“عمر الدولة ما انتهجت فكرة التطوير إلا مرات قليلة، ولما عملوا كده كان فيه فساد من اللي بيديروا عملية التطوير، زي ما حصل في شركة طنطا للكتان، والشوربجي وشركات تانية كتير، حتى الشركة القابضة بما لها من هيمنة وسيطرة على أموال الشركات، ما منعتش الفساد في غالبية الشركات التابعة ليها”.
هذه القناعة وصل إليها صبحي بدير، أحد القيادات العمالية بشركة النصر لصناعة الكوك والكيماويات الأساسية، في حديثه عن القرار الأخير بتصفية الشركة المصرية للإنشاءات المعدنية “ميتالكو”، والذي يمثل تكرارًا لعمليات تصفية منشآت صناعية حيوية كان من الممكن حل مشكلاتها بدلًا من تصفيتها، على حد قوله.
ميتالكو.. ضحية جديدة للتصفية
تأسست الشركة المصرية للإنشاءات المعدنية “ميتالكو” عام 1968 في مجال تصميم وتصنيع وتركيب مختلف أنواع الإنشاءات المعدنية. وعلى مدار الخمسين عامًا الماضية نفذت مشروعات البنية الأساسية للصناعات المعدنية والكيميائية داخل مصر.
بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 429 لسنة 1983 تحولت الشركة إلى هيئة القطاع العام للصناعات المعدنية، وفقًا لأحكام قانون شركات قطاع العمال العام رقم 203 لسنة 1991 ولائحته التنفيذية، لتحل محل هيئة القطاع العام للصناعات المعدنية “شركة مساهمة قابضة مصرية”.
وفي يوليو الماضي، نشرت جريدة الوقائع المصرية في عددها رقم 161، قرار الجمعية العامة غير العادية للشركة المصرية للإنشاءات المعدنية “ميتالكو” بشأن تصفيتها.
وأوضحت الجريدة أن القرار جاء بعد عرض إدارة الشركة تقريرًا على الجمعية، حيث اتضح غياب الدراسات المالية والفنية والتسويقية اللازمة لضمان جدوى استمرار نشاط الشركة.
وبناءً على ذلك، قررت الجمعية تأجيل البت في القرار، مع تطبيق المادة 38 بفقرتيها، انتظارًا لتقديم دراسة شاملة في ضوء نتائج أعمال الشركة حتى نهاية العام الماضي.
ورغم منح الإدارة الفرصة لإصلاح مسار الشركة، إلا أن الخسائر استمرت في التفاقم، مسجلة نحو 31.014 مليون جنيه في المركز المالي المنتهي في 31 ديسمبر 2023.
أصول وقدرات ميتالكو؟
وفق بياناتها الرسمية، هناك الكثير من المشروعات الضخمة التي أدارتها الشركة داخل وخارج مصر، والتي يعتبرها البعض من أهم مشروعات البنية الأساسية التي ساهمت بها “ميتالكو”، وكان آخرها مشروع مدابغ الجلود بالروبيكي، الذي تولت الشركة أعمال المنشآت الإنتاجية والمباني الخدمية للمرحلة الأولى منه.
تثير القوائم المالية لـ”ميتالكو” تساؤلات عن سبب التصفية، في ظل امتلاكها أراضٍ بقيمة 113.1 مليون جنيه لم تتم إعادة تقدير قيمتها السوقية، رغم ارتفاع أسعار الأراضي خلال السنوات الأخيرة، وقد ظلت تلك القيمة ثابتة منذ 30 يونيو 2021.
وبتحليل الميزانية المنشورة على الموقع الرسمي للشركة، يظهر الارتفاع في إجمالي الأصول الثابتة للشركة في الموازنة المستهدفة 2022/ 2023 إلى 152.1 مليون جنيه مقابل 145.8 مليون جنيه “فعلية” في 30 يونيو 2021.
تضم الأصول الثابتة: الأراضي، والمباني، والمعدات، ويُستخدم هذا النوع من الأصول في الإنتاج أو تشغيل الشركة لفترات طويلة، وتُعتبر جزءًا أساسيًا من البنية التحتية للشركة.
كذلك، تضمنت الأصول الثابتة مباني وإنشاءات ومرافق وطرق بقيمة 20.9 مليون جنيه في 2022/ 2023 مقابل 18.7 مليون في يونيو 2021، إلى جانب آلات ومعدات بقيمة 16.3 مليون مقابل 2.6 مليون في الفترة المقارنة ذاتها، والمثير أن المركز المالي للشركة لم يتضمن مشروعات قيد التنفيذ على مدار 3 أعوام مالية.
أما بالنسبة للأصول المتداولة، التي يسهل تحويلها إلى نقد، فتمتلك الشركة مخزونًا من الخامات وقطع الغيار بقيمة 21.5 مليون جنيه في 2022/ 2023 مقابل 27.8 مليون في يونيو 2021. كما لديها حسابات مدينة لدى الهيئات والمصالح بقيمة 38 مليون جنيه في 2022/ 2023، فضلًا عن مخزون إنتاج غير تام بقيمة 18.2 مليون جنيه في 2022/ 2023 مقابل 23.9 مليون جنيه في الفترة المقارنة ذاتها. كما تراجعت نقديتها وأرصدتها لدى البنوك 4 ملايين جنيه مقبل 23.5 مليون جنيه.

ما الذي حدث في ميتالكو؟
ارتفعت الخسائر المُرحلة لـ”ميتالكو” لتصل إلى 1.3 مليار جنيه مقارنة بـ1.05 مليار جنيه في 30 يونيو 2021. ثم تراجعت الخسائر السنوية المستهدفة في العام المالي 2022/ 2023 إلى 55.7 مليون جنيه، بعد أن بلغت 136.9 مليون جنيه في يونيو 2021، و45.5 مليون جنيه فعليًا في ديسمبر 2021.
وفيما يخص إجمالي حقوق الملكية، فقد هبط إلى 1.1 مليار جنيه في 2022/ 2023، مقارنة بـ10.4 مليار جنيه في يونيو 2021، نتيجة زيادة الالتزامات التي أثرت على صافي الأصول.
عانت نتائج أعمال “ميتالكو” التدهور في السنوات الأخيرة، وهو أمر تزامن مع انكماش الإنتاج الصناعي غير النفطي في مصر منذ نوفمبر 2020 وحتى سبتمبر 2024، وفق مؤشر “ستاندرد آند بورز جلوبال” لمديري المشتريات، الذي ظل تحت مستوى 50 نقطة الفاصل بين النمو والانكماش طوال هذه الفترة الممتدة قرابة أربع سنوات.
ورغم تخصص الشركة في إنتاج السيور الناقلة للمشروعات الصناعية الكبرى مثل مصانع الألومنيوم، وحديد عز، وصلب السويس، وأبوقير للأسمدة، والدقهلية للسكر، ودورها في دعم مصانع الإسمنت مثل إسمنت العامرية، وجنوب الوادي، وإسمنت أسيوط، إضافة إلى النصر للكيماويات الوسيطة بمصنع الفيوم، فقد تأثرت بتوجه مصر نحو استبدال الهياكل المعدنية بالخرسانية في مشاريع الكباري.

مشروعات كبرى.. فلماذا التصفية؟
سبق للشركة المساهمة في إنشاء عدة مشاريع كبرى، مثل كوبري المنيب، وكوبري العنانية على الطريق الساحلي الدولي، وكوبري المشاة بالمؤسسة. كما ساهمت في تنفيذ مشاريع مطار شرم الشيخ، وأبراج الاتصالات، وأبراج نقل الطاقة.
ورغم تراجع الأداء المحلي، نفذت الشركة خلال الفترة الماضية العديد من المشروعات الكبرى خارج مصر في عدة دول. وتضمنت هذه المشروعات:
- العراق: تصنيع كمرات معدنية.
- سوريا: إنشاء خزانات بسعة 10,000 م³ لشركة محروقات.
- الأردن: توفير سيور ناقلة ومعدات غير قياسية.
- السعودية: تنفيذ خزانات وهياكل معدنية لشركة “يوتن”.
- اليمن: بناء أبراج كهربائية وهياكل معدنية لمصنع أسمنت عمران.
- ليبيا: إقامة وحدات الإسكان الجاهزة.
- الجزائر: إنشاء أبراج كهربائية وهياكل معدنية لمصنع الأسمنت.
- السودان: تصنيع كمرات معدنية لمشروع كوبري بيكة.
- ألبانيا: تنفيذ أعمال فندق الساحة الوطنية في العاصمة تيرانا.
- نيجيريا: توفير هياكل معدنية لمصنع أسمنت كالابار.
كما شملت المشروعات إنشاء أبراج كهربائية بجهد 33 و132 ك.ف، وأخرى بجهد 66 و220 ك.ف، إلى جانب تنفيذ محطات سكك حديدية في عدة دول.
ويعكس هذا التوسع الإقليمي قدرة “ميتالكو” على تقديم حلول صناعية متنوعة في الأسواق الخارجية، رغم التحديات التي تواجهها محليًا.
اقرأ أيضًا: الأصول المصرية.. من “الملكية الشعبية” إلى “لجنة التصفية”
اتفاقية عمل جماعية تنهي وضع العمال
في 30 سبتمبر الماضي، نشرت جريدة الوقائع المصرية في عددها رقم 215، الصادر في 30 سبتمبر الماضي، تفاصيل اتفاقية عمل جماعية تم توقيعها في 16 سبتمبر 2024 بين الشركة المصرية للإنشاءات المعدنية “ميتالكو”، النقابة العامة للعاملين بالصناعات الهندسية والكهربائية، واللجنة النقابية للعاملين بالشركة.
وتسري هذه الاتفاقية على جميع العاملين الموجودين بالخدمة وقت توقيعها، باستثناء من سيشارك في أعمال التصفية.
بنود الاتفاقية الخاصة بمستحقات العاملين
- مبلغ مقطوع:
تلتزم الشركة بدفع 15,600 جنيه لكل سنة خدمة فعلية للعامل في الشركات القابضة والتابعة تحت مظلة وزارة قطاع الأعمال العام، بحد أقصى 465,000 جنيه. يشمل هذا المبلغ رصيد الإجازات حتى 31 مايو 2024، بناءً على آخر أجر شهري تم صرفه في ذات التاريخ. - تعويض عن مهلة الإخطار:
شهران من الأجر الشامل لمن لم تتجاوز مدة خدمته 10 سنوات.
ثلاثة أشهر لمن تجاوزت خدمته 10 سنوات. - مكافأة نهاية الخدمة:
شهران من الأجر الأساسي عن كل سنة خدمة، بحد أقصى 100,000 جنيه.
الحد الأدنى للمكافآت والمستحقات لجميع العاملين هو 325,000 جنيه. - تعويض عن المعاش:
يُصرف 1,300 جنيه عن كل شهر متبقٍ من سنوات الخدمة التأمينية للعاملين الذين أمضوا 15 عامًا في الخدمة التأمينية. يتم تقريب كسر الشهر إلى شهر كامل وكسر السنة إلى سنة كاملة.
وفي جميع الحالات، لا يجوز أن يتجاوز إجمالي المستحقات والمكافآت للعامل الواحد 750,000 جنيه.
وذكر القرار أن هذه الاتفاقية تهدف إلى ضمان حقوق العاملين خلال عملية تصفية “ميتالكو”، مع توفير تعويضات عادلة تتماشى مع سنوات الخدمة ورصيد الإجازات، وتقديم دعم إضافي للموظفين المستحقين للمعاش.
رفض مجتمعي للتصفية
أثار قرار تصفية الشركة المصرية للإنشاءات المعدنية “ميتالكو” موجة غضب واسعة، إذ وصفه البعض بأنه “تدمير لصناعة عملاقة وخسارة كبيرة للاقتصاد المصري”. وتساءل آخرون عن دوافع هذه القرارات قائلين: “لصالح من تحدث مجازر للشركات التابعة للدولة وتدمير القطاع الصناعي المصري؟”.
مطالب برلمانية بإعادة النظر في التصفية

صرحت النائبة سميرة الجزار، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي، في حديثها لموقع “فكر تاني”، بأنها تقدمت بمذكرة إيضاحية لرئيس مجلس النواب المستشار حنفي الجبالي، تتضمن استفسارات موجهة لرئيس الوزراء ووزراء قطاع الأعمال والنقل والصناعة بشأن الأسباب الحقيقية لتصفية “ميتالكو”. وأشارت إلى أن القرار يعكس سوء إدارة وفسادًا أدّيا إلى تراكم الخسائر.
وطالبت الجزار باستغلال إمكانات الشركة المتاحة، وإعداد دراسة تسويقية وفنية واضحة تهدف إلى تعزيز حصة الشركة في السوق بدلاً من بيعها أو تصفيتها وتشريد العمال. وأعربت عن استيائها من تبني الحكومة سياسات مماثلة للحكومات السابقة التي فشلت في إنقاذ الشركات الوطنية.
كما طالبت بتوضيح مصير العمالة التي بلغت أجورها السنوية نحو 128 مليون جنيه، مشيرة إلى أن هذه الأجور تمثل 120% من إيرادات الشركة. ونصحت الحكومة بإعادة هيكلة الشركة وتغيير إدارتها الفاشلة، مؤكدة أن “الحكومة الرشيدة هي التي تحول المصانع الفاشلة إلى ناجحة، لا التي تبيع وتتهرب”.
