"قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقك في التعبير عن رأيك".. فولتير.
في مساء الخامس من أكتوبر عام 2024، أصدر النائب العام المصري قرارًا بالتحقيق في واقعة نشر ديوان شعري على خلفية مجموعة بلاغات تقدم بها عدد من الأشخاص خلال الأسابيع الماضية، بدعوى أن الديوان يتضمن عبارات تتطاول على الذات الإلهية، وتزدري الأديان.
الديوان الشعري محل الاتهام، ظهر في تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أنه ديوان "كيرلي"، ديوان للناشط السياسي أحمد دومة، والذي كتبه خلال السنوات التي قضاها في السجن بعد الحكم عليه في عدة قضايا من أبرزها أحداث مجلس الوزراء التي وقعت في ديسمبر عام 2011، وصدر الديوان في طبعته الأولى عام 2021 خلال فترة سجنه، وبعد الإفراج عن دومة بعفو رئاسي في شهر أغسطس عام 2023، أصدر طبعة جديدة من الديوان.
الأبيات الشعرية التي أثارت غضب البعض، يسأل فيها الشاعر في لحظة "هذيان" القدر والتاريخ والسلطة متمثلة في رمزية "الرب" لا حقيقته وذاته المجردة، منطلقًا من المجاز والخيال الأدبي:
"زحمة السؤالات بتأذي خاصة والوضع صامت/ تبدأ الوحدة فـ نافوخي فابدأ أهذي/ وألقى -دون الناس بحالها- قيامتي قامت/ زحمة السؤالات جنون تبتدي بـ ليه اتخلقت؟/ ثم تسحلني في طريق آخره هو الرب كان منحاز لمين/ لـ اللي عاشوا يطلبوا دم الحسين ولا لكلاب السكك/ يعني ربنا في اللحظة دي كان قلبه فين؟ في لاظوغلي ولا في الميادين".
وفي خاتمة الديوان، وفق ما راج على مواقع التواصل الإجتماعي، يقدم إهداء وعتاب منطلقًا أيضًا من الرمزية والمجاز حيث يقول:"إهداء وعتاب لـ الله: على انحيازه للقتلة وأولاد الزنا/ لـ الوطن: على احتفائه بهم/ لـ النفس على عاديتها في الفوادح/ لـ الأنثى على الطمأنينة والزلزلة/ لجيل يناير على الصحبة قيامًا واقترابًا وتكسرًا".
بغض النظر عن المكانة الأدبية؛ فتساؤلات وعتاب أحمد دومة، يذكرنا بكلمات الشاعر الراحل أمل دنقل في قصيدة "مراثى اليمامة" حين قال على لسان اليمامة بنت كليب، وهى ترثي والدها الملك الذي قتل غدرًا:"خصومة قلبى مع الله .. ليس سواه/ أبى أخذ الملك سيفًا لسيف/ فهل يؤخذ الملك منه اغتيالًا/ وقد كللته يد الله بالتاج؟!/ هل تنزع التاج إلا اليدان المباركتان/ وهل هان ناموسه في البرية/ حتى يتوج لص .. بما سرقته يداه؟/ خصومة قلبى مع الله".

قائمة طويلة
شهدت السنوات الأخيرة العديد من البلاغات والاتهامات والقضايا تحت يافطة "ازدراء الأديان" و"خدش الحياء العام"، جمعت هذه الاتهامات الكثير من الخصوم تحت نفس المقصلة، لعلنا نتذكر قضايا الكاتب والصحفي أحمد ناجي، والباحث إسلام البحيري، والكاتبة فاطمة ناعوت، والكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، وقبلهم، كانت القضايا الأشهر لمجموعة من أبرز المبدعين والمفكرين المصريين في القرن العشرين بداية من طه حسين، مرورًا بنجيب محفوظ، وصولًا إلى نصر حامد أبو زيد وغيرهم.
ورغم أن الدستور المصري في نسخته الأخيرة، قيد قضايا "الحسبة" وأكد على حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، لكن المادة 67 فتحت الباب وأعطت الحق للنيابة العامة لممارسة دور الرقيب/الحسيب، وجاء نص المادة "حرية الإبداع مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها".
في حوار مع الشاعر والناشط أحمد دومة، أجرته الزميلة رباب عزام، ونشر قبل عدة أسابيع في منصة "زاوية ثالثة" يقول صاحب ديوان كيرلي:"في دولة قانون الشخص الوحيد الذي يجب محاكمته هم الشيوخ المحرضون، لأنهم يخالفون مواد الدستور المصري، وبعد استخدامهم ضدي عبارات تستخدم في حد الردة، وربما تحرض على القتل والعنف. هنا لا نتحدث عن ازدراء أديان أو إساءة إلى الذات الإلهية، فالله لا يحتاج مدافعين عنه، كما أن كل هذه التهم فضفاضة، تستخدم لتصفية الخصوم في أي لحظة.
ويضيف دومة:"وجود مثل تلك التهم في حياتنا يعد جريمة من الأساس، ويجب أن تنتهي، فلا يجوز لمجتمع مثل مجتمعنا، أو دولة مثل مصر، أن يستمر وجود تهم استخدمت في العصور الوسطى بها، ونحن في العام 2024. هناك عدد من رجال الدين – الّذين لا يعرفون عن الدين شيئًا- أرجح أنهم تحركوا ضدي بتعليمات من الجهة نفسها التي صادرت الديوان في المرة الأولى، وانطلقت فتاوى شديدة الجنون والخطورة، أصفها بالإرهاب، تتهمني وقصائدي بالكفر والزندقة والمروق".
ويكمل:"بفرض أن هؤلاء الشيوخ قد قاموا بتكفيري، تقربًا من السلطة، فكان من المنتظر من تلك السلطة والأجهزة الأمنية أن تلزمهم الصمت، لكن ذلك لم يحدث، وتصاعدت فتاوى تكفيري، ونحن نعلم جيدًا خطورة استخدام مثل تلك الاتهامات، خاصة مع حجم التفاعل من الجمهور مع هذا النوع من الخطاب، ما يؤدي إلى كثرة رسائل التحريض. وأرى أن هذا إرهاب في نظري، وأيضًا في نظر السلطة التي حاربت خطاب داعش والجماعات المتشددة، ووصفته مسبقًا بالإرهاب؛ لكن مشايخ الدولة استخدمت نفس خطاب داعش في إزاحة وتكفير المخالفين للسلطة، وتحت نظرها وحمايتها، فالخطاب هذه المرة محمي من الدولة فعلا أو قرارًا أو واقعًا، وكل مرة استخدم إما أن اغتيل المبدع، أو تعرض لهجمات عنيفة".
سقراط والحلاج
قد تبدو المقاربة في غير محلها نظرًا لاختلاف السياق التاريخي، ومكانة الشخصيات، وطبيعة كل مجتمع، لكن العودة بالزمن تعطينا رؤى متنوعة وأفق أكثر براح، لفهم واقعنا، وتأمل حركة التاريخ، ففي واحدة من أبرز المحاكمات العقائدية للخيال، واجه الفيلسوف الإغريقي الشهير "سقراط" اتهامات "التجديف" وتعني ازدراء الأديان والمعتقدات، بسبب تمرده على قيم المجتمع وتشكيكه في بعض ما كانت تعتبره أثينا من الثوابت.
الملفت في قصة "سقراط" هو موقفه القوي والثابت؛ فلم يدافع عن نفسه متذللاً، ولكنه اتهم المحكمة بدلاً من ذلك بعدم الكفاءة، وطالب بأن يُكرم بدلاً من أن يُحكم عليه، وذلك لأن عمله مع الشباب يُعد نعمة على أثينا. انتهت المحاكمة بإجماع القضاة على الحكم بالموت، ولم يزعج الحكم سقراط، بل ذهب بهدوء إلى سجنه، ولم يستغل فرص الهرب المتاحة؛ لأن الهرب ضد مبادئه. لقد كان مستعدا لتحمل النتيجة النهائية لأفعاله. أما ساعاته الأخيرة فقد رويت لنا من قبل أفلاطون.
لقد كان مزاج سقراط رائقًا، وحاول أن يتعلم العزف على آلة الهارب، وحينما سأله أحدهم لماذا يهتم بهذا الأمر في هذا الوقت بالذات أجاب متسائلاً: ومتى يمكنني إذا أن أفعل هذا؟"، حاول تلاميذ سقراط أن يضغطوا عليه بأن لا يتسرع في الشرب فالشمس ما زالت مشرقة على الجبال، وقد طلب الآخرون نساء جميلات أو غلمانا أو أكلات لذيذة أو مشروبات، وسألوه إن كان يجد رغبة في شيء مثل هذا؟، فقال سقراط:"لديهم الحق في أن يفعلوا كما تقول وذلك لأنهم يعنون بأن يكتسبوا شيئًا إذا ما فعلوا هذا، وكذلك فإن لدي الحق نفسه في ألا أفعل هذا، وذلك لأنني أظن أنني لن أكسب شيئًا إذا ما أخرت شربي قليلاً سوى أنني سأخجل من نفسي إذا ما التصقت بالحياة وأردت الادخار فيما لا يبقى".
ثم أخذ كأس سم الشوكران وسأل ساعي المحكمة عما إذا كان المرء يستطيع أن يقدم مثله قربانا للآلهة؟، وهذا ما نفاه الساعي قائلاً:"نحن نجهز الكمية الضرورية فقط"، قال سقراط:"أفهم هذا، ولكن التعبد للآلهة مسموح به، ولا بد للمرء أن يفعل هذا حتى يكون الانتقال من هنا إلى هناك سعيدًا طيبًا. ولذا فإنني أتعبد هنا أيضًا متمنيًا أن يحدث لي مثل هذا أيضًا". ثم تناول الكأس وتجرعه.
أما الشاعر والمتصوف الشهير في التاريخ العربي/الإسلامي الحسين بن منصور الحلاج، فتخبرنا روايات التاريخ عن حجم العذابات التي تعرض لها، نظرًا لأشعاره وفلسفته وخياله الجامح؛ فقد سُجن وعُذب وُصلب ومُثل بجثته، فبعد سنوات من السجن تم جلده، وصلب على جذع شجرة، وأحرق جسده ثم حُمل رماده إلى رأس المنارة وألقى فى نهر دجلة، لتبقى صيحته الشهيرة "أنا الحق .. والحق أنا"، وتظل أشعاره باقية ومستمرة وحية:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا
نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا
نَحنُ مُذكُنّا عَلى عَهدِ الهَوى
تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ
وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا
لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُه.