“بواقي زيت السمك والفراخ”.. معدة المصريين مهددة بعمليات “بير السلم”

بالكاد بعد 16 ساعة من عمل مقسم على فترتين في شركتين تبقيانه على خيط للطبقة الوسطى مشدود باهتراء، استسلم “خالد” لطيف جميل، رأى نفسه فيه أحد العشرة المبشرين بالحد الأدنى للأجور. عدد المشتغلين بالقطاع الخاص الرسمي وغير الرسمي 12.6 مليون مشتغل وفق آخر تعداد اقتصادي في عام 2020، لا يطبق الحد الأدنى على أغلبهم بسبب تحايل الشركات.

 

“استنى يا أستاذ خالد لسه ليك بوا…”.

مشوش يتلاشى طيف الحُلم فجأة. منتهكة هي فترات الراحة في حياته، بتداخل مزعج للصوت الآتي من مكبر صوت عتيق يخترق “بير السلم”: “بوا… بواقي زيت القلي، بواقي زيت السمك، بواقي زيت الفراخ، بنشتري الكيلو بـ 33 جنيه”.

كانت فترة الظهيرة. بهدوء أغلقت “إيمان” باب غرفة “خالد”.. هرولت نحو دولاب المطبخ، انتزعت زجاجة من البلاستيك كبيرة، أغلقتها على الزيت بإحكام، وركضت.

ولوجًا من باب الشقة الذي تركته على مصراعيه، مرورًا بدرجات سُلم منزلها القديم، تلحفًا بإسدال صلاة غطت به ملابسها المنزلية، وصولًا إلى الشارع الضيق ثم “تروسيكل” ازدحم صندوقه بعبوات مختلفة الحجم، وبرميل عميق، تسلم المشتري صفقة بواقي زيت الطعام، وعادت المرأة المنتصرة حاملة غنيمتها.. 300 جنيه، تُمني “إيمان” نفسها بها: “نجيب فاكهة بقى للعيال النهاردة”.

يعود بناظريه إلى مفتاح إدارة التروسيكل، تنتفض الماكينة إيذانًا بالرحيل.. "اليوم يوم عمل طويل".
يعود بناظريه إلى مفتاح إدارة التروسيكل، تنتفض الماكينة إيذانًا بالرحيل.. “اليوم يوم عمل طويل”.

غادر بيته للتو. الشمس لم تظهر بعد. خليط ساحر فقط في السماء من ضوء الشروق، يرى “أحمد” من لوحته شذرات مشوهة بتداخل عشوائي للمنازل في حيه الشعبي بمنطقة بولاق في الجيزة. يُسلم ويناجي ربه، طالبًا رزق يومه، ثم يعود بناظريه إلى مفتاح إدارة التروسيكل، وتنتفض الماكينة إيذانًا بالرحيل.

“اليوم يوم عمل طويل.. لعلنا نعود بكمية معقولة من بواقي الزيت يرضى بها المصنع.. عايزين نسد مصاريف المدارس اللي هلت دي بقى”.

منهمكة على مكتبها بعد فرحة قصيرة بالمنصب الجديد رئيسة لمجلس إدارة نادي النيل الاجتماعي للأطباء البيطريين بالعجوزة، حارت الدكتورة شيرين علي زكي، بحثًا عن أوفر وأكثر طريقة ملائمة توفر بها الكميات الكبيرة المطلوبة من زيوت الطعام لتشغيل مطعم النادي.

كانت التكلفة لتدبير احتياجات المطعم من زيوت القلي وعملية نقلها كبيرة، تحتاج لدراسة جدوى معمقة، وقد فعلت “شيرين” التي تؤخذ منصبها الجديد على محمل الجد.

أجرت استبيانًا بين أصحاب المطاعم التي تتعامل معها في نطاق منطقتها السكنية بحي الهرم في الجيزة، وقد أجمعوا على مورد وحيد يتعاملون معه. اتصلت الدكتورة شيرين بهذا المورد.