انتقادات للاتفاقيات التعويضية

من جهته، أكد الناشط العمالي جمال عثمان أن قرارات التصفية طالت العديد من الصناعات الكبرى في مصر، مؤكدًا أن بديل التصفية كان يمكن أن يكون التطوير بضخ أموال جديدة.
واعتبر عثمان أن الاتفاقيات التعويضية، رغم ما تقدمه من إغراء مالي للعمال، لا تعوض عن فقدان الوظائف، خاصة مع غياب نظام تقاعدي مضمون.
وأشار عثمان إلى أن شروط الاتفاقية الخاصة بميتالكو، وإن كانت مشابهة لاتفاقيات تصفية شركات أخرى مثل “راكتا” و”الحديد والصلب” و”النقل والهندسة”، إلا أن بعض العمال سيحصلون على تعويضات منخفضة نظرًا لفترات عملهم القصيرة بالشركة، بينما ستكون الاتفاقية مجزية لمن اقتربوا من سن المعاش.
دعوة لوقف قرارات التصفية
ودعا عثمان إلى وقف ما وصفه بـ”قطار التصفية” الذي أضعف الصناعات الكبرى في مصر، مشيرًا إلى أن بعض الشركات التي تم تأجير أجزاء منها لمستثمرين حققت أرباحًا خلال فترة قصيرة. وأكد أن القرارات الخاطئة، التي تعتمد التصفية كحل نهائي، تعكس ضعفًا في الإدارة، محذرًا من أن استمرار هذه السياسات سيؤدي إلى تفكيك المزيد من الصناعات الحيوية.
شهود على تجارب مشابهة
علق الناشط العمالي صبحي بدير، في حديثه مع “فكر تاني”، بأن قرار تصفية أي شركة بمثابة “موت مبكر للعاملين”، منتقدًا ما وصفه بقصر رؤية المسؤولين الذين يتخذون التصفية كحل أسهل لمواجهة الخسائر، مع وجود فساد مالي وإداري داخل إدارات الشركات المتعثرة.
وأكد بدير أن الحل ليس في إنهاء نشاط الشركات، بل في إعادة الهيكلة وضخ الأموال وتحسين ظروف العمال. وقال:
“تصفية أي شركة قطاع أعمال عام مصيبة وخسارة فادحة، لأنها تُحيل العمال إلى المعاش المبكر، والمعاش المبكر موت مبكر.”
وأضاف أن التوجه الحكومي نحو التصفية يتجاهل إمكانيات التطوير عبر ضخ مواد خام، إصلاح المعدات، وإدارة حكيمة للنهوض بهذه الشركات من جديد.
تجارب سابقة في تصفية شركات كبرى
يشير بدير إلى تجارب التصفية السابقة، فيذكر تصفية شركة النصر لصناعة الكوك والكيماويات الأساسية في 2022. وقد سبق أن أوضح المهندس محمد السعداوي، الرئيس التنفيذي للشركة القابضة للصناعات المعدنية، أن تكلفة تطوير “النصر للكوك” كانت تُقدّر بـ15 مليار جنيه. وأشار إلى أن تدهور البطاريات الأربع التابعة للشركة – وتوقف بعضها منذ سنوات – ساهم في اتخاذ قرار التصفية بسبب ارتفاع تكلفة الاستثمار مقارنة بالطاقة الإنتاجية الفعلية التي بلغت 22% فقط من القدرة التصميمية.
شهادات من العمال عن معاناة مماثلة
في حديثه لـ “فكر تاني”، يؤكد جمال عثمان، القيادي العمالي بشركة طنطا للكتان، أن سوء الإدارة في الشركات القابضة طال جميع القطاعات، مشيرًا إلى تجربته الشخصية في “طنطا للكتان”، حيث ناضل العمال لإعادة الشركة للقطاع العام بعد بيعها، لكن الإدارة أجبرت العشرات منهم على الخروج إلى المعاش المبكر.
يقول عثمان: “التخريب في القطاع العام متعمد منذ سنوات ولا أحد يعرف في مصلحة من، لكنه بالتأكيد ليس في مصلحة العمال ولا الإنتاج ولا الاقتصاد”.
ويشدد العمال والخبراء على ضرورة مراجعة سياسات التصفية التي طالت عددًا من الصناعات الكبرى، مطالبين بإجراءات إصلاحية بديلة. ويرى هؤلاء أن الاستثمار في تطوير الشركات العامة وضخ الموارد المالية سيعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، بينما يعتبر العمال التصفية حلًا قصير النظر يعمّق من مشكلات البطالة ويُضعف القطاع الصناعي في مصر.
