أراه كل يوم بالقرب من شاطئ البحر، ألوح له بيدي من بعيد. لا أعرفه، ولا حتى أعرف اسمه. فقط أعرف أنه لا يسمع ولا يتكلم، وأنا لا أُجيد لغة الإشارة.
يعمل في أحد محال الملابس الممتدة على الرصيف المقابل للبحر في مدينة دهب، وعلى مدار العشر سنوات أو يزيد، لم أقترب منه مرة واحدة. أراه يوميًا - فقط - من بعيد. دفعني الفضول في كثير من الأحيان لمراقبته، كيف يتعامل مع الناس وكيف يتعاملون هم معه. أريد أن أعرف، لكن لم يُحالفني الحظ يومًا.
أما حِميد، الذي كان يعمل بالقرب من مقر عملي، فقد تعرفتُ عليه وصرنا أصدقاء. بدوي وسيم ذو ضحكة واسعة، فارع الطول، شديد السُمرة، يرتدي جلبابًا أبيض وشماغًا سيناويًا مثبتًا بالعقال الأسود أعلى رأسه.
عرفت حينها أن صديقي اجتماعي بطبعه، وليس منعزلًا عن العالم من حوله، لكنه استثناء للقاعدة. تعلمت منه ضرورة التواصل مع الآخرين، وأن إيجاد وسيلة واحدة على الأقل يمكنها تقليل المسافات. لكن واقعنا يؤكد أن التواصل يحتاج طرفين، واللغة يستخدمها اثنان للحوار.
أحبَّ حِميد الناس، واندمج في الحديث مع الآخرين طوال الوقت بلا كلمات - حتى معي - كنا نتبادل الحوار بالساعات لمدة عامين تقريبًا. فبالرغم من أنني لم أتعلم لغة الإشارة، إلا أننا تشاركنا الحكايات والمغامرات والنميمة في بعض الأحيان.
اقرأ أيضًا:مريم.. نموذج صارخ للتمييز بسبب الإعاقة
تعزيزًا للتواصل
وفي اليوم الدولي للغات الإشارة، تقول الدكتورة رشا إرنست، استشاري إدماج الإعاقة ومحاضرة في دبلوم التنمية الثقافية بكلية الآداب جامعة القاهرة ،في تصريحاتها لـ فكّر تاني: "لتحسين وتعزيز التواصل مع ذوي الإعاقة، يجب أن يتعلم الأفراد استخدام لغة مشتركة تحترم التنوع والاختلاف، والتوعية بأثر ذلك على المجتمع ككل، مع التأكيد على أن تجربة كل شخص هي تجربة فريدة من نوعها".
وتؤكد إرنست، على أهمية تغيير الصور النمطية والموروث المجتمعي عن ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى التمثيل الإيجابي لهم في وسائل الإعلام والتعليم وأماكن العمل وغيرهم، مع التركيز على تعزيز ثقافة الشمول والدمج التي يُنظر فيها إلى الأشخاص ذوي الإعاقة كأعضاء فاعلين في المجتمع كأقرانهم، وأن تشملهم الخطط والاستراتيجيات الوطنية كافة.
في الصحة والتعليم
أغمض عينيك لثوانِ وتخيل معي، كيف يشعر الشخص وهو لا يسمع ولا يتكلم، ولغة الإشارة هي اللغة الوحيدة المتاحة له للتواصل ولا يُجيدها حوله سوى قليلون، بل إنه في بعض الأحيان قد لا يجد من يفهمه على الإطلاق، فلا يوجد من يتواصل معه خارج محيطه الصغير، بالضرورة سوف يشعر بالعزلة فينزوي على نفسه داخل هذا المجتمع الذي لا يفهمه.
ففي كثير من الأحيان، بحسب دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية، لا يحصل الأطفال المصابون بفقدان السمع والصمم في البلدان النامية على التعليم المدرسي، كما ترتفع معدلات البطالة ارتفاعًا كبيرًا بين البالغين المصابين بفقدان السمع مقارنة بغيرهم. ومن بين الأشخاص الذين يشغلون الوظائف، تزيد النسبة المئوية للأشخاص المصابين بفقدان السمع الذين يشغلون الرتب الوظيفية الأدنى، مقارنة بعموم القوى العاملة.
وقد ذكرت الدراسة أنه من المتوقع بحلول العام 2050، أن يعاني 2,5 مليار شخص تقريبًا من فقدان السمع بدرجة ما، وسوف يحتاج حوالي 700 مليون شخص على الأقل إلى إعادة تأهيل لمعالجة مشاكل السمع.
اقرأ أيضًا:بدويات سيناء.. من الأودية الخضراء إلى الأبنية الخرسانية
قد تتنوع أسباب فقدان السمع، بدايةً من الإفراط في استخدام مكبرات الصوت وسماعات الأذن، مرورًا بانتشار الأمراض والعدوى بين الأطفال كالتهابات الأذن الوسطى، وانتهاءً بفقدان السمع نتيجة الإعاقة.
يوجد الآن حوالي 72 مليون أصم في كل أنحاء العالم، يعيش 80% منهم في البلدان النامية ويستخدمون أكثر من 300 لغة إشارة، بينما توحدهم لغة واحدة عالميًا. في مصر، التي يبلغ عدد سكانها 100 مليون نسمة، يوجد ما يقرب من 5 ملايين أصم. ولعل أحد الأسباب الواضحة لزيادة هذه النسبة في مصر وأغلب الدول النامية هو زواج الأقارب.
في الدول النامية
تُشير الدكتورة رشا إرنست إلى محدودية الموارد كأحد التحديات التي تواجه إدماج ذوي الإعاقة في الدول النامية، فضلًا عن الأفكار النمطية تجاههم وضعف الوعي بقدراتهم وإمكانياتهم الحقيقية، وحصرهم في التفوق الفني والرياضي.
"تزيد على ذلك التحديات الاقتصادية التي تواجه الجميع، لكن تقاطع هذه التحديات مع الإعاقة يُفاقم المشكلة، فتقل نسبة فرصهم في العمل، بالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بالتواصل، والتي تُعيق دمجهم على كل المستويات".
وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الصُم والبكم في البلدان النامية، إلا أن الأوضاع ما زالت واقعة في فجوة متأخرة، حيث يظل دمجهم في العملية التعليمية وسوق العمل مجرد أفكار مطروحة لا يسهل تنفيذها.
على سبيل المثال، يوجد في محافظة سوهاج أربع مدارس لتعليم الصم وضعاف السمع، موزعة على أربعة مراكز فقط من بين 11 مركزًا وثلاثة أحياء على مستوى المحافظة. هذا يعني أن أغلب الطلاب عليهم الانتقال لأكثر من 10 كيلومترات لحضور الصفوف الدراسية، ما يُكلف الأهالي نفقات باهظة شهريًا، ويُشكل عناءً كبيرًا للطلاب.
تم إنشاء أول مدرسة للصم والبكم في مصر عام 1904، وتوالى بناء المدارس. إلا أنه نتيجة المركزية التي تُعاني منها المحافظات والقرى البعيدة، نجد أن مقرات هذه المدارس تتركز في القاهرة والمدن الكبرى فقط، وكلما انتقلنا بين المحافظات إلى الأقاليم البعيدة، يتراجع عدد المدارس.
تقول نادية عبد الهادي، مترجمة الإشارة ورئيسة المؤسسة المصرية لحقوق الصُم والمترجمين، في تصريحاتها لـ اندبندنت عربية: "أبرز المشكلات التي تواجههم هي سوء التعليم، فإن نظام التعليم الخاص بهم بحاجة إلى تطوير شامل على كافة المستويات، فمن ناحية لا بد من تطوير المناهج بشكل كامل، ومن ناحية أخرى يجب تأهيل المدرسين بما يُمكنهم من التعامل مع ذوي الإعاقة السمعية".
اقرأ أيضًا:أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة بين الاغتراب والدمج
وتُضيف عبد الهادي: "من النتائج المترتبة على عدم حصولهم على تعليم جيد، المعاناة الشديدة فيما بعد في الحصول على فرصة عمل مناسبة، وهذه واحدة من أهم التحديات التي تواجه هذه الفئة. إضافة إلى مشكلة التعليم الجامعي إذ لا يسمح لهم إلا بالالتحاق بكلية واحدة وهي كلية التربية النوعية، وحتى داخلها لا يُتاح لهم إلا أقسام محدودة من دون غيرها".
بينما يظل هناك بصيص من النور، حيث جاء تصريح الدكتور رضا حجازى مارس 2023، وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى السابق، بشأن إعداد وتعميم لوحات استرشادية لرموز لغة الإشارة الأكثر استخدامًا، ويصاحبها QR كود يظهر حركة الإشارة وذلك بالتعاون مع مبادرة صندوق قادرون باختلاف التى أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك لتقريب المسافات بين طلاب الدمج وأقرانهم ورفع مستوى التثقيف بلغة الإشارة كما سيتم تدريب المعلمين على استخدام لغة الإشارة.
عُزلة وسوء فهم
فمن الشائع عن ضعاف السمع والبكم أنهم سريعو الغضب سوداويون، لكنهم في الحقيقة ضحايا سوء فهم واضح ينتج عن الفقر في التواصل، فنحن لا نفهم لغتهم أولًا. وبالإضافة إلى الحظ العاثر في التعليم، هم ضحية نظرة المجتمع لهم والانحياز ضدهم في الفرص مقارنة بمن يسمع ويتكلم.
حتى الأطباء ليس لديهم دراية بلغة الإشارة، مما قد يؤدي أيضًا إلى سوء الرعاية الطبية المقدمة لذوي الإعاقة السمعية والبكم.
اقرأ أيضًا:عن التهميش والانتماء.. بدو سيناء في عيون زوارها
وفى هذا الشأن، أشارت الدكتورة رشا إرنست إلى النقلة النوعية خلال العشر سنوات الأخيرة، في تعزيز حقوق ذوي الإعاقة منها الدستور المصري وقانون رقم 10 لسنة 2018، وغيره من التشريعات التي أقرت حقوقهم، وكذلك التوجيهات الرئاسية الدائمة بتمكينهم ودمجهم والحرص على شمولهم في استراتيجية مصر 2030: "لكننا نحتاج إلى تضافر جهود الوزارات المعنية بتفعيل القانون -كل في اختصاصه- والتنسيق بينهم لتذليل التحديات القائمة لتفعيله"؛ تختتم إرنست حديثها مع "فكّر تاني".
وفي النهاية، دعنا نأمل في نجاح هذه الخطة، فربما ينتهي الأمر بمجتمع قادر على التواصل مع ذوي الإعاقة السمعية والبكم ولكن هل يتحقق هذا الأمل قريبًا؟ فبعد الخروج من مركزية التعليم يبدأ الفرد في البحث عن وظيفة ملائمة، فهذا الحظ بعيد المنال في كل الأحوال.