“العدودة”.. إيه اللي جاب الحِزن لك يا آمنة؟

“جابوا الجديد.. ما تقوم يا نايم/ لبس الجديد.. يغيبك دايم / جابوا الجديد.. ما تقوم يا نعسان / لبس الجديد.. يغيبك لزمان”

“كان ظلامهن كاف لإغراق عز الضهر.. يرتدين السواد حتى ملابسهُن الداخلية. يدهنون جدران المنازل بلون الحزن في بيت المتوفى. حتى الطيور البيضاء من بط وأوز، يلقين عليها مسحوق الزهرة الزرقاء، فتحال إلى غامق اللون الكئيب بؤسًا”؛ تصف مروة العريني، الصعيدية في منتصف الأربعينيات، بنظرة هادئة، وكلمات عامية بسيطة سلسلة، تقطعها أحيانًا بلهجة جنوبية رنانة، كيف هو “العديد/ العدودة” في صعيد مصر طقسًا يحفظ للموت هيبته.

 

حزن النساء وقت الموت له طقوس وعلامات
حزن النساء وقت الموت له طقوس وعلامات

تخرجت “العريني” في كلية التربية الرياضية، تعمل مديرة علاقات عامة بأحد الإدارات التعليمية، وهي سيدة حازمة وأم لثلاثة من البنات، لها نبرة ثابتة لا تتغير إلا قليلًا لتُعبر عن رفض أو استهجان وسخط في بعض الأحيان.

“كانت أول الحاضرين بعد إعلان وفاة أحدهم، رأيتها تفترش الأرض ثم تبدأ في “تعديد” صفات المُتوفي بأبيات شعرية تُلقيها بالعامية، لها وزن وقافية ونغمة حزينة، تُلطخ وجهها بتراب الأرض، تتمايل يمينًا ويسارًا وهي تبكي وتنوح على من راح لخالقه”.

تكره “العريني” هذه المشاهد وإن اعترفت بأصالتها في ثقافتها المصرية وراثة عن أجداد هذه الأرض.

اقرأ أيضًا:“شهرزاد”.. ملكة الحكايات المُلهمة

تأتي إلى المآتم والجنازات تمارس مهمنتها المتوارثة في الأغلب، ثم في نهاية اليوم، يمنحها أهل المُتوفى أجرها: طعامًا أو أموالًا. هذه هي المعددة، وهي تختلف عن “المِشلشلة” التي تمارس طقسًا تكميليًا للعديد، وفق “العريني”.

فن العدودة يعود إلى مصر القديمة، ويرتبط في صورته بالنساء كأول من استخدمن العويل
فن العدودة يعود إلى مصر القديمة، ويرتبط في صورته بالنساء كأول من استخدمن العويل

“في منتصف دائرة من المتشحات بالسواد، يلطمن على خدودهن ولولة، تجلس المِشلشلة، مُمسكة في يديها مجموعة من الشيلان السوداء اللاتي جمعتها النساء معًا على شكل دائرة”.

انقرضت هذه العادات الآن ولم تعد موجودة، بينما لا تزال في الحكايات والأثر تحمل الذكرى؛ بحسب “العريني”.

العديد كأصل مصري

“من غيبتك قلبي عليك دايب / لاقياك من دون الشباب غايب / من غيبتك قلبي عليك عيّان / لاقياك من دون الشباب عدمان”.

يرجع فن العدودة إلى مصر القديمة، ويرتبط في صورته بالنساء كأول من استخدمن العويل والنواح للتعبير عن أحزانهن، كما يظهر في أنشودة “مانيروس” للمؤرخ اليوناني هيرودوت، والتي تصور النساء يؤدين الأغنيات الحزينة في الطقوس الجنائزية الخاصة بوفاة “مانيروس” الابن الأوحد لأول الملوك المصريين، ندبًا لموته المبکر.

هذا الأصل المصري القديم لفن “العديد/ العدودة” في صعيد مصر يؤكده أيضًا الكاتب والباحث الموسيقي، كريم جمال.

يقول لـ فكّر تاني: “التعامل مع الموت بتلك القافية وهذا الإيقاع في النُوَاح هو تُراث مصري أصيل لا نظير له في المنطقة العربية. ورغم تطور صياغته عبر العصور إلا أنه حافظ على جوهره، ما يجعله امتدادًا لفكرة فرعونية تطورت مع الزمن.

اقرأ أيضًا:شخلعة.. “لأن كل الأجساد تستحق الاحتفاء بها”

سبب تراجع “العديد”

“شهد هذا الفن تحولات واضحة عبر العصور القبطية والإسلامية، لكن تطوره للشكل الحالي قد يعود إلى العصر المملوكي. ورغم استمراره حتى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلا أنه بدأ في الاندثار مع تحولات الحياة المدنية بعد أحداث يوليو 1952 وبدأت مهنة المعددة في المآتم تتلاشى بعد فترة السبعينيات، ثم مع الصحوة الإسلامية في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، اختفى هذا الفن تمامًا بسبب تعارضه مع القيم الجديدة التي روجت لها هذه الصحوة”؛ يقول جمال.

في بداية السبعينيات ظهر ما يُعرف بـ “الصحوة الإسلامية” التي عبر عنها الدكتور علاء بكر في كتابه “الصحوة الإسلامية في مصر في السبعينيات”، حيث أشار إلى أن بدايتها كانت مع الحركة الطلابية عامي 71 / 72، في كلية طب القصر العيني، وسعت إلى تعريف الشباب بأحكام الدين والحلال والحرام، ثم انتشرت بعد ذلك في جامعات مصر، وتطورت لتدخل في كل مناحي الحياة.

“غيرت وجه الحياة في مصر بشكل جذري، وأدت إلى اندثار كثير من العادات الشعبية المتوارثة عبر الأجيال، ورغم أن شيوخ الأزهر كانت لهم تحفظات على انتشار مثل هذه الثقافات -الوهابية- إلا أن تأثيرهم لم يكن بالقوة التي أحدثتها الصحوة السبعينيات”؛ بحسب الباحث كريم جمال.

كيف عالجه الفن؟

رغم أن بعض الأعمال الفنية قدمت “العديد” باعتباره جزءًا من المشهد الاجتماعي، إلا أنها وظفته باعتباره سلوك مرفوض.

الشيخ إمام
الشيخ إمام

في فيلم “الشيخ حسن” إنتاج 1954 – مثلًا – تم تصوير “العديد” في مشهد كامل، لكن أنهى مخرج العمل هذا المشهد بأنه من عادات الجهل التي يجب التنفير منها، فغاب عنه التقدير الفني الذي تغافل عن هويته كفن شعبي.

“عيني عليه ساعة القضا / من غير رفاقة تودعه / يطلع أنينه للفضا / يزعق ولا مين يسمعه / يمكن صرخ من الألم / من لسعة النار ف الحشا / يمكن ضحك / أو ابتسم / أو ارتعش/ أو انتشى / يمكن لَفَظ آخر نفس كلمة وداع”.. جيفارا مات

يُحفظ الفن بنقله عبر الأجيال، كما يرى جمال، الذي يضيف في حديثه لـ فكر تاني “لعل العمل الوحيد الذي ظهر فيه التأثر الواضح بشكل العديد المصري القديم هو أغنية ‘جيفارا مات’ للراحل أحمد فؤاد نجم والتي غناها الشيخ إمام”.

العديد.. العابر للحدود

“نسوة يلبسن السواد. يضربن بأيديهن صدورهن المكشوفة. ينتحبن ويلطمن ويبكين. يُلطخن وجوههن بالطين ويرتدين ثيابًا رثة لا لشيء إلا لكسب المال. نسوة عاديات يعشن كعيش باقي النساء، لهن عائلات وأبناء وأزواج، يأكلن ويشربن وينمن. لا يفرق بينهن وبين الباقية إلا عدم انقطاع دموعهن وصرخاتهن”.. من كتاب “حاجات قديمة للبيع” للكاتبة منى عبد الوهاب.

تعود منى بجذور فن العدودة إلى الحضارة المصرية القديمة، مشيرةً إلى نقوش واحدة من البرديات توضح نساءً يسرن إلى جوار الميت في الجنازات، يلطمن وجوههن، وتغمر الدموع وجناتهن، ما يعكس أصولًا عميقة لهذا الفن في الثقافة المصرية.