– ألو.. شركة كذا

— أيوة يا فندم مع حضرتك

– بسأل عن الزيوت كنت عايزة كميات ممكن أعرف النوع والمصنع ايه لو سمحت؟

— الزيت اللي عندنا أولين النخيل معاد تدويره هيوصل لحضرتك في جراكن بلاستيك الواحد 20 كيلو هتحتاجي بس تنقليها لجراكن جديدة عشان لو بتوع التموين عدوا على المحل بتاعك ما تحصلش لكم مشكلة بس هو زيت نضيف واسألي عننا قبل ما تشتري

تثبت الدراسات الحديثة أن الاستهلاك المستمر للزيت المسخن بشكل متكرر يرفع من ضغط الدم ومستويات الكوليسترول الكلي
تثبت الدراسات الحديثة أن الاستهلاك المستمر للزيت المسخن بشكل متكرر يرفع من ضغط الدم ومستويات الكوليسترول الكلي

اقرأ أيضًا: هل تستطيع الحكومة إجبار القطاع الخاص على تنفيذ الحد الأدنى للأجور؟

بواقي زيت.. كيف تعود إلينا؟

تعلم الدكتورة شيرين بحكم خبرتها العلمية أن الأكسدة الحرارية الناتجة عن التسخين المتعدد لزيوت الطعام يؤدي إلى تكوين مجموعات وظيفية جديدة قد تكون ضارة بصحة القلب والأوعية الدموية.

وتثبت الدراسات الحديثة أن الاستهلاك المستمر للزيت المسخن بشكل متكرر يرفع من ضغط الدم ومستويات الكوليسترول الكلي، ويؤدي إلى التهاب الأوعية الدموية وتغيرات في الأوعية تهيئ لتصلب الشرايين.

الزيوت المستعملة يعاد تدويرها تحت أسماء تجارية
الزيوت المستعملة يعاد تدويرها تحت أسماء تجارية

ويعزى التأثير الضار للزيوت الساخنة إلى المنتجات الناتجة عن أكسدة الدهون خلال عملية التسخين، كما تشير إحدى الدوريات العلمية للمكتبة الوطنية الأمريكية للطب.

هذا لم تكن تدركه “إيمان”، فالدوريات العلمية حول أضرار الزيوت المستعملة، أبعد ما تكون عن اهتماماتها، كما أن مستوى اللغة الذي وفرته مدرستها الحكومية بالكاد يمنحها قدرة كتابة اسمها بشكل ثنائي، يشعرها بأن “ما شاء الله.. حلو أوي كده”.

“كنت مفكرة إن الزيت الباقي اللي ببيعه للتروسيكل ده بيستعمل في إنتاج الصابون.. بيقولوا كده دايمًا.. بس اللي اكتشفته كان حاجة تانية خالص”.

كتب “إيمان” عن تجربتها بصفحتها على “فيسبوك”: “يا جماعة خلوا بالكم.. أنا اشتريت إزازة زيت من قريب ولما رجعت بيها البيت وبدأت أقلي بيها ظهرت ريحة وحشة أوي واكتشفت إن الزيت مليان شوائب ومعاد تدويره.. خلوا بالكم وأنتوا بتشتروا أي منتجات زيوت.. الحكاية بتبدأ من الناس اللي بتشتري بواقي الزيوت المستعملة.. هيقولوا بنستعمله في إنتاج الصابون.. الكلام ده مش صح.. بواقي الزيوت دي بترجع لمعدة عيالنا تاني بالأمراض”، وأرفقت صورة بعبوة الزيت التي اشترتها إثباتًا لحديثها.

وتحذر الدكتورة سعاد الديب، رئيس جمعية حماية المستهلك، المواطنين من شراء أي عبوات زيت من علامات تجارية مجهولة أو لا تحتوي عبواتها على معلومات تسجيل واضحة لدى وزارة الصناعة، وتوضح أن هذه المنتجات الغذائية المعاد تدويرها تخضع لعمليات كيميائية محظورة لإزالة الشوائب منها بما يجعلها موادًا غير قابلة للاستهلاك الآدمي ويزيد من إمكانية أن تسبب أمراضًا خطيرة كالسرطان.

يحكي “أحمد” تاجر الزيوت المستعملة، أن غلاء أسعار زيوت الطعام يُسقط حذر الناس في استعمال المواد الغذائية، إذ تدفعهم الازمة الاقتصادية إلى المنتجات الرخيصة ولو على حساب صحتهم. والأمر لا يتوقف فقط عند الأفراد، بل أن أن مطاعم الفول والطعمية هي الأخرى باتت الآن تحتفظ بالزيوت المستعملة قدر الإمكان، بينما تلجأ إلى حيل تنقيتها من الشوائب، وإعادة استخدامها توفيرًا للنفقات.

مطاعم الفول والطعمية هي الأخرى باتت الآن تحتفظ بالزيوت المستعملة قدر الإمكان
مطاعم الفول والطعمية هي الأخرى باتت الآن تحتفظ بالزيوت المستعملة قدر الإمكان

ويضيف “أحمد” أن هذا التغير في سلوك المستهلكين وإن كان يؤثر عليهم كتجار صغار، فإن الوضع مختلف مع التجار الكبار، الذين يشترون الزيوت المستعملة من مصانع إنتاج الشيبسي في منطقة العاشر من رمضان بالشرقية، التي بدورها تبيعه لمطاعم الفول والطعمية، ومن ثم إلى المستهلك الذي يتغاضى عن جودة الطعام في مقابل بقاء سعر ساندوتش وقرص الطعمية عن حدوده الممكنة دون ارتفاع جنوني يشبه باقي السلع الغذائي.

اقرأ أيضًا: المصريون وبقايا الطعام.. الموت في وجبة منخفضة التكلفة

وقد شهدت أسعار مجموعات الزيوت والدهون ارتفاعات متتالية، بنسبة (45.9%) في شهر مايو 2022 مقارنة بشهر مايو 2021، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بينما واصلت ارتفاعها لتصل إلى نسبة 29.9% على أساس سنوي خلال شهر أبريل 2024، مقارنة بشهر أبريل 2023.

بواقي زيت مستعمل.. الموت سائلًا

تنقسم الزيوت المستعملة إلى نوعين رئيسيين: الأول هو الزيت المستخدم في مصانع الشيبسي والمقليات، والذي يتمتع بجودة أعلى من النوع الثاني، الذي يأتي من بقايا زيوت القلي المستخدمة في المنازل والمطاعم والفنادق.

وتشير التقارير إلى أن بعض مصانع “بير السلم” تعيد تدوير النوع الأول عن طريق تنقيته وفلترته من الشوائب وإزالة رائحته وطعمه باستخدام مواد كيميائية، مما يعيد له خواصه الفيزيائية. ومع ذلك، لا يمكن لهذه العمليات إصلاح السلسلة الكيميائية للزيت، التي تتفكك بعد الغليان للمرة الثالثة، ثم يتم تعبئة الزيت في عبوات بلاستيكية ويوجه إلى بعض المطاعم والمصانع، كما يوضح اللواء الدكتور ماهر معروف، استشاري صحة وسلامة الغذاء.

ويضيف “معروف”، في تصريحاته لـ “فكر تاني”: الزيوت المعاد تدويرها غالبًا ما تكون مليئة بالشوارد الحرة، وهي ذرات أو جزيئات تحتوي على إلكترونات غير مزدوجة. عندما تدخل هذه الشوارد إلى جسم الإنسان، لا تستطيع الإنزيمات وعصارة المعدة امتصاصها وتحويلها إلى كتل دهنية. وبدلًا من ذلك، تلجأ هذه الشوارد إلى تكسير خلايا الجسم للحصول على العناصر المفقودة لتعويض العناصر المفقودة نتيجة لتفكك السلسلة الكيميائية للزيت. وهذا قد يؤدي إلى قتل الخلايا وإضعاف الجسم، مما يعزز احتمال ظهور أورام سرطانية على المدى الطويل.

احنا بنتقي الله في شغلنا

بدأ “أحمد”، البالغ من العمر 38 عامًا، مسيرته في جمع زيوت الطهي والأولين المستعملة قبل عامين.

“في البداية، كنت ببيع الزيوت اللي بجمعها لشركات صناعة الصابون. بس جت لي فرصة شغل جديدة في شركة متخصصة في تجميع الزيوت، باخد فيها حوالي 3 جنيه لكل كيلو بجمعه. الزيوت دي اللي اعرفه إنها بتتباع تاني بأسعار توصل لـ 40 ألف جنيه للطن بره مصر.. بتروح في تانكات ضخمة تركيا وفرنسا”.

