فخامة الديكتاتور مولانا التيجاني

لم يكن في حسباني أن أكتب عن الشيخ صلاح الدين التيجاني، مرةً ثانية، بل إن ظني أني لم أكتب عن شخصه تخصيصًا في المقال السابق، فالرجل ليس ذا مكانة تستدعي "حرق البنزين"، وهو كفردٍ لا يستحق أن يصير موضوعًا يشغل إلا أتباعه ومريديه، من بهاليل الحماقة والضلالات.

والحقُّ أن وصف مريدي التيجاني، ممن يمتدحونه بمصطلحات على شاكلة، المصباح المنير، وسراج المؤمنين، وحفيد الرسول وربما فيلسوف الفلاسفة، بأنهم يقتفون الحماقة والضلالات، لا يجافي أن بعضهم أعلام مشاهير، ولهم باع في مضمار الإبداع بطريقة أو بأخرى، فذلك سبب أكثر وجاهة لنقدهم وهجاء مسلكهم الجاهلي، إزاء الرجل شخصًا، وإزاء ما يمثله من أفكار.

أيّما يكن من الأمر، فإن ما يدعوني إلى الخوض في موضوع كنت أحسب أنني استوفيته، أن المقال السابق أثار شيئًا كثيرًا من التعليقات، ما بين المديح والنقد، وإن كان المديح يسعدني بالقطع، فكل كاتب نرجسي بطريقة ما، لكنني لن أقف أمامه مليًا، ولن أعقب عليه، وإنما سأرد على المنتقدين، من باب الترحيب الصادق بكلامهم والاحتفاء بما أبدوه من مآخذ، أضاءت أمامي الطريق لشرح ما استُغلق، وإيضاح ما قصدته، ويبدو أنني لم أوفق في تبيانه، ذلك أني لست من أصحاب الكرامات العارفين، ولا سبيل لدي نحو "النورانيات".

في المقال السابق، عمدت إلى الحديث عن الرسالة المحمدية، من زاوية أنها دعوة خاطبت العقل، وسعت إلى استقطاب الناس إلى الإيمان بالواحد الأحد، عبر التفكير المنطقي الاستدلالي، بعيدًا عن الخرافة، وبمعزل عن الغيبيات المبهمة، وقلت إن ذلك يرجع إلى أن الإسلام يمثل كلمة السماء الأخيرة، إلى بني آدم، ومن ثم كان شأنه كوصية الأب إلى أبنائه الذين شبوا عن الطوق.

وكنت أقصد من ذلك أن أقدم رؤيةً، لا أذهب إلى أنها من بنات أفكاري، أو أني اعتصرتها من فاكهة قريحتي، وفحواها أن فلسفة الإسلام تقوم على نبذ الخرافة، وربط المقدمات بالنتائج، وأصل الإيمان يتلخص في تساؤل الإعرابي البسيط والعبقري في آن: "البعرة تدل على البعير، والأثر على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير"؟

وحين توخيت الانطلاق من ذلك، يبدو أني أسهبت أكثر مما ينبغي، وقد طرحت الأسئلة ذات الصلة بقلة المعجزات الخارقة التي أوتيت النبي صلى الله عليه وسلم، قياسًا بأسلافه وإخوانه من الأنبياء أولي العزم، وما يؤشر إليه ذلك من أن الرسالة الخاتمة، توخت الأمر سعيًا لإعلاء العقل، باعتباره البوصلة التي سترشد البشرية في عواصف المستقبل بعد انقطاع الوحي.

والحقيقة أن هذا الإسهاب والذي ارتأى البعض أن فيه إطالة، أكثر مما ينبغي، يرجع إلى عاطفة متجذرة في أعماقي، فالحديث عن الرسالة المحمدية، حديث أثير إلى قلبي، ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، جدير بأن تستأثر عظمته على من يتطرق إليها.

والحق أن حديثًا عن الحبيب لا بد أن يُستطاب ويروق فيطول، وهو الأمر الذي يمكن تأويله بكلمات شاعرنا الغنائي الراحل، عبد الوهاب محمد: "لما يجيبوا سيرتك يحلوّ الكلام".

ما بين النظرية والتطبيق

على أني حين تطرقت إلى سيرته، عليه الصلاة والسلام، لم أسعَ كما بدا للبعض إلى المقارنة بينه وبين غيره، فمحمد قمة إنسانية سامقة، لا تُضاهى، وهو لا يدخل في جملة مفيدة مع أيٍّ من عباد الله، وإنما كانت المقارنة المتوخاة، هي مقارنة بين النظرية والتطبيق، أو قل ما بين فلسفة الإسلام ومرجعياته الفكرية، وبين الهرطقة التي يُشِيُعها معممون، أشبه ما يكونون بتجار المخدرات، الذين يبيعون الحشيش المضروب بعد تغليفه بورق سوليفان لامع.

كان المقصود أن تثير المفارقات الأفكار حول ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن، وبين الجذور الأصيلة الطيبة الثابتة والفروع الواهنة المتعفنة، وكذلك كان المراد تبرئة الدين من حماقات أولي لحى وعمائم، أساءوا إليه أكثر من أعدائه، وليس ركوب زوارق الكراهية، والأحقاد الدفينة على الإسلام، كما يفعل متأمركون أو متصهينون، يقولون إنهم نخبويون وعلمانيون وقادة رأي.

وظني فوق ذلك، أنك حين تريد الوقوف أمام الأصل، لاستجلاء ثم إجلاء ملامح عظمته، وقسمات "حداثته"، فما من حديث أوثق صلة بذلك، من الحديث عن محمد صلى الله عليه وسلم، فالرجل بعيدًا عن مسألة الوحي، كان مثالًا للعظمة الإنسانية، والعبقرية في شتى صورها، وكان نموذجًا للأخذ بالمنهج العلمي والموضوعي المجرد، فالأصل أن "يعقلها المسلم ويتوكل".

انظر إليه إذ شيَّع ابنه إبراهيم مكسورًا قلبه يتمتم: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا"، وحين انكسفت الشمس فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، تناسى أحزانه وتولى فورًا "مهامه الوظيفية" التنويرية، فنهاهم عن الخرافة بحسم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد أو حياته".

إن الشمس والقمر بحسبان، لا الشمس ينبغي لها أن تسبق القمر، ولا الليل سيسبق النهار، هذه حقائق علم الفلك الثابتة.

كذلك أفهم شخصية محمد التقدمية الحداثية، وأستعظمها أكثر بالنظر إلى واقع المجتمع الجاهلي قبل "رسالته التنويرية" حيث شاعت الخرافات، وحيث كان الناس يستفتون الدجالين في شؤونهم الكبرى والصغرى، ويرهنون مصائرهم بأقوال المشعوذين.

على هذا الأساس استغرقني حديث المحب عن حبيبه، وهذا الحبيب ليس كأي حبيب، فاللهم صل وسلم وبارك عليه.

وعلى النقيض من حديث المحب، كان حديثي عن التيجاني، مقتضبًا مختزلًا كحديث الكاره المبغض، وهي كراهية عميقة، وبغضاء راسخة، لا تتعلق بشخصه، وإنما بما يمثله من ردة حضارية وإنسانية إلى حضيض الخرافة، وقعر الشعوذة، وجاهلية الفكر.

أمية وأمية مقنعة ونخبة دراويش

فالتيجاني ليس شيئًا بذاته، وهو إنسانيًا لا يُساوي في ميزاني جناح بعوضة، لكنه بأفكاره الرجعية، يمثل شرًا مستطيرًا، في مجتمع تبلغ الأمية فيه حسب الإحصاءات الرسمية، نحو 20% ناهيك عن الأمية المقنعة، وكذلك ومع بالغ الأسى و"يا حزن الحزن"، أمية النخبة الذين رأينا منهم دراويش يحنجلون فكريًا، كما يحنجل المجذوبون في الحضرات، وهم يهتفون كالمنومين مغناطيسيًا: الله حي ومدد يا تيجاني.