و”المعددة” هي تلك السيدة التي تساعد أولئك الذين لا يستطيعون التعبير عن حزنهم بصورة طبيعية أثر الصدمة، حيث تستخدم كلمات مؤثرة وأداء حزين لتحفيز المشاعر المكبوتة لديهم، بحسب تعريف منى عبد الوهاب.

ترى منى، في حديثها لـ فكر تاني، أن “العدودة” لم تندثر بشكل كامل حتى الآن وأصبحت مقتصرة على بعض القرى والنجوع في الصعيد، وعلى العكس من ذلك تشير إلى انتقاله عبر الحدود إلى بلدان وثقافات أخرى، مثل: الصين، وإيران، والهند، وإيطاليا، وإن كان يتخذ أشكالًا مختلفة، لافتةً إلى أنه في بعض الدول مثل بريطانيا، تحول إلى مهنة تُدر أرباحًا كبيرة.

وفي وصفها للعدودة تقول منى عبد الوهاب: “هو أغنية جنائزية مؤلمة ترددها المعددة على الميت، وهو نوع من التعبير الشفهي يختص به النساء وحدهن. وأبرزته بعض الأفلام المصرية الشهيرة مثل “الهروب” و”عرق البلح”، كما أدت الفنانة كوثر رمزي دور المعددة في فيلم “طيور الظلام”.

ورغم اعترافها بأن اختفاء مهنة المعددة مرتبط بتطور التكنولوجيا والوعي المجتمعي، كمهن مثلها مثل السقا وصانع الطرابيش، تقول منى: “في الماضي، كان من الطبيعي أن تشهد جنازة تشارك فيها نساء يبكين ويندبن الميت، لكن اليوم، أصبح هذا الفعل غريبًا بسبب انفتاحنا على ثقافات أخرى”.

وتضيف منى أن الصحوة الإسلامية في السبعينيات كان لها دور كبير في اندثار العديد من الفنون الشعبية، وليس العديد فقط. ورغم ذلك، تظل بعض المناطق في مصر، خاصةً في الصعيد، متمسكة بجذورها الثقافية والفنية، مثل فن التحطيب والموال.

وترى منى أن المدن الكبرى كانت الأكثر تأثرًا بالصحوة الإسلامية، بينما ظلت القرى والنجوع أكثر تحفظًا على تقاليدها القديمة.

“كُن يجلسن الواحدة جنب الأخرى، متفرقات قليلًا فيُشكلن دائرة، ترفع إحداهُن يديها في الهواء وتبدأ في العديد، وبنغمة حزينة وقافية تسرد الصفات، فتُغني واحدة منهن عن محاسن المتوفي، تُدندن لحنًا واحدًا أو اثنين، ثم حين تشعر بالتعب يبدأ صوتها في الخفتان، لتسمع في الخلفية نهنهة الحزينات وأصوات بُكائهن، حتى تبدأ الأخرى في غنائها، حتى إذا اندمجت في العويل، تبدأ الصُراخ، فيصرخن جميعًا معها. هو واجبًا يُقدمنه في عزاءات القرية”.

“كان المشهد بالكامل كئيبًا وحزين، ويزيدون عليه بأصواتهن والعويل الذي لا ينقطع”، في قرية بهجورة بنجع حمادي، تجتمع النسوة في المآتم والأفراح، يقول صليب عياد: “يرقصن في الأفراح ويبكين في المآتم، وفي الحالتين يأتين لتقديم الواجب، ليست مهنة كما انتشرت قديمًا”.

صليب عياد الـ “نجعاوي” يعيش في القاهرة بعدما أنهى دراسته الثانوية، التحق بالجامعة ثم بدأ حياته بعيدًا عن حياة الجنوب، لكنه بعد مرور ما يقرب العشرين عامًا لم يتخلص من لهجته بعد، حيث يتحدث بها بين أصدقائه وفي جلساته الاجتماعية.
يذكر “النجعاوي” أنه لم يلتق بـ “مَعددة” بالأجر من قبل، لكنه في طفولته المبكرة، عرف أنهن يأتين في البيوت الكبيرة -بيت عمدة القرية- البيوت التي لا تعرف نسائها العويل، فتأتي المَعددة كي تؤدي هذا الدور. كان هذا مظهرًا من مظاهر الارستقراطية الصعيدية أحيانًا.
 