الزيوت دي اللي اعرفه إنها بتتباع تاني بأسعار توصل لـ 40 ألف جنيه للطن بره مصر.. بتروح في تانكات ضخمة تركيا وفرنسا
الزيوت دي اللي اعرفه إنها بتتباع تاني بأسعار توصل لـ 40 ألف جنيه للطن بره مصر.. بتروح في تانكات ضخمة تركيا وفرنسا

يدافع “أحمد” عن نفسه في مواجهة ازدياد وعي الناس عبر وسائل التواصل بمخاطر الزيوت المستعملة وإعادة تدويرها، فيقول: “أنا عن نفسي ما أقبلش اتهامي بإني بجمع الزيت المستعمل لأماكن بتعيد بيعه للناس تاني.. أنا بتقي الله عشان عندي عيال بخاف عليهم.. بتعامل مع مخزن أنا متأكد أنه الزيت اللي بياخده بيروح لصناعة الصابون أو للتصدير بره لصناعة الوقود الحيوي.. وأنا واللي زيي نتمنى الحكومة تهتم بالصناعة دي وتساعدنا نجمع لها الزيوت دي بأسعار معقولة.. دي تجارة كويسة جدًا”.

الزيوت المستعملة، التي يتم جمعها من المطاعم والفنادق والمصانع عبر السريحة كما يحب “أحمد” أن يُطلق عليه وعلى زملائه، تُخزن في براميل زرقاء بمخزن يحتوي على كميات كبيرة من الزيوت، يشتريها تجار الجملة بأسعار تتراوح بين 30 و33 ألف جنيه للطن، ثم تُنقل بشاحنات ضخمة إلى نحو ثماني شركات لصناعة الصابون والمنظفات في محافظة الدقهلية، بالإضافة إلى شركات تُصدرها إلى أوروبا لصناعة الوقود الحيوي.

هذا ما يؤكد “أحمد” ويصادق عليه تاجر الجملة “أيمن”، الذي يضيف: “لما بنشتري الزيوت المستعملة من مصانع الشيبسي، بيضيفوا عليها مادة الفينيك، وده بيخليها غير صالحة لإعادة الاستخدام في القلي والطبخ، وده بيخلي تكريرها وتبييضها غالي أوي، وعشان كده احنا مضطرين أصلًا لاستخدامها في صناعة الصابون والمنظفات أو تصديرها لصناعة الوقود الحيوي.. ده بالنسبة لنا مربح أكتر.. جايب همه من الآخر”.

ومع ذلك، فإن حديث “أيمن” وأحمد” يتصادم مع الواقع المعاش بين المواطنين الذين خاضوا تجاربهم مع الزيوت المستعملة بعد إعادة تدويرها، وفق روايات “إيمان” وغيرها، التي تؤكدها حملات الأحياء والتموين ضبطًا لمصانع غير مرخصة تُدار في إعادة إنتاج الزيوت مجهولة المصدر.

تأثرًا بهذا الوضع، أصدرت الدكتورة شيرين زكي قرارًا بمنع الأطعمة المقلية في مطعم نادي النيل الاجتماعي للأطباء البيطريين، واستبدالها بالمشويات. “هكذا أضمن صحيًا” تقول، بينما كتبت عدة منشورات على مجموعتها الفيسبوكية “جت في اللقمة“، تحذر من الزيوت المستعملة، لكنها تعرضت للهجوم من البعض ومحاولات تكذيب، فدعت متابعيها عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى إضافة البوتاس إلى الزيت المستعمل للحيلولة دون إعادة استخدامه للاستهلاك الآدمي. وقد لاقت هذه الدعوة استجابة من بعض المتابعين، لكن السريحة الذين يشترون الزيت رفضوا أخذه منهم، بحسب ما تحكي الطبيبة البيطرية لـ”فكر تاني”، داعية ربات المنازل إلى الاتصال بالأرقام المخصصة لوزارة البيئة أو حملة “جرين بان” كجهة موثوقة لبيع الزيت المستعمل لهم والحصول على آخر جديد بدلًا منه، أو استخدامه لتصنيع الصابون بأنفسهن.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة