لا يتذكر "أحمد محمود"، الموظف بالوحدة المحلية في محافظة الغربية، آخر مرة كانت "اللحمة" حاضرة على مائدته، مع ارتفاعات الأسعار التي طالتها في السنوات الأخيرة، فعلى أسرته التكيف مع الدخل الذي يجنيه شهريًا، خاصة وأن زوجته ربة منزل.
لعقود طويلة، اعتاد المصريون تناول اللحوم الحمراء في أيام الإجازة الأسبوعية (الجمعة)، حتى أن هذه العادة اجتذبت كبار كتاب الشعر مثل صلاح جاهين الذي ألف أغنية خاصة عن عائلة بسيطة تنتظر وجبة اللحم بعد صلاة الجمعة: "يا أبو زعيزع قوم صلي دا انت في ريح المتولي (إلى جوار مسجد المتولي)".
"محمود"، الراجل الذي يقف على عتبات الأربعين كان وزوجته وأبناؤهما الثلاثة من متناولي اللحوم الحمراء بعد صلاة يوم الجمعة، لكن الحال تغير حاليًا الآن كثيرًا؛ فميزانية الأسرة لا تتحمل 1600 جنيه ثمن 4 كيلو شهريًا (مقسمة على أيام الجمعة). استبدلوا عادتهم تلك باللحوم البيضاء (الدواجن).
لم يهجر "محمود" اللحوم فجأة، فبصورة مرحلية كمن يتعافى من عادة سيئة، كلما ارتفعت الأسعار قلص كميات الاستهلاك حتى حان وقت القرار الصعب: "لا لحوم بعد اليوم"، حينما كسر الكيلو مستوى الـ 300 جنيه.
يقول "محمود"، الذي يعمل بعد الظهر في محل لبيع التوابل بطنطا: "المرتب مع الشغل الإضافي يدوبك بيعيشونا.. الأسعار بتزيد.. كارت الكهرباء كنت بشحنه بـ 400 جنيه بيكفي أسبوعين دلوقتي ما بيكفيش أسبوع.. ما فيش حل قدامنا، إلا إن نخفض الأكل والشرب.. ما فيش تخفيض في الكهرباء ولا المياه ولا المواصلات".
لتتناول أسرة مكونة من أربعة اللحوم الحمراء لمرة واحدة أسبوعيًا تحتاج شهريًا إلى 1600 جنيه. وحال تناول الدواجن 4 مرات أسبوعيًا تحتاج 640 جنيهًا، بفرض شرائها في كل مرة دجاجة زنة 2 كيلو جرام فقط، أما إذا تناولت الهياكل والأجنحة وخلافها فتحتاج 200 جنيه شهريًا، وإذ تناولت 8 بيضات مرة واحدة أسبوعيًا فإنها تحتاج نحو 192 جنيهًا شهريًا.
الخدمات تزيد الأعباء
قرر جهاز "تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك" رفع أسعار شرائح استهلاك الكهرباء الجديدة التي تصل إلى سبعة شرائح متصاعدة حسب الاستهلاك، بدءًا من 17 أغسطس، بالنسبة للعدادات مسبقة الدفع "الكارت"، بينما يبدأ التطبيق بالنسبة للعدادات القديمة من فاتورة سبتمبر الحالي.
اقرأ أيضًا: المصريون وبقايا الطعام.. الموت في وجبة منخفضة التكلفة
كذلك، رفعت الحكومة نهاية يوليو الماضي أسعار الوقود، ليزيد سعر لتر بنزين 80 من 11 إلى 12.25 جنيه، وسعر بنزين 92 من 12.5 إلى 13.75 جنيه، وبنزين 95 من 13.5 إلى 15 جنيهًا، أما السولار، وهو أحد أكثر أنواع الوقود استخدامًا، فشهد زيادة أكبر، إذ تقرر رفعه من عشرة إلى 11.50 جنيه.
في تكيفها مع ارتفاعات الأسعار المتتالية، اعتمدت "أسماء علي" بشكل أكبر أكثر على أجزاء الدواجن الأرخص مثل الأجنحة والهياكل بدلًا من شراء الدجاجة كاملة. تقول:" آخر مرة طبخت فيها لحمة في البيت كان تقريبًا في عيد الأضحى".
زوج "أسماء" عامل نظافة في إحدى شركات "الكير سيرفيس" لا يتعدى أجره 2000 جنيه، بينما يعتمد على إكراميات الزبائن (مبلغ مالي إضافي يقدمه متلقي الخدمة تقديرًا لجهود مقدمها)، الذين يستخدمون الحمامات التي يعمل بها. ولذا، فإن اللحوم لا تدخل بيته سوى عن طريق تبرعات مطاعم المول التجاري الذي يعمل به قبل إغلاقها.
لا شيء رخيص.. حتى الخضروات
تقول "أسماء": "المشكلة مش في اللحمة بس، في الخضار كمان. كيلو البطاطس بـ25 جنيه والطماطم بـ 25 جنيه والرز بـ 35 جنيه، يعني أكلة رز وبطاطس بمرقة عايزة مش أقل من 100 جنيه، يعني 3000 جنيه في الشهر وده لطقة واحدة بس (وجبة واحدة)".
اقرأ أيضًا: عروسة المولد.. مهرها غالي والمصريون "فقرا أوي"
كانت أوضاع الأسرة أفضل حينما كانت "أسماء" تعمل في تنظيف منازل المعارف مقابل 300 جنيه للشقة الواحدة، لكن ضغط الأوضاع الاقتصادية، قلل من الإقبال على خدماتها، حتى أصبحت موسمية مرتبطة فقط بالأعياد أو توضيبات نقل الأثاث ومغادرة المساكن.
وارتفعت أسعار الخضروات بنسبة 14.3%، والألبان والجبن والبيض بنسبة 2.1% خلال أغسطس، بينما تراجعت أسعار مجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 1.5%، بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
وتسببت ارتفاعات أسعار الخضروات في الضغط على الطبقة المتوسطة التي تهرب من عبء اللحوم بالطعام "القرديحي"، خاصة وأن كل شيء تقريبًا طالته موجة الغلاء من إيجارات الوحدات السكنية والمواصلات وخدمات المرافق.
طفل يدرس = أسرة تجوع
اضطر "بهاء رفاعي"، الذي يعمل موظفًا، إلى التوقف عن شراء اللحوم البلدية الطازجة واستبدلها بالمجمدة، على اعتبار أن الأخيرة أرخص سعرًا. يتناول وأسرته هذه اللحوم المجمدة مرتين أسبوعيًا، لكن أموره تتغير تمامًا مع بدء العام الدراسي، فالأعباء تزيد عليها تكلفة إعداد وجبات اللانش بوكس، ومستلزمات أخرى باتت ضرورية في المدارس.
اقرأ أيضًا: "اللانش بوكس".. وجبة المدرسة تلتهم من أخفوا فقرهم خلف الأبواب
يقول: "السنة الدراسية دي بتيجي بمصاريفها لوحدها. دروس خصوصية ومواصلات ومستلزمات مدارس. الدرس الخصوصي للعيل في أولى ابتدائي زاد من 50 إلى 70 جنيه للحصة الواحدة. كرتونة البيض بـ 180 جنيه، واللبن بـ 45 جنيه. التوفير صعب إنه يحصل غير في بند الأكل والشرب وفي أيام المدارس حتى الأكل والشرب مش نافع التوفير فيه".
تشهد سوق اللحوم الحمراء والدواجن ركودًا بالفعل منذ مطلع سبتمبر الحالي، مع بدء تحول المصريين إلى شراء المستلزمات الدراسية التي ارتفعت هي الأخرى، خاصة الحقائب المدرسية التي أصبح سعرها يتراوح بين 400 وألف جنيه.
قرر "رفاعي" قرر استبدال اللحوم المجمدة الكاملة بمفروم مجمد. "المفروم وإن كان بنسبة دهون أعلى ومكونات تانية لا يعلمها إلا الله والجزار ممكن توفر لي شوية فلوس واهو يبقى برضه ما اتخليناش عن اللحمة اللي العيال نفسهم فيها"؛ يقول.
ركود سوق اللحوم دون انخفاض الأسعار
يقول هيثم عبدالباسط، رئيس شعبة القصابين باتحاد الغرف التجارية، إن أسعار اللحوم البلدي والمستوردة مستقرة منذ عيد الأضحى الماضي؛ فسعر البلدي يتراوح بين 400 و450 جنيه وفقًا للمنطقة، وكيلو المستورد في المنافذ 290 جنيهًا.
رغم جهود الحكومة لنشر منافذ بيع اللحوم في كل مكان وبيعها بأسعار مخفضة عن السوق بنسب تزيد عن 25%، لكن الأسعار لا تزال أعلى من قدرات العديد من فئات المواطنين، الذين باتوا لا يتناولون البروتين الحيواني إلا في رمضان والأعياد.
يضيف "عبد الباسط" أن سوق اللحوم يشهد ركودًا كبيرًا خلال الفترة الحالية، ليس بسبب الأسعار، ولكن لاقتراب بداية العام الدراسي الجديد، وشراء المستلزمات الدراسية من قبل الأهالي.
وكان يُفترض أن تتراجع أسعار اللحوم مع زيادة كميات الأعلاف المتوفرة في السوق، لكن المربين يشتكون حتى الآن من الأسعار، إذ يتراوح سعر طن العلف بين 20 و25 ألف جنيه، بينما يبلغ سعر طن الردة "نخالة القمح" نحو 11 ألف جنيه، رغم انخفاض قيمتها الغذائية للماشية.