نساء متشحات بالسواد تبكين أثناء جنازة في المنيا بجنوب مصر تصوير: محمد عبدالغني – رويترز
نساء متشحات بالسواد تبكين أثناء جنازة في المنيا بجنوب مصر تصوير: محمد عبدالغني – رويترز
“انزلي يــاما القبر وطُلّي / تلقي تراب القبر على فُمي / انزلي يــاما القبر وشوفي / تلقي تراب على كتوفي”

تُشكل العدودة جزءً أساسيًا من تُراثنا، وهي نوع من الشعر المُنغم تؤديه النساء في الصعيد بعد وفاة أحدهم ويتميز هذا الفن بطول مساره اللحني وبطء إيقاعه،كما يعتمد على الأداء الفردي والجماعي للنساء دون استخدام أية آلات موسيقية. وغالباً ما يتم تأديته من إحدى قريبات المتوفي أو من قبل معددة محترفة تحفظ نصوص العديد.

“هي في الأساس تعبيرات شعرية تتميز بتأملاتها العميقة ودراميتها الحزينة، وهي مجهولة المؤلف، حيث تم تناقلها وتوارثها عبر الأجيال”..كما يشير الدكتور مصطفى جاد، عميد المعهد العالي للفنون الشعبية السابق وخبير التراث اللامادي باليونسكو.

وفي حديثه لـ فكّر تاني يُلقي جاد الضوء على الدور الحيوي الذي تلعبه المرأة المصرية، مؤكدًا أنها الحاملة الأساسية للتراث الشعبي عبر العصور، وبالنظر في مختلف جوانب التراث الشعبي، نجد أن المرأة تحتل موقعًا مركزيًا، بدءً من عادات دورة الحياة كالميلاد والزواج، وصولًا إلى الحرف التقليدية والمشاركة في الأعياد والمواسم، ففي كل هذه المناسبات، تلعب المرأة دورًا رئيسيًا في ممارسة هذا التراث والحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة.

يختلف “العديد” حسب المتوفي وطبيعة وفاته، هناك الشاب الصغير أو العروس التي ماتت ليلة عرسها أو الرجل المسن، لكل منهم نص خاص به.

اقرأ أيضًا:مريم حسين.. كتابة البنات في “السيرة قبل الأخيرة للبيوت”

فهناك نصوصًا تُعبرعن اللوم والعتاب، مثل: “لو كان بيـــدي كنت طلعتلك فوج / وقولتلك ايه ده اللي عملته يا جليل الذوق” ويؤكد الدكتور مصطفى جاد أن هذا العتاب ينبع من العشم الكبير الذي يسود بين أهالي القرى في الريف المصري.

وفي كتابه “الماء في التراث الشعبي العربي” اكتشف جاد خلال العمل عليه، بعض النصوص المرتبطة بالبحر، والتي تحتوي على نوع من الحوار الدرامي الذي يجعل المستمع يعيش في صورة سينمائية متكاملة.

ليجد نصوصًا مثل “يا ريس الغليون يا عم عثمان .. وشد حيلك طلع الغرقان / يا ريس الغليون يا عودة .. خرج الغرقان من الموجة”، التي تعكس الحوار بين المعددة وربان السفينة في محاولة لإنقاذ الغريق.

واستكمل الدكتور مصطفى جاد حديثه عن أهمية فن العدودة باعتباره جزء من التراث الشعبي المصري، مؤكدًا على ضرورة فهمه والتعمق فيه للحفاظ عليه وعدم تحريمه -كما يحدث مؤخرًا- دون أساس علمي أو ثقافي.

هناك العديد من الباحثين الذين تناولوا فن العدودة مثل الدكتور عبد الحليم حنفي في كتابه “المراثي الشعبية” والباحث كرم الأبنودي في كتابه “فن الحزن”.

اقرأ أيضًا:أنا لست بطلة..

وعن “أشكال العديد في صعيد مصر” للكاتب درويش الأسيوطي، يؤكد جاد  أنه واحد من أهم الكتب في هذا المجال بالإضافة إلى كتاب “كل يبكي على حاله” للدكتور أحمد مرسي، ويشير إلى أن تلك الكتب تُقدم رؤية معمقة حول فن “العديد” وأهميته.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة