كنت قد أشرت في مقال سابق عن أهمية دور الإدارات الانتخابية، فما هو دور هذا الكيان الذي أنشئ إعمالاً لنصوص دستور 2014 والذي نصت مواده من 208 إلى 210 على إنشاء الهيئة الوطنية للانتخابات كهيئة مستقلة وتشكيلها وأدوارها؟
والاستقلال في المعايير الدولية يقصد به استقلال القرار والاستقلال المالي واستقلال أعضاءها، لكن بحث مدى استقلالية الإدارات أمر ليس ذي دلالة قاطعة بمجرد اختيار الشكل حيث أن تشكيل الإدارات لا يعكس دلالة إلا إذا اضفنا له رضاء الناخبين، وثقتهم في الهيئة الانتخابية.
والإدارات الانتخابية إما مستقلة مثل مصر وتونس وكوستاريكا والهند واليمن، أو حكومية مثل الولايات المتحدة والسويد وسويسرا أو مختلطة مثل فرنسا وأسبانيا والسنغال، بمتابعة التاريخ الانتخابي لهذه البلاد سنجد تفاوت في مستويات رضاء الناخبين والمشاركة وليس بالضرورة مرتبط بشكل الهيئة، وإنما بثقة وقناعة الناخب بنزاهتها وبتأثير صوته الانتخابي في العملية.

وللإجابة على سؤال العنوان يتحتم علينا أن نعرف أدوار ومسؤليات الهيئات الانتخابية. تتراوح مهام الإدارات الانتخابية من بلد إلى آخر وكلما زادت الرغبة في استقلالها عن أي سلطة تنفيذية زادت صلاحياتها، والتي تبدأ بـ: تحديد أصحاب حق الاقتراع، استقبال طلبات الترشيح، تنظيم وتنفيذ عمليات الاقتراع حتى إعلان النتائج.
وبالإضافة الى هذه الجوانب الأساسية يمكن أن تضطلع الإدارة بمهام أخرى مثل: تسجيل الناخبين، وترسيم الدوائر الانتخابية، وتنفيذ حملات التوعية الانتخابية، وإدارة أو مراقبة تمويل الحملات الانتخابية، ومتابعة نشاطات وسائل الإعلام المتعلقة بالانتخابات، والنظر في النزاعات الانتخابية، واعتماد المراقبين ووضع الضوابط الخاصة بنشاطهم، وفي بعض الأحوال قد تتوسع صلاحيات الإدارات لتشمل تسجيل الأحزاب السياسية ووضع الضوابط الخاصة بتمويلها وتقديم التوصيات المتعلقة بالإصلاح الانتخابي للسلطات التشريعية والتنفيذية.
توعية الناخب
من كل ما سبق أود التركيز على مهمة واحدة، لو لم تحدث ففي رأيي أننا نحرث في البحر، وهي توعية الناخب، وهذه التوعية لا تحدث قبل أيام من الانتخابات أو عبر لافتات تحتوي ملاحظات اليوم الانتخابي تعلق داخل اللجان ليقرأها الناخب قبل دخوله غرفة الاقتراع، وملصقات ينشرها المرشحون في الشوارع تخبر الناخب بالخلاصة التي عليه أن يقوم بتنفيذها في “برشامة” قبل الامتحان تتلخص في رمز ورقم وربما صورة المرشح، ليذهب إلى لجنة بها موظف اقتراع لديه تنبيهات عن دوره في تنظيم العملية وربما وجدنا باللجنة لافتة تنص على أدوار كل من الموظف والمراقب وحقوق الناخب، هذا الناخب الذي قد لا يعرف عن مرشحه سوى منفعة لحظية قد يحصل عليها يوم الاقتراع ومنفعة لاحقة قد يحصل عليها إذا ما كان عضو قريب جدًا من المرشح أو فصيله السياسي.
تتكلف مثل هذه اللافتات وصور الدعاية ملايين في كل عملية انتخابية لكنها قبض الريح، مثل هذه اللافتات والدعايات لا نقابلها في دول بذلت حكوماتها مجهودًا في تثقيف الناخب بالعملية الانتخابية وبتكاليف أقل لكن ذات أثر دائم وحقيقي.
إدارة العملية الانتخابية ليست نشاطًا موسميًا يبدأ بالدعوة للانتخابات وتجري العجلة لتنفيذ كل الأنشطة بجدول يومي في سباق لمدة ثلاث أو أربعة أشهر في السنة التي يحدث فيها الاقتراع ثم يعقبه خمول وسبات حتى الانتخابات التالية، وإنما هو نشاط دائم لا يتوقف ينقسم لمراحل ما قبل الانتخابات (تخطيط- تدريب- توعية- تسجيل)، مرحلة الانتخابات (ترشح- حملة انتخابية- اقتراع- نتائج) ثم مابعد الانتخابات ( رسم استراتيجيات- إصلاح- تقييم). هذه الدورة ممتدة لا تتوقف.
ثقافة الانتخابات
جزء هام من التنمية السياسية والتحول الديمقراطي يبدأ بالتوعية الانتخابية والتي هي أحد أهم أدوار الهيئة الوطنية للانتخابات والذي نصت عليه بالفعل على موقعها الإلكتروني كبند تحت عنوان أهم سلطات الهيئة ” توعية وتثقيف الناخبين والأحزاب والائتلافات السياسية بأهمية المشاركة في الاستفتاءات والانتخابات، وحقوقهم وواجباتهم، ويجوز لها أن تستعين في ذلك بالمجالس القومية، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات المهنية والعمالية، ووسائل وأجهزة الإعلام، وغيرها”.
والحقيقة أن التوعية لا يجب أن تقتصر أو تهتم فقط بأهمية المشاركة وإلا تحولت الى حشد الناخبين، وإنما بثقافة الانتخابات كاملة، وهو دور لن يكلف الهيئة ولا شركاؤها المحليين أو الخارجيين شئً يذكر بالمقارنة بالإنفاق الرهيب في طباعة مواد دعائية وملصقات إذا ما تم تنفيذه عبر المؤسسات التعليمية كمنهج ومحاكاة وليس في صورة جرعة مكثفة تلقينية، وإذا ما تركت المساحة لمنظمات المجتمع المدني التي تعمل مع أعداد كبيرة لتوعيتها عبر برامج طويلة، وإذا ما تركت أيضًا الأحزاب لتمارس أحد أدوارها وهو التثقيف السياسي.
كل هذا سيؤدي إذا ما تم تنفيذه بحرية وشفافية واهتمام بالأجيال القادمة إلى عملية انتخابية سهلة ومعبرة عن إراده حقيقية للناخب، وستوفر على الهيئة الوطنية أموالاً وجهود للحث على المشاركة، وربما يوفر على الشعب خروج برلمانات مشوهة لا يدري أحد كيف تشكلت ثم نلقي باللوم على الناخب غير المؤهل للديمقراطية.