوق النقد
ويرى محمد رمضان، الباحث الاقتصادي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن مراجعة شروط صندوق النقد والبنك الدوليين تنبع من رغبة حكومية في عدم زيادة التضخم، على الأقل حتى نهاية عام 2024. إذ تخطط الحكومة لتقليل النسبة إلى أقل من 18% أو 20% بنهاية ديسمبر القادم، حتى يمكن تخفيض الفائدة مع بداية عام 2025.

ويوضح رمضان، في تصريحاته لـ فكر تاني، أن هذه الرغبة كانت وراء تراجع الحكومة عن قرار رفع أسعار الوقود لمدة 6 أشهر قادمة، مما يعني أن الزيادة المتوقعة ستكون في الربع الأول من عام 2025. وأشار إلى أن المستهدف ليس من السهل تحقيقه إلا بشروط، أهمها خفض معدل الفائدة إلى 3%.
ويوضح رمضان أن هناك هامشًا للتفاوض دائمًا مع الصندوق وبعض الشركاء حول بعض الشروط إذا رأت الحكومة المصرية ذلك، خصوصًا مع اقتراب موعد المراجعة الرابعة التي كان من المقرر أن تتم في أكتوبر الحالي وتم تأجيلها إلى نوفمبر القادم.
ويتساءل رمضان عن سبب تقديم الحكومة أكثر مما يطلبه الصندوق، حيث تنص شروط الصندوق على ألا تزيد الارتفاعات في أسعار الوقود عن 10%، ورغم ذلك أعلنت الحكومة عن زيادات تصل إلى أكثر من 17%، قبل أن تؤجل القرار إلى بداية عام 2025.
ويضيف رمضان أن إمكانية التفاوض على شروط برنامج الصندوق غير ممكنة حاليًا، لأن ضبط ميزان المدفوعات لن يتحقق إلا بتحرير العملة، وبالتالي لن يكون هناك تفاوض على سعر الصرف، بعد اعتماد آليات سوقية لتحقيق مرونة سعر الصرف، إذ لا يمكن التراجع عن ذلك الآن بسبب التشوهات الكبيرة التي قد تحدث، خاصة في ظل اعتماد الاقتصاد على الأموال الساخنة.
وفيما يتعلق بإمكانية انسحاب مصر من اتفاق الصندوق، أكد رمضان أن هذا ممكن، وسبق أن حدث في بداية التسعينيات، لكنه أشار إلى أن الأمر لن يحدث الآن لأن الاتفاقات ليست مع الصندوق وحده، بل مع الشركاء الإقليميين، مثل السعودية والإمارات، حيث تُعد المساعدات التي يقدمانها جزءًا من خطة الصندوق. كما أن وثيقة ملكية الدولة وخطة بيع الأصول جاءت بتوصية من الصندوق.
وأشار رمضان إلى أن تصريحات الرئيس قد تكون تمهيدًا لحزمة الحماية الاجتماعية التي أعلنت عنها الحكومة مؤخرًا، عبر عدد من الإجراءات، من بينها زيادة الدعم النقدي عبر برامج "تكافل وكرامة" و"إيد واحدة" و"كلنا واحد"، بالإضافة إلى زيادة المعاشات والأجور.