وإذا مددنا الخط على استقامته، فإن المشهد إجمالًا يستدعي شيئًا من المفارقات المفجعة، والاستخلاصات المؤلمة، بشأن سلوك سلطات الدولة التي تراقب أنفاس المواطن، وترصده حتى إن كتب جملة من كلمات هينات على شبكات التواصل، في حين تتسامح مع التيجاني فردًا وفكرًا وممارسةً ضالة، وتترك له الحبل على الغارب لتسويق جهالته، وإقامة زاويته ونشر سرطانه الثقافي قبل العقائدي.

وغنيٌّ عن البيان أن هذا التسامح يُعزى على وجه التحقيق، إلى أنه لا يمثل خطرًا عليها، أو بعبارة واضحة، لا يثير قلقها على كراسي السلطة، إذ يجعل منهجه العقائدي من الإسلام "تخديريًا"، منسحبًا من واقع حياة الناس، تحت ذرائع متهافتة، منها أن اتصال العبد بربه يقتضي أن يصرفه عن شؤون الدنيا، وهكذا تعلو خرافات على نحو أن الغلاء يرجع إلى أن الفحشاء سادت لأن النساء لا يلبسن الحجاب مثلًا، وليس إلى خيبة السياسات الاقتصادية، أو قُل السياسات الاقتراضية، التي انتزعت كسرة الخبز من أفواه الجوعى، وحبة الدواء من على شفتي المرضى.

لا تغضب الدولة إذن من جاهل تجهيلي يُطلق البخور، ويُسمِّم أفكار العوام، ويبني دعائم الخرافة والشعوذة، ويشوه الدين القيّم، فكلما تكاثر الدراويش المغيبون التائهون في دهاليز الماورائيات والطلاسم، والذين ينتظرون من السماء أن تحل مشاكلهم، وهم مقرفّصون في الزوايا، يُسبِّحون ويحوقّلون ويردّدون أذكار المساء والصباح، ويهزون قبور الأولياء، كلما استقرت سلطاتها الغاشمة، وأحكمت قبضتها الفولاذية.

يبدو التيجاني إذن مظهرًا من مظاهر الرجعية، في تحالف غير رسمي بين سلطة دينية وسياسية، كلتاهما تدعو إلى تأليه الفرد الواحد، الذي لا يجوز المساس بهيبته، ولا الدنو إلى مكانته السامية، فالمنهج هنا وهناك منهج واحد، وإذا كان الأول يقول إنه يملك صكوك غفران، أو مفاتيح الفردوس الأعلى التي ستتاح لمن يعبدون الله بالنظر إلى محيا مولانا، ويهرطق بأن العبد ينبغي ألا يشرك بحب شيخه أحدًا، فإن الثاني بدوره يقول: "ما تسمعوش كلام حد غيري أو بطلوا هري".

هنا واحد يحدد لك طريقك إلى الآخرة، وهناك آخر يحدد لك طريقك في الدنيا، والاثنان يأمران بالسمع والطاعة دون قيد أو شرط، بما يجعل الإنسان جمادًا بغير روح أو جثة محنطة، مسلوبًا قدرته، اتكاليًا غافلًا لا يملك من أمره شيئًا، وهذا أخطر المخاطر وأشر الشرور، على بني آدم في الدنيا والآخرة.

التيجاني إذن كأي ديكتاتور ظلامي جاهل، يعادي العقلانية، وينهى أنصاره وأتباعه عن الأسئلة، وسواءً كان ذلك لأن الجدال حرام أم خيانة وطنية، تبقى النتيجة واحدة؛ أن الإنسان الذي كرَّمه الله بمنحه الحق المطلق في الاختيار، إلى حد "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" سيغدو اتباعيًا جامدًا لا يفكر، ومن ثم لا يبدع الفن والأدب، ومن ثم لا يصنع العلم، ومن ثم لا تكون الحضارة.

أينما ننظر حولنا سنجد "تيجاني ما" يعتمر العمامة، أو يُزيِّن ملابسه بالنياشين والأوسمة، وسنجد "تيجانيين" مصفقين مهللين مسبحين، وهذه الأمة؛ أمة "اقرأ" لن تدخل إلى نادي المتحضرين، ما لم تتحرر من أغلال كل "تيجاني".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة