تسعى المجتمعات المقموعة دائمًا للبقاء، وفي هذا السياق، يظهر الصراع بين العقل والسلطة، فتصبح الفنون وعلى رأسها السينما وسيلة أساسية لكشف ما تخشى الكلمات التعبير عنه، فهي ليست مجرد فن، بل صوت الشعوب المناضلة ضد القيود المفروضة على الدين، السياسة، والجنس.
في مجتمع يفرض الصمت، تتحول السينما إلى ساحة معركة بين الحقيقة والرقابة، تطرح الأسئلة المحرمة وتدفع المجتمع لمواجهة القضايا المسكوت عنها.
وفي إيران، حيث يتشابك الدين مع السلطة القمعية، تظهر هذه المأساة بوضوح في قصة مهسا أميني، التي أصبح موتها رمزًا للاحتجاجات ضد الظلم. يعكس هذا الغضب المتصاعد لعقود في الأفلام الإيرانية التي تتحدى المحظورات وتكشف ما هو خفي. في الذكرى الثانية لوفاتها، تظل حادثة مهسا أميني دليلًا على الغضب الشعبي ضد القمع الاجتماعي والسياسي.
أشعلت وفاتها احتجاجات واسعة قادتها النساء، ومن خلال السينما، وجدت هذه الاحتجاجات صدى قويًا حيث أصبحت الأفلام نافذة لمناقشة القضايا المحرمة، متحدية السلطة والرقابة.
وكانت الحكومة الإيرانية قد شددت من قبضتها على الحريات الشخصية، خاصةً بعد تلك الاحتجاجات، حيث تم اعتقال آلاف النساء والمتظاهرات حسب تقرير مركز حقوق الإنسان في إيران يتناول تصاعد العنف والقمع ضد النساء والفتيات في إيران في ظل التوترات الإقليمية والسياسية المتزايدة في عام 2024.
يُركز التقرير على الاعتقالات التعسفية والتعذيب الذي تتعرض له الناشطات النسويات، ما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني وزيادة الدعوات للإصلاح داخل إيران، منهن العديد من الناشطات البارزات في مجال حقوق الإنسان.
"تلعب السينما دورًا هامًا في إثارة النقاشات حول القضايا الدينية والسياسية، لكن، هذا الدور غالبًا ما يكون محدودًا بسبب القيود الرقابية، فلا يخفى، دور الرقابة الصارمة التي يتم فرضها على التابوهات الثلاث".. كما أوضحت الكاتبة والناقدة السينمائية آية طنطاوي، لـ فكّر تاني.
وأشارت طنطاوي إلى فيلم "ولد من الجنة" إنتاج 2022، للمخرج طارق صالح، الذي تناول الصراع بين الأزهر كمؤسسة دينية والسلطة السياسية، لكن لم يُعرض هذا الفيلم في مصر حتى الآن، رغم حصوله على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان "كان" السينمائي الدولي ذاك العام، وربما لن يُعرض نظرًا لحساسية الموضوع المطروح -بحسب طنطاوي- وأضافت أن هذا الفيلم يُجسد الجرأة في طرح القضايا، لكنه يظل مثالًا نادرًا نظرًا للقيود المفروضة على السينما في المنطقة.
وأضافت: "إن الأفلام التي تُناقش قضايا دينية وسياسية يمكن أن تكون وسيلة لفتح الحوار المجتمعي، لكنها غالبًا ما تكون محصورة في إطار ضيق". وأعطت مثالًا على فيلم "المُلحد" الذي أثار جدلًا واسعًا بسبب طرحه لموضوع الإلحاد.
اقرأ أيضًا:دراسة حديثة: نسب التحرش تقترب من 90%
كما أكدت طنطاوي، أن السينما رغم قدرتها على تحريك مشاعر الجمهور وفتح نقاشات حول قضايا هامة، لكنها لا يمكن أن تكون السبب الوحيد في التغيير المجتمعي، بل هي جزء من عدة عوامل تسهم في إحداث التحولات.
فالسينما تمنح الجمهور شعورًا بالتطهر والانتصار عندما ينتصر البطل في الفيلم، ولكن في الحياة الواقعية، يظل التغيير مرتبطًا بالتحديات التي يواجهها الناس على أرض الواقع.
السينما الايرانية والمرأة
أما عن السينما الإيرانية، فوضحت آية طنطاوي، أن هناك تنوعًا كبيرًا في الاتجاهات السينمائية داخل إيران، حيث تُنتج الدولة أعمالًا سينمائية تخضع لرقابة صارمة.
هذه الأعمال تلتزم بتوجيهات جادة فيما يتعلق بالموضوعات المسموح تناولها، خاصة فيما يتعلق بالدين والسياسة، مع استبعاد أي تناول للجنس أو القضايا المثيرة للجدل.
"هناك مخرجين مثل عباس كياروستامي حاولوا تقديم أفلام تعكس الواقع الإيراني دون التطرق إلى القضايا الشائكة" كما أشارت، وسلطت طنطاوي، الضوء على فيلم "العنكبوت المقدس" الذي أثار جدلًا كبيرًا بسبب تصويره لقضية حقيقية حول قاتل متسلسل كان يستهدف عاملات الجنس في إيران، للمخرج علي عباسي، وتم تصويره خارج إيران بسبب الرقابة، الذي أظهر دعمًا غير مباشر من السلطات الدينية والقضائية للقاتل، ما جعل الفيلم يصطدم بالرقابة الإيرانية.
"وأكثر ما يُميز "العنكبوت المقدس" هو تقديمه للواقع الإيراني بطريقة غير معتادة، حتى أن السلطات الإيرانية قدّمت احتجاجًا رسميًا عند عرضه في مهرجان كان" واعتبرت طنطاوي، أن الفيلم يعكس جانبًا حرجًا من تعامل النظام مع القضايا الاجتماعية.
وفي سياق متصل لفتت طنطاوي، إلى أن هناك أنماطًا مشابهة في السينما العربية، مثل فيلم "شلاط تونس" للمخرجة كوثر بنهنية، الذي تناول قصة واقعية لشاب كان يعتدي على الفتيات في الشوارع.
كما رأت طنطاوي أن الأفلام هي وسيلة قوية لكشف الحقائق المسكوت عنها في المجتمعات، مؤكدة أن السينما تساهم في تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية الشائكة وتحدي النظرة المجتمعية للمرأة.
وأضافت طنطاوي أن هذه الأفلام قد لا تُغير الواقع بشكل مباشر، لكنها تفتح الباب لإعادة التفكير في قضايا حساسة مثل دور السلطات الدينية والسياسية في قمع المرأة وتعزيز العنف ضدها.
المرأة والمجتمع الإيراني في ميزان الأدب
"إن جميع الفنون من سينما ومسرح وأدب وفن تشكيلي، ترتبط بشكل وثيق بالواقع، تؤثر فيه وتتأثر به، قد تتفاوت في قوتها وعمقها، لكن تظل السينما هي الأكثر قدرة على معالجة مشكلات الواقع بشكل سريع ومباشر".. الشاعر والناقد الأدبي عمر شهريار، عن علاقة الأدب والفنون المختلفة بالواقع الاجتماعي والسياسي.
اقرأ أيضًا:صلّي وتحملي زوجكِ.. تجميل العبودية بالقداسة
"بينما يميل الأدب إلى تناول هذه المشكلات بأسلوب فلسفي أعمق يأخذ وقتًا أطول للتعبير عن الأزمات المجتمعية والدينية والسياسية".. ويشير شهريار، إلى أن الأدب يميل إلى استخدام الرمزية والتأويلات للتعامل مع القضايا المعقدة في المجتمعات، خاصةً في البيئات السياسية والدينية المغلقة، والسينما الإيرانية -على سبيل المثال- تتسم باشتباكها الكبير مع الواقع الاجتماعي والسياسي والديني، في حين أن الأدب غالبًا ما يلجأ إلى الرمزية عند معالجة هذه القضايا.
ويوضح شهريار، أن الأدب العربي قد تطرق بشكل كبير لهذه القضايا، مستشهدًا بأعمال الكاتب الكبير نجيب محفوظ، حيث تناول جوانب عدة من الواقع الاجتماعي والسياسي والديني، في روايات مثل "أولاد حارتنا" و"السكرية" و"الشحاذ" التي كانت تعبيرًا عن الفساد والانحلال السياسي والديني في مصر، لكنها تحمل رمزية تسمح بتعميمها على مجتمعات أخرى.
ويضيف، يساهم الأدب في زيادة الوعي حول قضايا الاستبداد السياسي والديني، حيث يقدم رؤية نقدية للدين كنظام روحي عميق، في مقابل التحول الديني في بعض الأحيان إلى أداة للسلطة والقمع من قبل بعض رجال الدين.
"ورغم أن الأدب لا يعكس الواقع بشكل مباشر -في الأغلب- إلا أنه يساهم في تعزيز الفهم العميق للعلاقات الاجتماعية والسياسية والدينية في المجتمعات"..
وفي حديثه لـ فكّر تاني، يُشير الباحث السياسي أحمد سلطان، إلى أن الحراك الاحتجاجي في إيران لم يكن وليد مقتل مهسا أميني فحسب، بل كانت هناك سلسلة من الاحتجاجات المتصاعدة منذ عام 2009، تعبيرًا عن السخط المتزايد من السياسات الداخلية وأن النظام الإيراني، رغم تعرضه لضغوط كبيرة بعد حادثة أميني، لم يقم بتغيير جوهري في سياسته أو أيديولوجيته.
"يستمد النظام الإيراني شرعيته من التقاليد الدينية الشيعية الإثنى عشرية، ما يستبعد أن يتبنى سياسات تتعلق بالحقوق والحريات الشخصية بمفهومها الغربي، مثل حقوق المثليين أو الحريات الجنسية على سبيل المثال".
ويوضح، إن المؤسسة الحاكمة في إيران استجابت بشكل جزئي للاحتجاجات من خلال محاولات لتخفيف حدة القيود المفروضة، كجزء من برنامج الرئيس الحالي، الذي وعد بمزيد من الانفتاح وتوسيع الحريات للشعب الإيراني، لكن حتى الآن، لم يحدث تغيير جذري على مستوى السياسات العامة المتعلقة بالحقوق والحريات.
ويضيف الباحث السياسي، أحمد سلطان، إنه في عام 2023، استمر النظام في استخدام أنظمة مراقبة رقمية للتأكد من التزام النساء بقوانين اللباس الإجباري، مع توقيع عقوبات على المخالفات، بما في ذلك الطرد من الوظائف الحكومية.
"ومن يرفضن الانصياع قد يتعرضن للاعتقال أو العنف الجسدي، كما هو الحال مع اعتقال الفنانة سبيده رشنو بسبب رفضها الالتزام بقانون الحجاب".
أما عن تأثير الاحتجاجات على استقرار النظام، فيوضح سلطان أن النظام الإيراني يتمتع بقدرة كبيرة على امتصاص الغضب الشعبي من خلال مزيج من القمع والحوار، وأنه لا يزال مستقرًا رغم التحديات الاقتصادية والإقليمية.
كما يشير سلطان إلى أن التحديات الإقليمية الراهنة، مثل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، تسببت في تأجيل الاهتمام بقضايا الحريات الداخلية، حيث يُركز النظام على القضايا الخارجية التي تعتبر تهديدًا مباشرًا لأمنه.
اقرأ أيضًا:جندرة التشريع ودسترة نصوصه أولاً.. مطالب بتأجيل قانون الإجراءات الجنائية